من المهم النظر إلى الشاعر أمل دنقل باعتباره ليس فقط شاعر قصائد سياسية، بل إنه في العمق شاعر إنساني، على درجة عالية من الرهافة. كما أن تجربة المرض المرير التي مر بها قد قدمت وجها آخر من الوجوه الشعرية لأمل دنقل، وبالأخص في قصائد» الغرفة رقم8»، يقول في نص من تلك النصوص: في غرف العمليات /كان نقاب الأطباء أبيض /لون المعاطف أبيض /تاج الحكيمات أبيض /لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن /قرص المنوم , أنبوبة المصل /كوب اللبن /كل هذا يشيع بقلبي الوهن /كل هذا البياض يذكرني بالكفن /فلماذا إذا مت /يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد /هل لأن السواد /هو لون النجاة من الموت ،لون التميمة ضد الزمن /بين لونين استقبل الأصدقاء /الذين يرون سريري قبرا /يرون حياتي دهرا /وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة /لون تراب الوطن. في قصيدة في «الفندق» مثلا، تدهشنا هذه القوة التي يتحلى بها أمل دنقل في صناعة المشهد الشعري، أو في تركيبه على الوجه الدقيق، في هذا اللقاء العابر الصدفوي في غرفة الفندق المشتركة يلتقي الشاعر مع جندي الحرب المصري الأشوس الذي لا يكف عن ترديد حكايات البطولة الوهمية على الجبهة، لكن هذا الجندي الباسل سيكون الشخص الوحيد الذي يعرف الحقيقة، ويعرف أن هذه البطولات مجرد حزمة أوهام. قبل أن يخلع ساقه الاصطناعية، وينام، يكتب أمل دنقل ببراعة السينمائي: وحين ظن أنني أنام رأيته يخلع ساقه في الظلام مصعدا تنهيدة قد أحرقت جوفه. في قصيدة «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس» يعود أمل دنقل إلى قصة يوسف مع إخوته التي وردت في القرآن، وفيها يقرأ هذا الصراع الكنعاني القديم، بما في ذلك الخروج من فلسطين والذهاب في رحلة المنفى إلى مصر. يلجأ دنقل مرة ثانية إلى الرمز، إنه شاعر لا يمكن أن يحيا إلا بالرمز، هو زاده ومعينه لفهم «أسطورة الحاضر»، المتشابك مع أكثر من شراك، وأكثر من فخ. في هذه القصيدة تتحول القدس إلى امرأة اشتعل رأسها شيبا تنتظر فارسها الهمام، أو مخلصها، ولكنها امرأة مقهورة تعرف أن الرجوع محال. في هذه القصيدة كما في شعر أمل دنقل على وجه العموم، هناك ميل إلى نوع من الحس التراجيدي، يعززه فقدان الأمل في الشعارات التي رفعتها الأنظمة العربية، وعلى رأسها القوميون العرب، فلا الأرض تحررت ولا فلسطين عادت، ولا الفتى البعيد الذي تنتظره القدس عاد. يؤكد دنقل أن الذي يحرس الأرض ليس»الصيارفة» ولا أصحاب البنوك والمال، ولكنه قائد الجند، وما ضاع بالقوة لا يمكن ان يسترد إلا بالقوة. هذا هو دنقل شاعر ثائر، ورجل منخرط حتى العظم في هموم أمته العربية، إنه شاعر يملك حس السياسي، ويتفوق عليه، ولا يعتقد أن المفاوضات يمكن أن تقدم شيئا إلى القضية العربية، ولذلك يكتب ساخرا من البترول العربي ومن المفاوضات ومن مبادرات كيسنجر، إنه يخاطبه على هذا المنوال القوي: ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر! ليغفر الرصاص.. يا كيسنجر! «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس» عائدون؛ وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينة) يتقلب في الجب! أجمل إخوتهم.. لا يعود! وعجوز هي القدس (يشتعل الرأس شيبا) تشم القميص. فتبيض أعينها بالبكاء، ولا تخلع الثوب حتى يجئ لها نبأ عن فتاها البعيد أرض كنعان - إن لم تكن أنت فيها - مراع من الشوك! يورثها الله من شاء من أمم، فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف، إن الذي يحرس الأرض رب الجنود! آه من في غد سوف يرفع هامته؟ غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟! ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء - سوى الجبناء؟ ومن سوف يغوى الأرامل؟ إلا الذي سيؤول إليه خراج المدينة!!؟ (الإصحاح الثاني) أرشق في الحائط حد المطواة والموت يهب من الصحف الملقاة أتجزأ في المرآة.. يصفعني وجهي المتخفي خلف قناع النفط «من يجرؤ أن يضع الجرس الأول.. في عنق القط؟» (الإصحاح الثالث) منظر جانبي لفيروز (وهي تطل على البحر من شرفة الفجر) لبنان فوق الخريطة: منظر جانبي لفيروز،.. والبندقية تدخل كل بيوت (الجنوب) مطر النار يهطل، يثقب قلباً.. فقلبا ويترك فوق الخريطة ثقباً.. فثقباً.. وفيروز في أغنيات الرعاة البسيطة تستعيد المراثي لمن سقطوا في الحروب تستعيد.. الجنوب!