«إنني لا أعتقد أن الشاعر في قلبي تقاسم الكينونة مع القاتل في أعماقي. لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي، قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب لأنني كنت أدرك دائما أنه غير مسموح لي بأن أعيش طفولتي كما أنه من غير المسموح به أن أعيش شبابي، كنت أريد أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة». هكذا كان يردد الشاعر الكبير أمل دنقل، الخجول في علاقاته بالنساء، المعذب حتى النخاع، الذي تجرع مرارة الهزيمة عام 67 فجادت قريحته بكلمات جعلته في مصاف الشعراء الكبار.. تألم قبل وفاته وكتب تحت وطأة المعاناة أجمل قصائده. ولقد عاء إلى دائرة الضوء مؤخرا بمناسبة صدور « الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل» في شكل جديد. كتب مقدمة الكتاب الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح ويقول تحت عنوان «أمل دنقل..أحاديث وذكريات» لم تكن وفاة أمل دنقل مفاجأة لأحد من الأدباء في الوطن العربي. فقد كان كثير منهم يعيشون على أعصابهم قلقا وانتظارا لإعلان نبأ الوفاة، ويروي كيف كان يستقبل أمل بكاء محبيه عند زيارته في المستشفى قائلا: « لماذا تبكي؟ أتخاف علي من الموت إنها منيتي المفضلة، إنه الأمل الأخير، الطبيب الذي يتفوق دائما على أمهر الأطباء». يروي د.المقالح كيف كانت هزيمة يونيو 67 بداية الانعطافة الحقيقية لأمل نحو الشهرة ونحو الشعر، وفي الأيام الأولى للنكسة أو الهزيمة كان دنقل يقرأ قصيدة «زرقاء» قبل النشر وهي قصيدة جريئة أكدت خطواته على طريق الشعر، وكانت عنوان لأهم دواوينه «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» وبدأ هذا الديوان بمقطع يلخص بمرارة خيبة الأمل والشعور بالعجز إزاء مختلف أشكال الإحباط في الواقع العربي المعاصر يقول: « آه .. ما أقسى الجدار عندما ينهض فى وجه الشروق ربما ننفق كل العمر..كى ننقب ثغرة ليمر النور للأجيال.. مرة ربما لو لم يكن هذا الجدار ما عرفنا قيمة الضوء الطليق» ثم نشر قصيدته وجعلها بعد ذلك عنوانا لديوانه الأول، كما قرأها في أكثر من منتدى شعري، وفي ما تبقى من عام 67 وإلى أوائل السبعيات كانت القصيدة على كل لسان، فليس قبلها قصيدة وليس بعدها قصيدة نالت ما نالته من الشهر والذيوع، فقد ارتبطت بالجرح القومي الأكبر. يقول فيها: « أيتها العرافة المقدَّسةْ .. جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ. أسأل يا زرقاءْ .. عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء.. فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة ! عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !! أسأل يا زرقاء .. عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ ! عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟ كيف حملتُ العار.. ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار؟! ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة؟! تكلَّمي أيتها النبية المقدسة لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان .. تلعق من دمي حساءَها .. ولا أردُّها ! تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران ! ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها .. ولا احتمائي في سحائب الدخان ! ».. وتصل الشجاعة أيضا مداها في محاولته الجريئة فضح القيادة العسكرية المهلهلة، وقد استخدم عنصر التضمين الشعري كأقوى وأجود ما يكون الاستخدام، جاء بأبيات المتنبي في آخر قصيدته الغاضبة «من مذكرات المتنبي في مصر» يقول: « تسألني جاريتي أن أكثري للبيت حرّاسا فقد طغى اللصوص في مصر .. بلا رادع فقلت : هذا سيفيَ القاطع ضعيه خلف الباب . متراسا! ( ما حاجتي للسيف مشهورا ما دمت قد جاورت كافورا ؟ ) .. « عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ ؟ بما مضى ؟ أم لأرضي فيك تهويد ؟ « نامت نواطير مصر » عن عساكرها وحاربت بدلاً منها الأناشيد ! ناديت : يا نيل هل تجري المياه دماً لكي تفيض ، ويصحو الأهل إن نودوا ؟ عيد بأية حال عدت يا عيد ؟ كان وصف الشاعر الصعلوك يتردد كثيرا في الأوساط الأدبية المصرية كلما ذكر أمل دنقل وهذا الوصف يعد تحية كريمة لشاعر معاصر ينأى بنفسه عن الاقتداء بالشعراء المدجنين شعراء الحواضر والصالونات المعطرة والبدلات الأنيقة والسيارات الفارهة. وكما يؤكد المقالح كانت قصيدته «أغنية الكعكة الحجرية» حدثا في تاريخ الشعر السياسي في مصر وفي الشعر العربي بأجمعه وقد كتبها وسط مظاهرات الطلاب ومصادماتهم الشهيرة مع سلطة النظام عام 1972 ومنها هذا المقطع الذي يخاطب الشاعر فيه مصر التي ارتعشت يومئذ من خلال مظاهرات الطلاب وتململ الشعب: « اذكريني فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة لونتني لأني منذ الهزيمة لا لون لي غير لون الضياع قبلها كنت أقرأ في صفحة الرمل والرمل أصبح كالعملة الصعبة الرمل أصبح أبسطه تحت أقدام جيش الدفاع! فاذكريني كما تذكرين المهرب والمطرب العاطفي وكاب العقيد..وزينة رأس السنة اذكريني إذا نسيتني شهود العيان ومضبطة البرلمان وقائمة التهم المعلنة الوداع!» مر أمل دنقل بالإضافة إلى محنة الفقر والتشرد بمحنة التكفير وكانت قصيدته «كلمات سبارتكوس الأخيرة» واحدة من القصائد التي جعلت بعض الكتاب يشك في إيمانه ، والقصيدة تدعو إلى التمرد ضد الطغيان وتمجد دور العبد سبارتكوس الذي امتشق السيف في وجه العبودية وفي وجه روما العابثة بإنسانية الإنسان ومطلع القصيدة وهو الأكثر إثارة يقول: « المجد للشيطان .. معبود الرياح من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم" من علم الإنسان تمزيق العدم من قال "لا" فلم يمت، وظل روحا أبدية الألم!» ويفسر المقالح قائلا: المجد هنا، ليس للشيطان «إبليس» ولكنه للشيطان «سبارتكوس» ذلك العبد الشجاع الذي اشتاقت نفسه للحرية فقال "لا" في وجه "القيصر" وكانت النتيجة ان اسمه ظل على كل لسان وظلت روحه الأبدية الألم تزرع الشجاعة في نفوس العبيد وتدفع بهم إلى الصفوف الأولى من المواجهة، وإن قراءة متعجلة للقصيدة جعلت البعض يظن أنه يتحدث عن إبليس المطرود من رحمة الله ، وبذا فهو قد كفر وصار دمه حلالا . كان الشاعر في قصيدته يحاول أن يعلم الجماهير العربية المضطهدة أن تقول «لا» حتى وإن كانت العاقبة لا تختلف كثيرا عن عاقبة ذلك الثائر المعلق في مشنقة على مدخل المدينة الظالمة: « لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر فلترفعوا عيونكم إليّ لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ يبتسم الفناء داخلي .. لأنّكم رفعتم رأسكم .. مرّه!».