كثيرا ما وقفت أمام أحد تجار سْلْعْة الشمال كما يسميها المغاربة، فاستهوتك بعض مواده لثمنها البخس ولشكلها المنمق الجميل، وربما قد يزيد من تزيينها في عينك فن التسويق الذي يعتمده أغلب التجار عن طريق مدح السلع والتفنن في إظهار مزاياها. لكن هل فكرت يوما كيف تصل هذه المواد إلى جوار بيتك؟ وما المشوار الذي تقطعه من الشمال حتى تنتهي إلى أسواق بلدتك؟ وقد تكون ممن أعيتهم البطالة وقْلّة مَايْدَّار، فجال بخاطرك أن تمتطي الحافلة صوب تطوان أو الفنيدق وتتوكل على الله وتطرد عنك الزلط ولعنة الجيب الفارغ، خصوصا عندما تسمع أن بعضهم يربح المئات من الدراهم من هذه التجارة. التجديد تدعوك إلى رحلة متعبة في هذا الاستطلاع لتغوص بك مع المهربين في عالمهم ومعاناتهم ونكتشف بعض أسرارهم وأسرار سلعهم التي تستهويك، لكن، تيقن معنا منذ البداية أن ما خفي أعظم. "أسرة المهربين" كانت بداية رحلتنا من محطة المسافرين بالرباط القامرة في تمام الساعة الحادية عشرة ليلا، حيث ركبنا الحافلة الوحيدة التي ستنقلنا رفقة المهربين الصغار إلى مدينة الفنيدق المجاورة لسبتة السليبة، إحدى النقط السوداء لتهريب السلع في المغرب. حافلة تفتقد شروط الراحة، مقاعد مبتورة من أماكنها، وروائح كريهة تخنق الأنفاس، تنبعث من هنا وهناك، بعضها من أحذية أراح منها أصحابها أرجلهم، وبعضها من أفواه المخمرين، من بينهم المساعد الثاني للسائق الذي كان يجلس إلى الوراء، والبعض الآخر من دخان المخدرات والسجائر التي كان يتناولها شباب أعينهم تفيض من الاحمرار. بعد أقل من نصف ساعة من السفر توقفت الحافلة أمام إحدى محطات البنزين بمدينة سلا في انتظار أن يركبها فيلق من المهربين أغلبهم من النساء كانوا يخرجون من جوانب الأزقة. كان الناس ينادون بعضهم بعضا بالأسماء، كما الأمر بالنسبة للجابي مع المسافرين، وكأنهم أفراد أسرة واحدة أسرة المهربين. وما أن استأنفت الحافلة مسيرها حتى غط أغلب الركاب في نوم عميق كل على شاكلته استعدادا ليوم كله عراك مع رجال الجمارك، بعضهم قد أرخى رجليه من الجانب الأيسر للحافلة حتى كادت تصل إلى الجانب الأيمن منها. النزر القليل ممن امتطوا الحافلة من الرباط انتهت رحلتهم في مدينة تطوان ليركب بدلا منهم فوج كبير توجه إلى مدينتي الفنيدقوسبتة، معظمهم من النسوة. الضرب لمن عصى لدى وصولنا حدود مدينة سبتة السليبة في تمام الساعة الخامسة والنصف صباحا، ألفينا حركة منقطعة النظير للأفراد والسيارات. جيش من الرجال ينتظرون دورهم للدخول إلى المدينة، حاملين معهم جوازات السفر، يصطفون في صف طويل جدا ، وفيالق من النساء ينتظرن هن أيضا السماح لهن بالولوج، وسلسلة غير متناهية من السيارات بجانب هذين الصفين، وفي اللحظة ذاتها عشرات الأفراد، ممن ليس لهم جواز سفر، ينتهزون فرصة انشغال الشرطة بمراقبة المصطفين، ليتسلقوا الأسوار، أملا في الدخول إلى الممر المؤدي إلى المنطقة الحرة للمدينة السليبة دون جدوى. بعض النساء من اللواتي ينتظرن أدوارهن للدخول، أعياهن طول الانتظار داخل الصفوف فجلسن على الأرض وأيديهن على خدودهن، أما الأشخاص الآخرون ممن يوجدون خارج الصفين الكبيرين فيراقبون جيدا حركات رجال الشرطة وأيديهم مشدودة إلى الوراء لعلهم يتصيدون فرصة للانسلال، فيما يشكل آخرون، بالقرب من مدخل المدينة، سوقا صغيرة لبيع السلع التي تم تهريبها من مخازن مدينة سبتة، أما الباقون فيضعون حملهم من السلع المهربة فوق مرتفع بعلو عشرات الأمتار. يكون الواحد ممن اصطف عند مدخل المدينة مطالبا بأن يدلي بجواز سفره أكثر من مرة، أولاها لشرطة المدخل الأول، وثانيتها لشرطة المدخل الثاني، وثالثتها للشرطة الإسبانية عند المدخل الثالث، قبل أن يلج مخازن التهريب الواقعة عن يسارالأقواس المؤدية إلى داخل المدينة، بعد أن يكون قد اجتاز ممرا رابعا يتشكل من أسلاك شوكية مشدودة إلى ركائز حديدية، ممرات ضيقة تذكرك بمعبر إيريز الذي يعبره الفلسطينيون المتوجهون للعمل في الأراضي المحتلة، كما وصفه مسؤول بالجمارك كان يتحدث إلينا لحظة أن رافقناه في اتجاه مقر الإدارة المغربية. وبينما نحن منشغلون بالتقاط بعض الصور للمكان، استرعى انتباهنا صياح نسوة نزع الشرطي حزامه الجلدي لينهال عليهن بالضرب بهدف حملهن على الانضباط داخل الصفوف. لم يكن سلوك هذا الشرطي بدعا من عنده أو فعلا شاذا يتفرد به دون غيره، بل سلوكا يميز العديد من رجال الشرطة يلجؤون إليه بحسب البعض ممن حدثونا في الموضوع لجبر الأفراد على الانتظام، وكذا للحد من التسربات غير القانونية. وفي هذا الصدد أرانا أحد الشباب بعضا من آثار الضرب التي خلفتها أيدي الشرطة ذاك الصباح على جسمه، جروح في العنق وبقع زرقاء على القفى، ثم قال بصوت متحسر: «رغم أننا نتوفر على جوازات السفر التي تسمح لنا بالدخول بشكل قانوني، إلا أننا نتعرض بشكل مستمر للضرب دون مبرر». عاملون ضحايا ليس كل من أخذ مكانه في الصفين، سواء المخصص منهما للنساء أو للرجال، يكون بالضرورة من جماعة المهربين الصغار، بل نصف هؤلاء المصطفين يقصدون كعادتهم مدينة سبتة ليعملوا بها بشكل قانوني، ذلك ما أخبرنا به ثلاثة مواطنين بنائين لم يسعفهم الحظ لاجتياز الممر، فجلسوا في مكان ظليل فوق المرتفع المحادي للمدخل. ما أن رآنا أحد هؤلاء الثلاثة نصعد المرتفع حتى أسرع الخطى نحونا، وكأننا به يريد البوح بشيء ما، حسبناه في بادئ الأمر مهربا، لكن تبين لنا أنه يشتغل بناء، كان يرغب في الدخول إلى المدينة السليبة كعادته ليبحث عن قوت عياله، لكن طول الشريط الذي تؤثته أجساد البشر، وضعف المقاومة لديه حالت دون ولوجه المدينة السليبة، رغم أنه بكر في المجيء (منذ الساعة الرابعة صباحا). يقول هذا البناء «نتوفر على جوازات السفر التي تسمح لنا بالدخول إلى مدينة سبتة، لكن كثرة الأشخاص الذين يقصدونها لتهريب المواد التجارية يحول بيننا وبين الدخول إلى المدينة للعمل بها»، ويضيف زميله الأول، بعدما اقتربنا منه وأبى إلا أن نشرب معه كوب شاي: «لم نتمكن من الدخول إلى المدينة، فجلسنا في هذا المكان لنستريح بعضا من الوقت»، ثم زاد قائلا: «لا نستطيع ولوج المدينة إلا مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع بسبب زحمة الصف المؤدي إلى المدخل». مهربون رغما عن أنوفهم صعدنا المرتفع المحادي لمدخل مدينة سبتة، بعد أن قيل لنا إنه يشكل صمام الأمان بالنسبة للمهربين حتى لا يقعوا في قبضة رجال الجمارك، فلاحظنا كيف تحمل النساء والرجال على ظهورهم وأكتافهم وبين جنباتهم وفوق رؤوسهم وبين أيديهم أثقالا فوق أثقال من السلع المهربة التي لم يصادرها رجال الجمارك، أو صادروا جزء منها وترك الجزء الآخر، وعاينا كيف يتكلف هؤلاء عناء التنقل ما بين المخازن الإسبانية مصدر الخراب والمرتفع الأول، وكيف يتحملون صعوبة الهبوط من هذا المرتفع إلى السفح، حيث السوق الصغيرة لبيع بعض المهربات للوسطاء أو الشناقة بلغة المحترفين، أو في اتجاه الهضة الأقل ارتفاعا، حيث تستجمع معظم السلع التي ستسرب إلى العديد من المدن المغربية، ومن ثم معظم البيوت والمنازل، في غياب أدنى الشروط الصحية. مهربون من مختلف الأعمار، رجال ونساء وأطفال، بل شيوخ وعجائز يتصببون عرقا من آثارالأحمال الضخمة ووقع أشعة الشمس المحرقة. ثيابهم قد تبللت ووجوههم قد اسودت وظهورهم قد انحنت. استوقفنا بصعوبة بالغة، ولبضع ثوان، خمسة من النسوة وقد أحرقت وجوههن أشعة الشمس، وكن يسرعن الخطوات عند منحذر خطير خشية أن يلحق بهن رجال الجمارك فيصادرون مهرباتهن، سألناهن عن دواعي امتهانهن التهريب، فأجابت عجوز من بينهن، والعرق الكثيف يتصبب من على جبينها، «شْماشي نْعْمْلوا (ماذا سنفعل) .. العواول ( الأولاد) يسيبوك(يرمونك) في النار»، أما ثانيتهن، وهي امرأة في الأربعينيات من عمرها، فقالت وهي تكمل مسيرها: «طْرْفْ دْلْخبْزْ اللِّي جابْنا لْهْنا. لم تكن إجابة هاتين المرأتين كافية لنقل صورة حقيقية عن معاناة المهربين الصغار، وخاصة النساء منهن، فقصدنا امرأة اشتعل رأسها شيبا واشتد ظهرها انحناء، ترفع أثقالا كثيرة، لا يقدر على حملها إلا الراسخون في مهنة الحمالة، أخذنا عنها نزرا من هذه الأحمال علنا نخفف بعضا من معاناتها ولو للحظة قصيرة، ثم رافقناها إلى حيث توجد سيارة الأجرة التي ستنقلها صوب الوجهة المرغوبة. سألنا هذه العجوز ألم يكن من الأفضل أن تقر في البيت معززة مكرمة؟، فهي الأم والجدة، فردت بصوت حنين ونفسها تكاد تقبض منها من شدة التعب والعياء: «إه العكوز ديالي فالركنة والكراء على الظهر وبغيتني نجلس فالدار». توجهنا مرة أخرى صوب رجل في الستينيات من عمره، يضع على رأسه قبعة لتحميه من لفحة الشمس. كان الرجل يحمل بين يديه كيسين كبيرين استطاع الإفلات بهما من أيدي المراقبين، أقنعناه وما كاد يقتنع بالحديث إلينا فسألناه: ترى ما الذي أتى بك إلى هنا؟ فأجاب بعبارات قصار «قسوة الحياة ونفقة العيال»، ومضى يقول بصوت متعب: «لسيت هذه مهنتي الأصلية، فأنا فلاح لم أعد أقدر على تحمل تكاليف الحرث والزراعة، فهجرت الأرض وجئت إلى هنا لأكسب قوت العيش». وعن يسارنا كان يقف شاب في مقتبل العمر ينصت بإمعان إلى حديثنا مع الفلاح، وما أن انتهينا حتى أسرع بالقول وعيناه تكادان تفيضان من الدمع: «لقد صادر الجمارك بضاعتي المهربة ولم يتركوا لي إلا هذا الكيس الذي أحمله بين يدي»، متابعا قوله في غضب شديد: «لن أرجع لمثل هذا العمل أبدا، رغم أنني ولجته قبل شهر واحد تحت ضغط مصاريف الأبناء والكراء، وانسداد أبواب العمل، بعدما كنت في السابق مهيئ حلويات بإحدى المخبزات التي أقفلت أبوابها». وكلما عاودنا الصعود إلى المرتفع المتاخم لمدخل المدينة السلبية إلا واستوقفتنا مجموعة من الشباب، ممن وقع نظرنا عليهم، ملتمسة نقل مآسيهم المتكررة وعراكهم اليومي مع رجال الشرطة والجمارك، هكذا توجه أحد الشباب إلينا بالقول: «أكتبوا عنا وعن معاناتنا، إنهم يعتدون علينا ويظلموننا»، و»لا تدخروا جهدا لإنصافنا». مزابل الإسبان تفقدنا تلك الهضبة التي توجد على علو عشرة أمتار تقريبا من مكان اصطفاف مئات سيارات الأجرة، فعاينا عن قرب كيف يضع الرجال والنساء كما الشباب والأطفال أحمالهم من المهربات، وكثير منها مواد استهلاكية، في أماكن لا تقل وصفا عن مطارح للنفايات، وإن شئت فقل مزبلة الإسبانيين. علب للشكولاتا والحلوى، وركام من مواد التنظيف والتعطير، وأكياس من الأرز ولحوم المورتاديلا والكاشير، ورزم من الثياب، المستعملة منها وغير المستعملة، بل وقنينات الخمر أيضا ومبيدات محظورة دوليا، تخرج جميعها من بين جنبات أجساد المهربين المبللة عرقا، وأكياسهم الخضراء المحمولة على الأكتاف وبين الأيدي وفوق الظهور لتطرح على أرض ملوثة في عرضة لأشعة الشمس وغبار المارة. سلع تنتظر بيعها بعين المكان للشناقة أو نقلها عبر الطاكسيات إلى الأسواق الكبرى لمدينة المضيق التي تبعد عن سبتة بأربع كلومترات، أو إلى محطة المسافرين بالمدينة نفسها لتنقل ثانية إلى مدينة تطوان وباقي المدن المغربية الأخرى، خاصة الرباطوالدارالبيضاء، ومن ثم تدخل البيوت المغربية ليستهلكها المواطن. لم تكن هذه الهضبة المكان الوحيد الذي توضع فيه المواد المهربة، وإن كانت أكبر الأماكن على الإطلاق، بل رصدنا عشرات منها تتوزع هنا وهناك على امتداد المرتفع الكبير. رشوة وتحرش جنسي لم تسلم النساء في هذا المكان من وقع التحرشات الجنسية المتكررة على يد المراقبين الإسبان، كما لم يسلم المهربون ذكورا وإناثا من مغبة الرشوة، كما يحكي المتضررون. تقول إحدى المهربات: «هناك من رجال الجمارك الإسبان من يتحرش بالنساء ويتلمس أجسادهن» ، متابعة القول و»من النساء من يلجأن إلى ذلك رغبة منهن، فيما البعض الآخر يضطر إلى ذلك مخافة أن تصادر أمتعتهن المهربة»، وتزيد المتحدثة في وصف معاناة المهربات لتؤكد أن هؤلاء المراقبين «يسلم بعضهم النساء المهربات أرقام هواتفهم، ثم يرغمونهن على الاتصال بهم في نهاية النهار للقاء بهن، وإذا لم يستجبن لنزواتهم فلن يدخلن سبتة أبدا»، وتقص لنا المهربة ومضات من تجربتها بهذا الشأن، فتقول منذ أن صرت أرملة (طبعت عليها بعشرة الصبعين في ورقة الطلاق)، أحترم نفسي تضيف المتحدثة «فلا يعترض سبيلي أو يتحرش بي أحد..آخذ مكاني من صف الدخول فلا أخضع للابتزاز أبدا رغم منادة بعضهم لنا، وإذا حصل ومسني أحدهم فإنني أتشاجر معه»، وتختم المرأة حديثها إلينا بالإشارة إلى أن المراقيبين المغاربة «يتعاملون معنا بشكل جيد ما دمنا لم نثر الشغب». أما قضية ارتشاء بعض المراقبين فتجري بهذه المنطقة على لسان العديد من المهربين الصغار وهي عملية مشهورة باسم الفيفا. وهي قضية يؤكد البعض وجودها بشكل قوي، فيما ينفي الآخرون ذلك قطعا. يقول لنا أحد المهربين الشباب عند المرتفع، «كل يوم نكون مضطرين لمنح بعض المراقبين خمسة دراهم، وهو أمر صار عاديا بالنسبة إلينا»، ويضيف آخر، وهو يطلق ضحكات الاستهزاء، «ألا تعرف أن كل من أراد الدخول يجبر على إعطاء خمسة دراهم للمراقبين» إنهم يزيد المستجوب «يحملون في نهاية اليوم أكياسا بلاستيكية مليئة بوحدات نقدية من خمسة دراهم استجمعوها طيلة اليوم». غير أن مهربة أخرى، كنا نتحدث إليها في السوق الصغيرة لبيع السلع المهربة، فنفت نفيا قطعيا أن تكون قد سلمت المراقبين يوما ما خمسة دراهم ، وقالت «لم نعط أحدا من المراقبين خمسة دراهم قط، وما قيل لكم مجرد إشاعات وافتراءات. ويؤكد آخر أن الأمر حقيقة وأنه عاين «العديد من السيارات التي تجتاز المعبر إلى مدينة سبتة السليبة يسلم سائقوها خمسة دراهم لأحد المراقبين، فيتفنن كل من المعطي والمعطى له في تقديمها أو تسلمها». ويواصل قائلا: «توضع قطعة الخمسة دراهم داخل جواز السفر أو تثبت أسفله أو أعلاه بإبهام المعطي لتجد طريقها إلى المعطى له، الذي يمسك بجواز السفر وقطعة الخمسة دراهم معا فيراقب الجواز ويخفي النقود بسرعة فائقة». ترقب وحذر ووجوه مصفرة ما إن يكون المهربون الصغار قد أفلتوا من قبضة رجال الجمارك، حتى يبدأ شريط آخر من المعاناة، لكن هذه المرة مع ظروف نقل مهرباتهم على متن حافلات نقل المسافرين أو القطارات من المدينة السليبة باتجاه الأسواق المغربية. ترقب وحذر، خوف وضجر، من أن تذهب جهودهم هدرا، إذا ما حجز المراقبون في الطرقات، رجال جمارك كانوا أم رجال درك ملكي، أمتعتهم التي عرقوا من أجل تهريبها. كان الوقت ظهيرة عندما ركبنا حافلة ستنقلنا والمهربين من مدينة الفنيدق إلى العاصمة الرباط ثم إلى الدارالبيضاء. معظم المسافرين من النساء المهربات، وقليل منهم الرجال، بعضهن أخفين سلعهن تحت المقاعد، وبعضهن خبأن مهرباتهن في الرفوف، وأخريات وضعن حملهن في الحاويات. كل المهربين من النسوة والرجال يكونون مرغمين على دفع مقدار محدد من المال لمساعد السائق، بحسب ما يملك الواحد منهم من رزم، حتى يكفيهم المساعد مراقبة المراقبين على الطريق. ومن حسن حظ المهربين وسوء حظ الدولة والمواطنين في ذلك اليوم، أن استوقف المراقبون حافلتنا مرة واحدة طيلة المشوار، دون مراقبة تذكر. فقد قطعنا حديثنا إلى إحدى المهربات التي كان تروي لنا عن تجربة 16 سنة من المعاناة مع التهريب، لنشاهد كيف ينزل السائق من الحافلة ليتوجه نحو المراقبين ثم ليعود إلى الحافلة ثانية بسلام! لتعلو البشاشة وجه المهربين بعد أن اصفرت لبعض السويعات من شدة الخوف والتوجس. وفي أقل من خمس دقائق كانت الحافلة قد غادرت محطة المراقبة لتكمل رحلتها، ثم لنعود نحن إلى حديثنا المثير مع المهربة القنيطرية. تقول المهربة، وهي امرأة في الأربعين من عمرها لكن جسمها النحيل وشعرها الأشعت الأغبر كان يظهرها وكأنها عجوز في السبعين من عمرها، «خلال السنوات الأولى من تجربتي كنت أهرب ما قيمته حوالي 10 آلاف إلى 20 ألف درهم من السلع في الرحلة الواحدة، أما الأن فلم أعد أقدر سوى على تهريب ما قدره 2000 إلى 3000 درهم من السلع، بعد أن صادر المراقبون سلعي عدة مرات»، سألناها عما إذا كانت قد جربت العمل في غير التهريب، فقالت «بعد أن صرت مدينة بمبالغ مهمة للعديد من الأشخاص قررت أن أشتغل في أحد معامل توت الأرض كي أسدد ديوني، لكني غادرت هذا العمل بعد شهرين» لأنه تضيف المهربة «كان متعبا للغاية، وكنت حينها قد أصبت بأمراض مزمة كالأعصاب، جراء الخوف الذي كان ينتابني كلما اقتربت الحافلة التي كانت تحمل مهرباتنا من محطات المراقبة». وللمسؤولين والمراقبين معاناة بالأمس كان المارون يقصدون مدينة سبتة للعمل بها بشكل قانوني، لكن ابتداء من الثمانينات انتعشت ظاهرة التهريب، فاختلط العمال بالمهربين وزادت معاناة الشرطة والمراقبين في التمييز بين هؤلاء وهؤلاء، علاوة على مراقبتهم المهاجرين السريين. ويحكي لنا اثنان من المسؤولين، ممن تمكنا من الحديث إليهما بعد جهد جهيد، عن معاناتهما، ومعاناة زملائهم، اليومية في مطاردة المهربين والمهاجرين السريين، وكذا رصد المزورين. يقول الأول: «نرصد، على مدار اليوم كله حالات من تزوير جوازات السفر تبلغ في المتوسط ما بين 4 إلى 6 حالات، كما نلقي القبض على 4 إلى 10 مهاجرين سريين»، أما الثاني فقص لنا أن الشرطة لا تتوانى «في ملاحقة الشياب الذين يريدون الفرار من على الأسوار بشكل يومي»، منبها إلى «حالات العنصرية التي يظهرها الإسبانيون عند الحدود». التهريب: التخريب أطنان من المواد المهربة من إسبانيا والجزائر تعبر مدينتي سبتة ومليلية السليبتين، كما وجدة، في اتجاه باقي المدن المغربية، لتكبد خزينة الدولة خسارات من الرسوم الجمركية تناهز 5,7مليار درهم، وفقدان 45 ألف منصب شغل حسب تقديرات المسؤولين، ولتتسبب في أمراض تلحق المواطنين المغاربة بعضها مزمن كالسرطان مثلا. فمدينة سبتة وحدها تستقبل يوميا ما بين 4 إلى 30 ألف مغربي أكثر من نصفهم مهربون، حسب تصريحين مختلفين، أحدهما لسائق طاكسي والآخر لمسؤول في الجمارك. ولكم أن تتعرفوا على حجم المواد المهربة / المخربة من هذه المدينة المستعمرة من خلال التنبيه إلى أن أكثر من ألفي سيارة أجرة ذات اللون الأزرق تترد على مدخل المدينة لتنقل هذه المواد صوب مدينتي الفنيدقوتطوان ومن تم إلى معظم البيوت المغربية. ألفا رحلة في اليوم على الأقل، وفي كل منها تحمل عشرات الكيلوغرامات، وجميع ذلك يجري على مرأى ومسمع من رجال الشرطة والجمارك هناك، مما يطرح العديد من التساؤلات عمن المسؤول، هل المواطنون المهربون أنفسهم أم المسؤولون أم الإسبانيون أم جميعهم؟. إن معظم من استجوبناهم من المهربين وبائعي المواد المهربة أكدوا لنا وعيهم التام بأن ما يفعلونه يلحق الضرر بالاقتصاد المغربي، لكنهم بالمقابل حملوا المسؤولية لأصحاب القرار الذين لم يوفروا لهم، برأيهم، مناصب شغل تكفيهم شر المهانة والبطالة وقسوة العيش. يقول أحد المهربين الشباب، والضجر باد على وجهه: «الدولة كتشوف مصلاحتها في الضرائب وماكتشوفش مصلحة الشباب المعطل»، ثم يستدرك بالقول إن «الدولة محرافة ليها والشعب محرافة لو وواشنو غادي نعملو، الله غالب»، أما آخر فيؤكد بقناعة تامة : «نعم إن ما نقوم به يخرب البلاد، ونحن واعون بذلك»، لكن يضيف الشاب «إذا أقفلوا في وجوهنا هذه المنطقة فإن العديد من الأسر ستتشرد»، فيما مهربة في مقتبل العمر قالت لنا في استهزاء «على المسؤولين أن يفكروا فينا كي نفكر نحن في مصلحة البلاد». نريد البديل ثلاثة تجار ممن استقينا آراءهم في ظاهرة التهريب بأسواق مدينة الفنيدق، أكبرالأسواق المغربية التي تحوي المواد المهربة، أكدوا أن هذه المواد أضحت تدخل الأسواق بوتيرة منخفضة جدا خلال السنوات الأخيرة، نتيجة تشديد الحراسة في نقط العبور، ومنافسة الأسلعة المستقدمة من مدينة الدارالبيضاء. قال أولهم، وما كاد يفعل، إن «الرواج بهذه الأسواق قل كثيرا مقارنة مع السابق، بفعل منافسة السلع الآتية من البيضاء»، أما التاجر الثاني، وكان أكثر صراحة وانفتاحا علينا، قال إنه من قراء التجديد الأوفياء، فأشار هو الآخر، إلى أن التهريب «تناقص هذه السنة ب 30 إلى 40 بالمائة مقارنة مع سنة 2003»، مرجعا ذلك إلى «ارتفاع حدة الحراسة، وتأثير البضائع التي تهرب من ميناء البيضاء»، فيما بائع ثالث، استوقفناه عند قارعة الطريق، شكك في قدرة الدولة على توفير مناصب الشغل لتجار المواد المهربة قبل تفكيرها في إقفال أسواق المدينة، أما التاجر الرابع، الذي جلسنا إليه بمقهى يشرف عليها بالإضافة إلى محل للتجارة، فأكد أن التهريب تراجع ب70 في المائة مقارنة مع سنة ,2000 وقال إن ذلك راجع إلى «كساد التجار وضعف القدرة الشرائية للمواطنين»، ثم ختم حديثه إلينا بعبارات دقيقة: «إننا نشعر أننا نخالف القانون ونخرب الاقتصاد، لكن أين هو البديل»، إننا يزيد في التوضيح «نريد صناعة بديلة من حيث الجودة والثمن حتى تنافس السلع المهربة.. ولو أن المواطن المغربي وجد سلعة بهذه المواصفات لعدل عن شراء المواد المهربة إلى الأبد». محمد أفزاز عبد الله الرام