الممارسة غير الشرعية لطب الأسنان بالمغرب أو العبث في أفواه المغاربة مكي الأسنان سيدرك العابرون في اتجاه سيدي بابا عبر شارع إدريس الياموري، بين محطة الطاكسيات وسوق وجه عروس بمدينة مكناس أن الازدحام الحاصل أمام العيادة الكائنة قبالة مقهى الجزيرة، ليس الغرض منه فحص مجاني أعلنت عنه إحدى جمعيات المجتمع المدني، ولكن القصة وراءها رجل نال من الشهرة والثروة ما يدعو للبحث و السؤال، حتى لقب بمكي مكناس نسبة لمكي الصخيرات. قامة قصيرة لا تتجاوز المتر و النصف، بنية جسمانية ضعيفة تتجاوز الخمسين كيلوغرام بقليل، شعر مصفف بشكل يوحي بالنعمة، لكنة يمتزج فيها تصنع تمكانسيتمع جذور جبلية عميقة تأبى الاختفاء وراء الكلمات. اسمه الحقيقي بوجمعة لكن حيثما سألت عنه بالعاصمة الاسماعيلية لا يعرفه الناس الا بالدكتور ميلود مول السنان. سنه بين الاربعين و الخمس و الاربعين. تجيب الدريسية (اسم مستعار)، إحدى المستخدمات عند بوجمعة في مقهاه الذي اختار له هو الآخر إسم الجزيرة و هويتها البصرية مع بعض التحايل . (آه بغيتوا ميلود مول الجزيرة. هاهو جاي). تقول الدريسية : لم يعد ميلود فقط (طبيب) أسنان و لكن أصبح مقاولا في العقار و الفلاحة و الحمامات والتجارة والمخابز و هلم جرا. اللهم لا حسد تضيف. المعروف اليوم عنه هو ميلود الجزيرة. الدكتور الوهمي لم يلج باب المدرسة قط، يقول أحد الناقمين على بوجمعة و يضيف: بوجمعة رجل أمي يمارس المهنة دون أن يتخرج من جامعة أو أي معهد متخصص، فكيف يعقل أن يقدم رجل لم يدرس الطب على جراحة الأسنان و مداوات أمراض اللثة و الفم والتخدير وكتابة الوصفات الطبية واستعمال آلات تتطلب تكوينا طبيا و تقنيا لتشغيلها من قبيل السكانير والراديو. ولد بوجمعة بجبال تازة ثم هاجر إلى مكناس قبل أكثر من ثلاثين سنة. بعد أن توفي الوالد، باعت الوالدة آخر المعزات و شدت الرحال إلى مكناس حيث اكترت براكة بحي سيدي بابا، أحد أكبر وأفقر أحياء مكناس. تدرج بوجمعة بين العديد من أشباه المهن، باع الماء البارد بمحطة الحافلات، مساعد خياط، مساعد خضار، ليستقر به الحال عند الحاجة المكناسية، عندما التحق بوجمعة للعمل عند الحاجة كانت هي الوحيدة التي تملك محلا لصناعة الأسنان بحي السكاكين التجاري. هناك بدأ الحظ يبتسم للطفل بوجمعة الذي يروى أن الحاجة المكناسية هي من اقترح عليه تغيير الإسم لميلود بدل بوجمعة لأن هذا الأخير في نظرها أكثر إيغالا في البداوة. الحاجة تبحث عن متعلم يساعدها في التنظيف و الصيانة و بوجمعة يبحث عن حرفة يتعلمها تقيه مهانة بيع الماء بالمحطة أو مطاردة المخازنية له إذا ما استمر في بيع الخضر أو (تقرنيعة) المعلم الخياط ، إلتقت المصالح إذا و جعلت الحاجة من بوجمعة طفلها. أبان بوجمعة عن انضباط كبير و قدرة فائقة على حرق المراحل و استيعاب أبجديات مهنة الأسنان. يحكي بوجمعة عن هذه المرحلة من عمره بكثير من الإفتخار و الحنين، و يتذكر كيف كان يجعل من كل لحظة من لحظات تواجده بورشة الحاجة مناسبة للتعلم و التعرف عن طقوس عيش العائلات المكناسية (المتمدنة). كانت ورشة الحاجة هي المدرسة الكبرى التي تخرج منها ميلود أو بوجمعة ب(دبلوم) معلم أسنان ، بعد الحاجة انتقل بوجمعة للإشتغال هذه المرة بحي الروامزين لا باعتباره متعلما و لكن على أساس أنه ممتهن لحرفة الأسنان. حي سيدي بابا مدرسة اخرى انتمى إليها بوجمعة، فالحي الذي تأسس خلال فترة الإستعمار و كان عبارة عن مجموعة فيلات للمعمرين عرف غزوا واسع من البراريك الطينية بفعل توالي سنوات الجفاف على المغرب و ما صاحب ذلك من موجات الهجرة القروية، سيدي بابا لم يعد وطنا لبوجمعة و حسب، ولكن أصبح أيضا رصيدا تجاريا فضعف القدرة الشرائية و غياب ثقافة طبية عند أغلب ساكنة الحي، جعل كل من تألمه ضرس أو سن يتوجه صوب السي ميلود. بدأ الحلم يكبر و الخير يتدفق و لأول مرة بدأ بوجمعة يحس بأهميته في المجتمع السيدي باباوي منذ أن غادر جبال تازة التي تتقاسم الكثير من الشبه الجغرافي مع جبال تورابورا في أفغانستان. اشترى (مكي الأسنان) كلابا و كرسيا قديما يحكي عن جد النمل و شرع يسجل فتوحاته: السكارى و المعدومون و من لا يملك الدينار و الدرهم للطبيب، هؤلاء شكلوا أارضيته الأولى و زبنائه و مختبره. تدرج بوجمعة في مسالك العلم الكلابي و تخرج من مدرسة الشعوذة الطبية. تمكن بوجمعة من الحصول على بقعة ارضية ممنوحة من طرف الدولة في إطار محاربة السكن العشوائي بمكناس، حولها إلى عمارة من أربع طوابق، أقامت العائلة بالطوابق الثلاث العليا في حين اتخذ من الطابق السفلي عيادة لطب الأسنان. بدأت الحركة تدب و الزبناء أعدادهم في ازدياد و الطموح يكبر في ظل جهل مطبق بأن ما يفعله بوجمعة هو مهنة ينظمها القانون و يعاقب على امتهانها دون ضوابط علمية و قانونية وتنظيمية. تطورت الأمور و تنبه بوجمعة إلى دور التسويق و الإشهار في تحسين المدخول فاتخذ لذلك سكرتارية تنظم الدخول إلى الدكتور، كما اشترى بعض المعدات اللازمة لاقتلاع الأضراس و حفرها و ترميم ما اعوج منها، و إجراء الجراحات بل وحتى التجميلية منها خصوصا أن منطقة وجه عروس تعتبر حيا صناعيا يضم مجموعة من المعامل المتخصصة في النسيج و تشغل يدا عاملة نسوية مهمة مما دفع بالكثير منهن الى الإقبال على تعديل و تجميل أسنانهن بمجرد تحسن الدخل المالي . انتقل بوجمعة إلى مقر عيادة جديدة قرب عمارة بدر بباب الجديد، عيادة تتموقع بين أربع أحياء آهلة بالزبناء، عفوا، بالضحايا، سيدي بابا، الزرهونية، باب الجديد، وجه عروس. تمكن من تأثيث العيادة بأدوات يعجز حتى الأطباء الذين أمضوا فترة طويلة في العمل من اقتنائها، استوردها من إيطاليا، وهي عبارة عن أدوات جراحية تجاوزت مستوى قلع سن أو ضرس إلى ما هو جراحة و تجميل, يحكي رشيد وهو أحد الذين كانوا متعلمين عند الحاجة قبل بوجمعة و شاءت الأقدار ان يتحول إلى متعلم عند بوجمعة قبل أن يستقيل و يأسس هو الآخر عيادته الخاصة: آصاحبي هاذا راه خطار، يشرح رشيد كيف أن بوجمعة بعد ان اشترى أدوات التخصص الطبي في الجراحة و التصوير و الترميم و جهاز تسليط الأشعة ، تعاقد مع أحد الأطباء العسكريين المتخصصين في طب الأسنان و الذين يمنعهم الإنتماء للمؤسسة العسكرية من مزاولة التطبيب خارج المصحات العسكرية إلا بترخيص مسبق. استطاع بوجمعة أن يقنع الطبيب العسكري بأهمية الشراكة و مردوديتها . يقول رشيد: بدأ بوجمعة في مباشرة المرضى حتى إذا ما استعصى الأمر و تعقد، أو أحس بالخطر يحدق بالمريض، يلجأ بوجمعة لاستدعاء الطبيب العسكري للتدخل خصوصا أن المصحة العسكرية لا تبعد عن عيادة بوجمعة إلا ببضع دقائق بالسيارة. يضيف رشيد: هناك أمر أخطر من ذلك لا أفهمه، فبوجمعة يقول لزبنائه أنه يملأ ورقة العلاجات المقدمة من طرف منظمات الضمان و الإحتياط الإجتماعي و حول السر في ذلك يشرح رشيد أن هناك أطباء أسنان ليس لديهم زبناء و من أجل رفع مداخيلهم يلجؤون إلى التعاون مع بوجمعة مرغمين، طبعا مقابل عمولاتهم، و يضيف الأمور جد متشابكة لقد أصبح لبوجمعة شبكة من العلاقات تبدأ بمول (الضطاي) و تمر برجال أعمال و جامعيين و رجال سلطة. عيادة خمس نجوم ودبلوم (هذا من فضل ربي) بصوت أصيل تصحبه تقاسيم العود الذي أحبه المكناسيون، يشدو المرحوم الحسين التولالي على لسان أم الحربيطي التي أرسلها لتخطب له من إحدى العائلات. تسافر بك قطعة الملحون هاته في دهاليز تراث مغربي عميق، إذ تعدد الخاطبة مناقب ابنها عندما تقول: ..ولدي حجام و معروف في السوق.. كان هذا عندما كان الحجام مؤسسة إجتماعية لا يمكن تجاوزها في المجتمع، طبعا عندما كان هذا المغرب (ينعم في عسل الجهل و سمن التداوي بالشعوذة)، الحجام يقص الشعر و يؤهل الفرد ليكون جميلا مقبولا في المجتمع، الحجام يقوم بختان الاطفال و يؤهل الرجال للحفاظ على النوع البشري، الحجام كان طبيب اسنان، يقتلع المريض منها لينعم المغاربة بنوم هادئ. لكن الحجام كان شكله اكثر شعبية و منظره يوحي بالبساطة و الجهل و معظم أوقاته يقضيها في الاسواق الاسبوعية و هوامش المدن، لكن حجامنا العصري بوجمعة عكس هذه الصورة تماما، سيارة رباعية الدفع و اقامة فاخرة بالمدينة الجديدة و صحبة مع (النخبة): هذا التحليل تفضل به الفيلسوف عبد القادر. و عبد القادر هذا صديق قديم لبوجمعة نال دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية تخصص المسرح و انتهى الامر به مسيرا لقاعة بلياردو مع بيع السجائر بالتقسيط وإدمان النميمة ،السياسي منها و الاجتماعي، يضيف الفيلسوف عبد القادر تعليقه الساخر الذي يحاول معه ان يوظف ما تعلمه من تقنيات السرد و التشويق و التعليق اللاذع: الحمد لله أن الدكتور بوجمعة لم يقدم على ممارسة الختان كجزء من تخصصه و إلا كانت المصيبة التي سيتسبب فيها للمغاربة كبيرة. يقاطعه سمير أحد هواة النقاش مع بلع السجائر و رشف القهوة: الأمر يا أخي أكبر من أن يضحك، إن الخطورة التي يشكلها أمثال هذا المشعوذ على صحة المواطنين تستلزم تحرك الجهات الوصية على صحة و أمن المغاربة، لا أفهم كيف يتم الادعاء أن اجهزة الدولة تعلم كل شاذة و فاده في حين هذا البوجمعة يعيث في أفواه المغاربة فسادا، يضيف سمير بنبرة يمتج فيه الاحساس بالفهم مع شيء من الحقد الضامر لابن جيلهم الذي تحول الى مليونير، خصوصا داخل المجتمع السيدي بابوي الفقير. يتصور المتابع للنقاش الدائر بين سمير و عبد القادر أن محل عمل بوجمعة سيكون شبيه بالخيام التي تنصب في الاسواق الاسبوعية من طرف امثاله من ممتهني قلع الاضراس، لكن زيارة العيادة تصيب بالدهشة، فالزائر يجد نفسه أمام عيادة طبية من آخر طراز و بنفس المواصفات الجمالية, الواجهة مزينة بلوحة ضوئية بالأبيض و الاخضر مكتوب عليها باللغة الفرنسية طبيب أسنان مع إضافة الهوية البصرية المميزة لأطباء الاسنان، و طبعا أرقام الهاتف دون إغفال وضع إشارات للتشوير بعيدا عن العيادة لإرشاد الزبناء من بعيد. الصعود إلى الطابق الأول حيث العيادة لا يتطلب كثير عناء. تستقبلك المضيفة بابتسامة خفيفة، ثم تبادرك بطلب اسمك لإضافته إلى اللائحة التي تفتح كل صباح من أجل تنظيم الأدوار أو كما تسميه المستقبلة (خود آخيا النوبة، نوبتك آخيا أربع و عشرين)، قاعة انتظار أقل ما توصف به هو الاناقة: كراسي وثيرة من الجلد الاسود وضعت بشكل منظم، مكيف هواء من الحجم الكبير، تلفزة بلازما و طاولة زجاجية تتوسط القاعة وضعت عليها كومة من الجرائد والمجلات لتسهيل عملية الانتظار، و طبعا القراءة مجانية فالدكتور بوجمعة لا يؤمن بأن المعرفة لها ثمن. إطلالة سريعة على دفتر المواعيد والاستقبالات تصيبك بالدهشة، فبالأمس تمكن بوجمعة من معالجة ستين حالة بين تقليع سن أو ضرس أو تركيب فم أو معالجة السوسة أو استصدار صورة بالأشعة. أحد الذين كان ذات يوم مستخدما عند بوجمعة قدر المداخيل اليومية للعيادة المزورة بين العشرة ألف والخمس عشرة ألف درهم، في اليوم طبعا و معفية من أي ضريبة.. ستون زبونا في اليوم، ستة أيام في الاسبوع، إحدى عشر شهرا في السنة، و الآلة الحاسبة تقول حوالي ستة عشر ألف حالة في السنة، و الرقم لا يحتاج الى اي تأويل، إلا حزمة من الاسئلة التي تتسابق للذهن و هي كم من الإصابات السرطانية و كم هو احتمال الإصابة بالأمراض التي يتسبب فيها استعمال آلات غير معقمة وما هو الاحتمال العددي للإصابة بالسيدا والسرطان والكزاز وتجلط الدم واللائحة طويلة للأمراض المحتملة في مثل هذه الحالات، و السؤال الاكبر كم من بوجمعة في المغرب. قاعة العمليات لا تختلف في شيء عن قاعة العمليات لأي طبيب أسنان أمضى عشرين سنة من الممارسة الطبية اللهم غياب أي دبلوم أو شهادة أو رخصة ممارسة باستثناء لوحة مذهبة فيما يشبه دبلوم مكتوب عليها " هذا من فضل ربي ". تتكون قاعة العمليات من كرسي العمليات مجهز بكل المعدات، ضغط الماء و نشاف اللعاب و الإضاءة الطبية و مجموعة الكلاليب الكهربائية، في الركن فرن قيل أنه مخصص لتعقيم المعدات، آلة الراديو للتصوير بالصدى حاضرة أيضا و حول سؤال المخدر من أين يحصل عليه بوجمعة خصوصا أن اقتناؤه يخضع لضوابط تنظيمية أجاب أحد المعاونين لبوجمعة أن هذا الاخير نسج علاقات مع مجموعة من الممرضين والممرضات الذين يشتغلون بالمؤسسات العمومية يمدون بوجمعة بهذه المادة و بكمية وافرة . بالجهة المقابلة لباب قاعة العملية نصب مكتب (الدكتور) و عليه وضعت رزمة من الاوراق المخصصة لكتابة الوصفات الطبية وبعض النماذج لأنواع الاسنان المستعملة دون ان ننسى خاتم العيادة، فالممرضة المكلفة بمساعدة بوجمعة في العمليات الطبية تتكفل بكتابة ما يمليه بوجمعة من أدوية و نصائح مذيلة بخاتم العيادة الذي يحمل اسم الدكتور وتحته كلمة طبيب أسنان بالفرنسية، وكأنه يخجل من الكتابة باللغة العربية. هذا البذخ في التأثيث و هذا الحرص على الظهور بمظهر الطبيب المحترف يختفي بمجرد ولوجك المختبر: الجزء من البناية الذي يوجد تحت السلالم، المحاذي للمرحاض حيث يقوم بوجمعة بصناعة القوالب المخصصة لأخد القياسات للمرضى. تطالعك رائحة كريهة، بقايا الجبس، قنينات المخدر الفارغة، بقايا الدماء و الإبر المستعملة، يبدو أن العاملين بهذا الفضاء لا يقدرون خطورة ترك هذه الاشياء في المتناول. المعدات المستعملة عبارة عن أواني منزلية متقادمة، كاسرونات و طاوات، مطرقة و بعض مما يستعمله كل من النجار و الجباص، عبارة تستوقفك و انت تغادر ما سماه بوجمعة مختبرا: ممنوع الدخول، طبعا لأن الدخول يعري الوجه الآخر لهؤلاء المتلاعبون بصحة المغاربة بعيدا عن اعين وزارتي الداخلية و الصحة. في ضيافة طبيب حقيقي سعيد، طبيب أسنان خريج كلية طب الاسنان جامعة محمد الخامس بالرباط اشتغل لفترة بتعاضدية طب الأسنان للأمن الوطني، إستطاع أن يفتح عيادته بشارع القرويين، حي النرجس بفاس، زيارة الطبيب سعيد توحي بجدية الدكتور و اصراره على تطبيق ما تعلمه بين كراسي مدرجات كلية الطب. بتحفظ مبالغ فيه يحكي الدكتور سعيد عن معاناة الأطباء مع مشعوذي الأسنان، يقول سعيد حول سؤال من يرخص لهؤلاء بممارسة طب الاسنان بان الامر واضح و اغماض العين حول تمادي هؤلاء في ممارساتهم من طرف مختلف الاجهزة المسؤولة عن صحة المغاربة هو ما زاد في انتشارهم, عيادة الدكتور سعيد تحاصرها اربع دكاكين لصانعي الاسنان الممتهنين لمهنة طب الاسنان دون شواهد. يقول سعيد أن نقابة أطباء الاسنان بفاس و بمدن أخرى قامت بعدة دراسات و إحصائيات حول هذه الفئة التي تمتهن دون موجب حق مهنة ينظمها القانون، لكن هذه الدراسات و الاحصائيات تضل حبيسة المنتديات و الصالونات الخاصة بأطباء الاسنان، مشددا على أن التوعية و الإنفتاح على المجتمع من خلال المجتمع المدني و الإعلام خصوصا تبقى إحدى الوسائل التي قد تساهم في محاصرة هذه الظاهرة التي تشكل خطورة حقيقية وآنية على صحة المواطنين. ما اثار الانتباه في عيادة سعيد هو قلة الزبناء، فبالمقارنة مع العيادة التي خلقها بوجمعة و التي تعج بالزبناء زيارة لعيادة الدكتور سعيد تحيل على حقيقة يعاني منها معظم أطباء الاسنان خصوصا الذين تقودهم أقدارهم الى أن يفتحوا عياداتهم قرب اوكار السحرة. لماذا يذهب المغاربة عند صانع الأسنان بدل الطبيب يقول محمد، أستاذ اللغة الفرنسية بإحدى ثانويات فاس: نعم أنا أذهب عند صانع الاسنان و أفضله على الطبيب المختص، أولا لأن الفرق في الثمن بينهما شاسع، فقد كلفني تركيب فم بأكمله عند أحد صانعي الأسنان الفين و خمسمئة درهم في الوقت الذي يكلف نفس التركيب ما يناهز ستة ألاف درهم عند طبيب أسنان و ثانيا لأن أغلب أطباب الاسنان هم أقل خبرة من صانعي الأسنان، فهؤلاء و من كثرة اشتغالهم يكتسبون خبرة اكبر. يتدخل عبد الرحمان، أستاذ الرياضيات ليزكي ما قاله زميله من خلال التاكيد على أن صانع الاسنان هو الاصل و أن طب الاسنان حديث بالمغرب و لم يظهر الا مؤخرا، فأغلب المغاربة لا يفرقون بين الطبيب الحقيقي خريج كلية الطب و صانع الاسنان الذي تعلم الحرفة من سابقيه. بينما كان الاستاذ محمد يدافع عن اختيار صانع الاسنان بدل الطبيب دكر ان معالجة سن واحد لابنه عند الطبيب كلفه الفين و خمسمائة درهم و حول سؤال لماذا لم يذهب بابنه ايضا للساحر بدل الطبيب، اجاب محمد ان الامر يتعلق بفلذة كبده فلا مجال للمخاطرة. سناء، طالبة في العشرين من عمرها و هي خارجة من عيادة طبيب أكدت أن الذهاب عند صانعي الاسنان يعتبر مغامرة في غاية الخطورة. تقول سناء: إن أخطر الامراض الفتاكة و المنقولة من خلال الادوات الحادة توجد عند هؤلاء غير أن الانسان بعدما يكتشف انه مريض لا يتذكر من أين جاءته الاصابة. حكت سناء قصة أحد معارفها الذي توفي بعد معاناة مع مرض السرطان الذي اصيب به في الراس و قد ذهبت سناء الى أن أحد الاطباء في مستشفى مولاي عبد الله بالرباط، ارجع احتمال الاصابة الى تبعات ضرس لم تتم معالجته بطريقة صحيحة. الطاهرة، امراة تجاوزت الستين من عمرها صادفناها و قد غادرت للتو عيادة بوجمعة، الحاجة الطاهرة تقول ان الطبيب طلب منها من إجل اقتلاع الاسنان القديمة و تركيب فم اصطناعي جديد ستة الاف درهم في حين أن الامر كلفها عند بوجمعة ألف درهم فقط و مدفوعة على اقساط، و حول ما إذا كانت تعرف الخطورة التي قد يحدثها قلع الاضراس عند غير الطبيب و أنه من الممكن أن يكسر لها الفك اجابت الطاهرة ساخرة: يا ولدي ما بقانا فهاد الدنيا قد ما فات. تفريخ السحرة يؤكد الدكتور أحمد أستاذ قانون الشغل بكلية الحقوق أن الممارسات التي يقدم عليها بعض ميكانيكي الأسنان من قبيل معالجة الاسنان و ترميمها واقتلاع الاضراس تعتبر في نظر القانون إنتحال صفة طبيب أسنان و القانون يعاقب على ذلك و يعتبره جناية تصل العقوبة فيها إلى خمس سنوات سجنا وهذه الجريمة تتم، يضيف الاستاذ دون مراعاة الضوابط العلمية التي يفترضها التكوين الجامعي للطبيب الذي يمتد على الاقل خمس سنوات بعد التفوق في الباكالوريا، و لا يراعى فيها أيضا الضوابط الاخلاقية التي تقتضي حدا أدنى من الشروط الصحية و السلامة، و في ظل انعدام تدخل المصالح الصحية المسؤولة عن صحة المواطنين و كذا غياب تدخل السلطات سواء الاقليمية أو المحلية، يبقى من واجب المجتمع المدني أن يتحرك للتعريف بخطورة هذا الامر على صحة المواطنين. يقول رضى، فاعل جمعوي في إحدى الجمعيات التي تهتم بالبيئة و الصحة: كثيرا ما تقوم الدنيا و تستدعى وسائل الاعلام و ينبري المسؤولون لإلقاء الخطب البطولية إذا ما تم ضبط شخص ما ينتحل صفة رجل أمن، في حين إنتحال صفة طبيب و ممارسة مهنة الطب بدون تكوين طبي و لا ترخيص إداري لا يحرك أحدا، و الأدهى من ذلك يضيف رضى، هؤلاء المشعوذون يتناسلون و يكفي أن يحصل أحدهم على تدريب عند ساحر سابق حتى تجده يقتني كلابا و كرسيا و يعلق لافتة مكتوب عليها "دونتست". بخصوص الترخيص لهؤلاء بالممارسة، نفى مصدر من السلطة المحلية بفاس أن مصالح وزارة الداخلية هي من يرخص لهؤلاء على أساس أن الممارسون القدامى كانوا يحصلون على الترخيص من المصالح المسؤولة على الصناعة التقليدية، وهم بذلك يعتبرون صناعا تقليديون. يضيف المسؤول بالسلطة المحلية أن الادارة لا تمنح حاليا أي ترخيص لممارسة صانع أسنان في محاولة للرهان على انقراضهم مع مرور الوقت، غير أن واقع الحال يقول العكس. في مكناس، و في حي شعبي كوجه عروس وحده تم إحصاء طبيبين فقط متخصصين في طب الأسنان، مع تسجيل ضعف في الإقبال، أو على حد تعبير أحدهم "قربنا نديروا فاييط" في الوقت الذي تم إحصاء أكثر من ثلاث عشر منتحل لصفة طبيب أسنان تحت يافطة مكتوب عليها "صانع أسنان"، لتبقى عيادة بوجمعة من حيث التجهيز و الإقبال و الرواج حالة خاصة في المغرب على الاطلاق. أمينة، طبيبة أسنان حديثة التخرج من كلية الطب بالرباط، شاءت الظروف أن تكون عيادتها بالقرب من أحد ممتهني طب الاسنان دون تكوين علمي، تعلق أمينة عن الحرب التي يعلنها سرا و علانية منتحلوا صفة أطباء أسنان على الأطباء الحقيقيون: إن تكوين طبيب أسنان يكلف الدولة ملايين الدراهم، و يكلفها بناء الجامعات و توفير الأساتذة والمعدات في حين تخريج ساحر لا يكلف سوى كرسي و كلاب و الانطلاق في العبث في أفواه هذا الشعب المسكين، خصوصا في مدينة صغيرة جدا كإيموزار كندر حيث الذهاب عند الطبيب عموما و طبيب الأسنان خصوصا يبقى حدثا تاريخيا في حياة المواطن المغلوب على أمره جهلا و قدرة شرائية، و تضيف أن سوقي السبت و الإثنين بإيموزار كندر تعرفان غزوا خطيرا من طرف مقتلعي الأسنان في الخيام رغم ما يشكله ذلك من خطر و مضاعفات على المريض. بالعودة إلى البحث في تفريخ صانعي الأسنان بمكناس يقف الباحث على ملاحظتين، الأولى أن بوجمعة أصبح مدرسة قائمة الذات و مثلا أعلى لمجموعة من الباحثين عن الثروة السريعة عبر تقليده، خصوصا أنه راكم من وراء امتهان الطب الغير الشرعي للأسنان ثروة طائلة عبارة عن عقارات و مقاهي و ضيعات و مخابز وحمامات وكدا لأن أغلب الشباب الذي يمتهن حرفة صانع أسنان هم خريجوا مدرسة بوجمعة ،حتى علق أحد الظرفاء: إنه لكبيرهم الذي علمهم السحر. نبيل بسدي بابا، عادل بالزرهونية، رشيد بالمنصور، حفيظ بالزيتون، هؤلاء بعض ممن تمكنوا من خلق (عياداتهم الخاصة) بعد أن أمضوا مدة الخدمة و التدريب بعيادة بوجمعة. الملاحظة الثانية هي وجود مهنة منظمة تنتمي الى فصيلة المهن شبه الطبية (بروتيز دونتير). هذه المهنة تعتبر وسيطة بين الأطباء و الزبناء غير أن بعض من هؤلاء الذين يطلق عليهم تقنيي الأسنان الشرعيين و الذين يخضعون لتكوين شبه طبي لمدة سنتين بعد الباكالوريا و الذين ينحصر دورهم في مساعدة الأطباء في ترجمة القياسات التي يأخدها الطبيب إلى فم اصطناعي هم الآخرون يمارسون اختصاصات طبية لا تدخل ضمن ما هو مسموح لهم به، و من هنا تطرح على السلطات الصحية مسألة تطوير أدوات الرقابة وزجر المخالفين و المتلاعبين بالرخص و الشواهد. عشرون سنة سجنا وستون مليون غرامة حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة بانتحال صفة طبيب أسنان و ممارستها لمهنة ينظمها القانون دون ترخيص من السلطات الحكومية المخول لها قانونيا التصريح بممارسة مهنة طبيب أسنان، بعشرين سنة سجنا وتغريمها لفائدة نقابة أطباء الأسنان باعتبارها طرفا مدنيا ما قدره ستون مليون سنتيما مع تحميلها الصائر في الأدنى. هذا الحكم لم تصدره محكمة في الدارالبيضاء أو في فاس أو في مكناس، و لهذا لا يحق لك سيدي الدكتور أن تفرح، و لا يحق لك أن تزف لزملائك هذه البشرى، اللهم إن كان لك صديق يمارس مهنة طب الأسنان في إسبانيا. هذا الحكم أصدرته محكمة إسبانية بمنطقة بلد الوليد ضد طولا ديل باريو التي انتحلت صفة طبيبة أسنان و الحكم الذي وصل إلى عشرين سنة و ستون ألف أورو هو يحمل دلالة قانونية قوية من خلال قساوته، فالحكم بهذه المدة الطويلة من السجن يعكس حرمة مهنة طب الأسنان و تشدد القضاء مع الذين يعيثون فسادا في صحة المواطنين، يعلق أحد الصحفيين: لو كان القضاء المغربي يتعامل مع منتحلي صفة طبيب كما يتعامل مع الصحافة المستقلة لانقرض هؤلاء المشعوذون في شهر. و المفارقة الكبرى التي يقف عليها أحد أطباء الأسنان هي كيف أن القضاء تحرك خلال سنة 2008 لاعتقال و متابعة أحد الذين انتحل صفة طبيب قلب خلال خمس سنوات بمدينتي الرباط و الدارالبيضاء في حين أن هناك من يمتهن بشكل غير شرعي طب الأسنان لمدة خمس و ثلاثين سنة مع الاقرار بذلك على شاشة التلفزة المغربية دون أن يسأله أو يسائله لا القضاء و لا مصالح وزارة الصحة و لا الداخلية. فيدرالية جمعيات حماية المستهلك لها رأي يأكد الدكتور بنقدور رئيس فيدرالية جمعيات حماية المستهلك بالمغرب أن الجمعية تطرقت لموضوع صحة الأسنان وظاهرة التداوي عند من يسمون ميكانيكي أو تقنيي الأسنان وشروط الممارسة الصحية منها على الخصوص و مدى انعكاسها على المستهلك من خلال برنامج إذاعي عبر شراكة مع الإذاعة الجهوية لوجدة، و يذهب بنقدور إلى أن بعض ميكانيكي الأسنان هم أكثر كفاءة من أطباء الأسنان، ويستدل على ذلك بحالة بوطيب، أحد صانعي الأسنان الذي يعتبر بإقليم بركان مرجعا يتدخل كلما استعصى الأمر على الأطباء الذين يشكك بنقدور باعتباره فاعلا في المجتمع المدني و راصدا لما يهم صحة المواطن إذ يقول : إن مستوى ما وصل إليه طب الأسنان في الدول المتقدمة يجعل بعض أطبائنا في المغرب بمستوى ميكانيكي الأسنان أو أقل، ثم لا بد أن نشير أن هؤلاء الممتهنين لمهنة صانع أسنان لهم الشرعية التاريخية فطب الأسنان حديث العهد بالمغرب، و لذلك لم يستطع إلى الآن إقناع المغاربة بتفضيله على الممارسين العصاميين. إلا أن رئيس فيدرالية حماية المستهلك بالمغرب شدد على رفض الجمعية القاطع لإقدام بعض الممتهنين لمهنة الأسنان على إجراء العمليات الجراحية أو ممارسة الجانب الطبي، على أنه في نظر بنقدور عملية أخد القياسات وتركيب الفم الاصطناعي تبقى في نظره مقبولة، ويبقى استعمال نوعية من الرصاص في ملأ الأضراس من النقط التي ركز عليها الدكتور بنقدور على اعتبار أن هناك دراسة علمية رجحت خطورة الرصاص ومضاعفاته الصحية الخطيرة على المواطن وفي ذلك يتساوى الطبيب والميكانيكي على حد تعبيره. ويبقى تأهيل صانعي الأسنان و تكوينهم و إدماجهم هو السبيل الأنجع في نظر فيدرالية جمعيات حماية المستهلك للخروج بهم من حالة الممارسة اللا قانونية و اللاصحية مع توضيح حدود اختصاصاتهم بشكل حصري ومضبوط. من جهة أخرى كان لاستضافة أحد برامج القناة الأولى لعلي الأشوري باعتباره رئيسا لجمعية صناع الأسنان بتمارة سنة 2009 بالغ الأثر في صفوف الأطباء الذين لا يخفون تذمرهم و استهجانهم لهذه الاستضافة التلفزيونية و كذا للامبالاة الجهات المسؤولة و خصوصا السلطات المحلية التي يتهمها الأطباء بالترخيص الشفوي لممارسة طب الأسنان غير الشرعي، و قد راسلت هيئة أطباء الأسنان الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري على أساس أن القناة الأولى باستضافتها لرجل يقدم نفسه كرئيس لجمعية (شرعية) ساهمت في نشر الشعوذة و أتاحت له فرصة تسويق رسالة مفادها أن ما يقدمه هو و أمثاله طب شرعي تسمح به الدولة، خصوصا أنه في بلد تطغى عليه الأمية ، يعتبر كل من أطل من خلال التلفزة ذّا مصداقية و شرعية ، وحسب دراسة لهيئة و فيدرالية طب الأسنان فإن أطباء الأسنان يعتبرون أقلية أمام غير المتخرجين من الكليات و المعاهد، فمقابل أكثر بقليل من أربعة آلاف طبيب شرعي هناك أكثر من إحدى عشر ألف ممارس غير شرعي، والأخطر من ذلك في نظر الهيئات الممثلة للأطباء هو سرعة التنامي ففي الوقت الذي تنضاف فيه عيادة طبية واحدة تنبت ثلاث دكاكين لصناع الأسنان. [email protected]