أولا :خلفيات الطائفية وضوابطها العقدية أ)من طبيعة الإنسان معاداة بعضه البعض طالما أنه بقي بنزعته الذاتية والغريزية الحيوانية الصرفة ،وطالما كان حاكما بأهوائه وأنانيته وتسرعه ،خاصة وأن من خصائص تكوينه النفسي ومحركات أنشطته أنه تواق للاستيلاء والاستعلاء وحب الزعامة والتصدر للمسؤولية بغير استعداد أو روية ،وبهذا كان وصفه كما قال الله تعالى عنه :"إنه كان ظلوما جهولا"(سورة الأحزاب آية)72،ظلوما بطبعه وجهولا بغفلته كما صاغ واقعه الشاعر : والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم بحيث أن الشهوة البهيمية و الغضبية كما كان يعبر عنها في علم النفس قديما ليست سوى حلقة من حلقات نزوعه الذاتي الاستهلاكي الذي لا ينقضي ،ولهذا فإنه حينما يحقق شهوة يحتاج إلى أخرى وهكذا تسلسلا ،فعندما لا يطالها يتحول الدافع لديه إلى صورة غضبية يعبر عنها بالنزعة السبعية لتحصيلها بالقوة ،لكن بعدما يعجز عن تحقيقها بهذا السلاح يلجأ إلى الحيلة والكيد و المجانة والشيطنة المعبر عنها خطأ في عصرنا الحالي بالسياسة وألاعيبها! كل هذا من أجل تحقيق الاستيلاء على مصادر الشهوة والقوة التي تتنوع أشكالها وصنوفها وتتوحد حقيقتها وغايتها ألا وهو طلب الملذوذ بأقصى درجاته والانصراف عن المؤلم والمنغص بأية وسيلة ووجه ... من هنا يبقى العداء قائما بين العناصر الطالبة للإشباع والطامعة إلى الاحتكار والخائفة من النفاذ،وهذا ماتكرسه كقاعدة وغاية الفلسفة الغربية نظريا وعمليا من خلال تعبير فيلسوفها هوبز:"الإنسان ذئب الإنسان"! ب) لقد حدد لنا القرآن حقيقة البشرية المنطوية على نفسها وذاتها،بل حقيقة كل كائن مكلف وعاقل يعي ذاته وغيره ويخطط لحاضره ومستقبله . هذا التحديد جاء صريحا من خلال قوله تعالى :" فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه،وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"سورة البقرة آية 35 إذ الملاحظ في الآية أنها جمعت بين العناصر المتنافسة في خطاب جمع واحد ،كما أن فيها إشارة إلى محدودية المتاع أو المادة الكفيلة بإشباع الجميع على المستوى الكمي والمدى الزمني،ومن ثم فتبقى العداوة قائمة أو محتملة سواء مع نفس الجنس البشري أو مع اختلاف الأجناس كما بين الإنسان والشيطان على وجه التحديد . لكن القرآن الكريم سيبين لنا بأن الله تعالى لم يترك الإنسان هملا و عرضة للشنآن المطلق و اللامتناهي ،وإنما سيستدرك حالته وافتقاره بمدد وإرشاد منضبط وموضح لمعالم الطريق وحدودها حتى لا ينهار الجميع في التيه والفوضى وعدم الاستقرار... هذا الاستدراك سينص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى :"فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون":سورة البقرة آية 37.و"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ،إن أكرمكم عند الله أتقاكم" هكذا إذن يتحقق الأمن والسلم وتتوحد الكلمة ومعها السلوك والمواقف ،إذ وجود منار للهداية و اتباعه من طرف الجميع قد يحول دون تحقيق هذا الاختراق،لأنه إذا حاوله فرد ردته الجماعة ومنعته منه بالضرورة، لأنها متحدة الرؤية وواعية بالخطأ المحدق بالجميع إن هي استسهلته في البداية فعمها في النهاية... ثانيا: وحدة العرب ومرجعية الحرم في حقن دماء البشرية اختزالا للتاريخ وقفزا على رصيده العريض نقف عند حلقته الذهبية في عصر نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في مرحلة ما قبل البعثة . أ) في هذه الفترة سيحدث أمر مهم جدا فيه توحيد للأمة العربية قبل أن تصبح إسلامية ،ألا وهو إرادة بناء الكعبة بعدما أصابها ما أصابها من سيل وأحدث في جدرانها وسقوفها تصدعات و تآكل بفعل التعرية وطول أمد البناء ما قبل هذه المرحلة . هذا البيت كان عبر التاريخ محل تعظيم واحترام عند جل العرب سواء كانوا من الحمس أو من أفسق الفسقة والوثنيين ،لكنهم مع اختلاف عقائدهم وسلوكهم هذا كانوا يجلونه لما ترسخ في نفوسهم واعتقادهم من تلك النسبة القدسية بالإضافة ألا وهي :الكعبة بيت الله الحرام. فكان العربي في جاهليته يمكن له أن يساوم على كل شيء إلا على هذا البيت ،بحيث غير خاف على المؤرخين ما كان من قصة أبرهة وبنائه في صنعاء( اليمن ) للكنيسة المعبر عنها حينئذ بالقليس كمنافس روحي للكعبة فيما زعمه ،وأيضا لا يخفى علينا ما كان من أمر ذلك العربي الذي من باب غيرته على الكعبة ذهب إلى القليس فأحدث فيه باعتباره مكانا نجسا وغير مؤهل لمنافسة الكعبة المشرفة ،بيت الله الحرام ،التي أخذت شرعيتها من النصوص الدينية المنزلة على الأنبياء ومن جذور التاريخ و أحداثه. كما لا يخفى علينا ما فعله العرب بأبي رغال :ذلك الشخص الخائن لأمته حينما دل أبرهة على الطريق المؤدية إلى الكعبة ،حتى أصبح يضرب به المثل في الخيانة وبيع الذمة للغازي الأجنبي لبلاده. من هنا وعلى سبيل الاختصار سجل التاريخ وحدة الأمة العربية في الذوذ عن مقدساتها وحماية أعراضها وشرفها وأنسابها رغم جاهليتها وقبل البعثة النبوية الشريفة التي زادتها توحدا ولما للشمل على أعلى مستوياته. فلقد كانت الكعبة هي أس التوحيد ومرجعية العرب في التواصل والتحاكم والتحالف والاستجارة وحفظ المواثيق وحقن الدماء ،وهذا ما أراد توظيفه بعض العلماء في مؤتمر مكة القريب من أجل إصدار فتوى لتحريم دم العراقيين ،ولكن بدون إجراء حكيم يشخص الفتوى على أرض الواقع- كما يلاحظ -وتتعقد عنده الأسباب والخلفيات... ب) فالمسلمون سواء كانوا سنة أو شيعة أو عربا وعجما أوأقليات وعرقيات ينبغي حقن دمائهم فيما بينهم بالحكمة والعودة إلى تحكيم المبادئ الأساسية التي تجمعهم كمواطنين يعيشون على أرض واحدة نشأت دماؤهم ولحومهم وأحلامهم من خيراتها وتاريخها وبركتها . لهذا فإنهم مهما اختلفوا أو حتى تقاتلوا قد لا ينبغي أن ينسوا بأنهم تجمع بينهم رحم قوية وصلة ود في عهد الرخاء وعهد الشدة سرعان ما تذكرهم وتحثهم بالعودة إلى التلاحم من جديد ونسيان أحقاد الماضي ومولدات الظروف والمؤامرات المتوالية من كل حدب وصوب على هذا الأمة العريقة في الحضارة والتاريخ . كما أن ذاكرتهم هذه لابد وأن تعود بهم للتوحد من أجل العمل على صد العدو المشترك الذي يسعى إلى تدمير بلادهم بدون مبرر مقبول أو معقول ،كما فعل العرب قبل في مواجهة ومقاومة أبرهة ونزعته الاستعبادية والسالبة للمقومات والمكتسبات الروحية والتاريخية للآخر،والذي عمل على إذكاء النزعة الطائفية بتأجيج الخلاف العقدي بين أبناء الجزيرة العربية من خلال بناء القليس كما سبق وذكرنا، فيما يبقى نموذج أبي رغال حاضرا ومنبوذا لا يؤبه به ولا يتبع في خيانته ،بل أصبح قبره محلا للرجم واللعنة من كل العرب عبر التاريخ... هذه النزعة هي عينها ما يسعى إليها المحتل وكل مستعمر ببشاعته وغطرسته قبل وبعد دخوله أرض الآخر غزوا وتقتيلا، هذا مع استعماله كل الأبواق المتاحة والعيون الخائنة لعرض البديل الثقافي والسياسي والاجتماعي من أجل تغيير نمط العيش عند المواطنين والتغرير بالوعود الكاذبة وصرفهم عن مبادئهم الأساسية و مكوناتهم المذهبية والنفسية والاجتماعية تماما كما فعل المستعمر الفرنسي بالمغرب في عهد الحماية من محاولة لإذكاء نار الطائفية تحت غطاء ما يسمى بالظهير البربري للفصل العنصري بين المغاربة الذين لم يكن يخطر لهم ببال منذ تأسيس الدولة الإدريسية إلى يومنا هذا... فلقد فوجئ بالرد السريع ومن منطلق روحي ومنهج إسلامي وعلى طريقة صوفية منبثقة منه ومتمثلة في حركة اللطيف التي هزت أركانه وأربكت كل حساباته الخاطئة. ولهذا فالشعوب التي لم تعي المكر الطائفي للمستعمر كما هو شأن بعض العراقيين حاليا لن يكون مآلها سوى الخيبة وتضييع الفرصة التي كانت متاحة لها لسحق العدو بيد واحدة موحدة وتكسير شوكته في حينها ،فلقد أصبحوا ، بعد تفويت فرصة المقاومة الموحدة ،منتقلين قسرا مما كان يعتبر في نظر بعضهم سيئا إلى ما هو أسوأ و أفظع ،جامعين بين خسارتين فادحتين في آن واحد ألا وهما :خسارة القرار وخسارة الاستقرار. فلا هم أصبح في يدهم قرارهم السياسي ومعه جميع القرارات من عسكرية واقتصادية واجتماعية وقانونية تشريعية ،ولا هم حصلوا على استقلال واستقرار يطيب به العيش ويهنأ به المقام !. إذ نفس ما حدث بالأمس يحدث اليوم أو أقبح ،فقد استدعى الوزير ابن العلقمية الطاغية هولاكو إلى بغداد على أمل أن ينصبه على حكم البلاد بعدما يزيح الخليفة العباسي...ثم كان من بين ما قتل هولاكو ابن العلقمية نفسه ،لأنه خائن والخائن لا يوثق به سواء عند من استعمله أو من ثبتت لديهم خيانته من بني عشيرته وأهله! كما أثبت التاريخ والقرائن أن أول من يضحي بالخائن بعد أداء دوره من استعمله من المستعمرين والمتآمرين !. هكذا يكون مصير من يستدعي عدوا خارجيا للاستعانة به على ظالم مفترض أو مخالف من بني جلدته ومعارض له داخلي كقول الشاعر : وذاهب بالضرغام ليصطاد به تصيده الضرغام فيمن تصيدا فهذا هو نفس ما يحدث الآن في العراق وما يقوم به الغزاة الأمريكان من تقتيل وتفريق وضحك على الأذقان وتجنيد للمجرمين لقتل كل من يحلوا لهم قتله بغير محاكمة أو رقيب أمني. ج) إذا كان صدام حسين -رحمه الله تعالى- فيما يقال عنه ويزعم بأنه طاغية وصاحب إبادة جماعية كحاكم دكتاتور فإن العراق اليوم قد أصبح يعرف سيئتين أحلاهما مر زقام وعلقم ،على وزن اسم ما جره ابن العلقمية فيما مضى على أهل بغداد، بل الأمة الإسلامية بصفة عامة من محن وويلات . هاتان السيئتان هما على التفاضل القبيح :القتل والفتنة ،وهذا أبشع ما تخشى مواجهته الكائنات وتفر منه غريزة وطبعا.و:"الفتنة نائمة لعن الله ُمن أيقضها"كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ولقد أيقضها بوش وأعوانه ؛ فإن اللعنة تقع عليه وعلى من ساعده فيها كائنا من كان. كيف وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز:"والفتنة أشد من القتل "و"الفتنة أكبر من القتل". فهل بعدما وقع ويقع في العراق فتنة أشد مما هو حاصل أو حصل في التاريخ؟ من هنا، أناشد العراقيين الأشقاء وكل شعب عربي ومسلم سواء في لبنان أو فلسطين وأفغانستان وشمال إفريقيا ممن قد يستشعرون بذور نار الفتنة الطائفية ومنابتها سواء باسم الدين أو اللغة أو العرق بأن لا ينساقوا نحو هاتين السيئتين حتى لا ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه العقدي حينما قال :"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "(رواه البخاري في كتاب الديات) .وحتى لا يكون رواد الفتنة الكبرى التي عبر عنها النبي صلى لله عليه وسلم: "يُقتل الرجل ولا يدري لماذا قُتل ويقتل ولا يدري لماذا قتل"أو كما قال... فقد حكم بالكفر على كل من يقتل أخاه المسلم بغير حق مهما كان حاله ومذهبه.وهذا على عكس ما يسعى إليه المستعمر الكافر من حث المسلين على قتل بعضهم البعض تحت ذرائع واهية بالضرب على أوتار تسليم مفاتيح الحكم لهذا أو ذاك، أو تحت غطاء الديمقراطية كلعبة قذرة لإشاعة الفتنة وتبرير عدم انسحابه من الأرض المحتلة... بل كان الأولى بهم أن يناهضوه كما ناهض العرب قبلهم الطاغية أبرهة وخائن عروبته أبورغال الذين دارت عليهما الدائرة التي لابد وأن تطال المستعمرين الجدد ومعاونيهم وأمثالهم أيضا -مهما فروا من القصاص لأنهم ظالمون ومهددون لأمن البشرية واستقرارها، والظالم لا حصانة له في هذا الوجود سواء كان مسلما أو كافرا مصداقا لقول الله تعالى :"إنما السبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق "لآية. لكن قد يتساءل البعض ويقول:كيف الرجوع إلى الهدنة والتوحد وقد سالت الدماء وتيتم الأطفال ورملت النساء تحت حسابات طائفية ومذهبية ضيقة؟ أقول :كونوا خيرا من إخوانكم العرب في الجاهلية واعتبروا بحرب الفجار حيث تم الصلح بينهم وودى بعضهم قتلى البعض فيما زاد منهم ،هذا مع احترامهم لحرمهم المكي مهما جرى بينهم من قتال وعداء ،بحيث "قد أدركهم من دعا المتحاربين إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد".نور اليقين ص22 أيضا أقول :كونوا خيرا من إخوانكم العرب في الجاهلية بغيرتهم على أهل بلدهم تحت قاعدة:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما". بالإطلاق في معاملة العدو المشترك وبالتقييد فيما بينكم كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن :نصرة الظالم في الإسلام بأن ينهى عن ظلمه ويعاد به إلى رشده حتى تتم المصالحة وتحقن الدماء وتحفظ الحقوق.. ثالثا:منهج التوحيد ورفض الإقصاء في حقن دماء المسلمين نعود إلى قصة بناء الكعبة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في حقن الدماء وحفظها من السفك بغير حق وذلك حينما تحتدم الطائفية وتطغى على زعمائها الأنانية. أ) فحينما تعرضت الكعبة للهدم الطبيعي- كما قلت- هب الجميع للبناء مع التحفظ كما يروي أصحاب السير،وهو تحفظ في الإقدام على عمل لم يسبقوا إليه في ذاكرتهم ،وتحفظ في نوعية المادة المستعملة لبناء الحرم المحرم. بحيث فيما اشترطوه أن لا يدخل في نفقاتها مهر بغي ولا بيع ربا...! هكذا تم البناء بالاتفاق حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه :كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى"فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ،وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة وسموا لعقة الدم ،فمكثت قريش أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا ...وكان أسن رجل في قريش إذ ذاك أبو أمية بن المغيرة المخزومي عم خالد بن الوليد فقال لهم :يا قوم لا تختلفوا وحكموا بينكم من ترضون بحكمه،فقالوا نكل الأمر لأول داخل !. فكان أول داخل عليهم حينذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد !،لأنهم كانوا يتحاكمون إليه ،إذ كان لا يداري ولا يماري ،فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال :لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه... بهذا كما يقول محمد الخضري بك في كتابه نور اليقين من سيرة سيد المرسلين:"انتهت هذه المشكلة التي كثيرا ما يكون أمثالها سببا في انتشار حروب هائلة بين العرب لولا أن يمن الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بما يرضي جميعهم" . على ضوء هذه الصورة التاريخية للعرب والمرتبطة بالسيرة النبوية الشريفة ينبغي أن نقف لنستلهم العبرة من المنهج السليم لحقن الدماء والتوحيد بين الطوائف والنزعات العرقية كيفما كان نوعها وجنس أصحابها،مسترشدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وحكمته قبل بعثته وبعدها،وسعيا إلى حقن دماء إخواننا الأشقاء في فلسطين ولبنان و العراق الأبي والصامد في وجه المحن والمؤامرات الدولية والتكالب الامبريالي الغاشم من أجل مادة زفتية سوداء و ملطخة تسمى: البترول . فقد سد النبي - صلى الله عليه وسلم -الطريق أمام لعقة الدم حتى لا يحققوا نواياهم وعزمهم السيئ،إذ أعطى لهم الحل الأمثل والمعجز والنموذجي في إطفاء نار الفتنة الطائفية ونزعة الأثرة على كثير من الأشخاص والانتهازيين المتطلعين إلى بث الفوضى والظنون السيئة باسم: الحفاظ على المقدسات وحماية حقوق الإنسان والانتقام للإبادة الجماعية وما إلى ذلك مما قد يوظف كقميص يوسف لتبرير وتغطية نواياهم ونزعاتهم الشريرة . فسواء كان أهل هذا البلد أو ذاك سنة أو شيعة أو عربا وعجما أو بيضا وسودا وغيرهم بل حتى ممن يعتبرون أقلية طائفية دينية كانت أو عرقية ينبغي أن يعتبروا بهذا الإجراء النبوي في علاج الحيرة الإنسانية حينما تسد أمامها الأبواب وتتوقع مع القرائن بأن ما هو آت أسوأ مما هو كائن أو قد كان ،فتلجأ بغريزتها إلى الحد من الانجراف الذي قد لا يعرف بعده عودة إلى القمة أو اليابسة. ب) فالعناصر الممهدة لنجاح إجراءات حقن الدماء ومناهضة لعقته يمكن تلخيصها في التالي : 1) وجود الطائفية ينبغي أن يعترف به كامتداد طبيعي للتجمعات البشرية واختلاف تقاليدها وأنماط سلوكها ومعايشها ،وهي تتمظهر على شكل مذاهب وملل ونحل وعشائر وقبائل ولغة ولهجات،وهذا التنوع قد عرفه العرب منذ التاريخ ومع ذلك كان التعايش قائما لديهم. 2) وجود موحد رمزي للطائفية من حيث المبدأ كما هو نموذج الكعبة المشرفة عند العرب في الجاهلية والإسلام. أما بالنسبة للمسلمين العرب خاصة فقد توفرت لديهم عوامل متعددة كفيلة بتوحيد صفهم من أهمها:اللغة والدين والحضارة والتاريخ... 3)وجود مرجعية لكل طائفة تحركها أو تسكنها بحسب ما تراه مناسبا لطائفتها بالتفويض أو الاستشارة والتسليم. 4)توفر عنصر الصدق في تعظيم هذه المرجعيات أو الرموز الموحدة للطوائف على رأسها مسألة الوطنية والقواسم الاجتماعية المشتركة بين أي شعب في العالم . 5)الحرص على تحقيق السبق في خدمة هذا الموحد ونيل شرف التقرب منه . فلما جاءت مرحلة بناء الكعبة محل استلهام حقن الدماء كانت كل هذه العناصر متوفرة في العربي رغم جاهليته ومتداخلة فيما بينها بشكل متناسق ! لكن المختلف بين حال العرب حاليا وحال العرب عند بناء الكعبة هو ما سنراه في التالي: 1)إن الخلاف كان قائما بين العرب في الماضي داخليا ومن ثم تم حسمه في الحين و لجئوا إلى التحكيم الذي سيخضعون له جميعا وبدون نية لنقضه أو التلاعب بنتائجه لصالح طائفة دون أخرى! على عكس الوضع لدى العرب في عصرنا، فإن الخلاف بينهم دخله عنصر ثالث في المعادلة وهو المستعمر الأمريكي و الصهيوني، كعدو ظالم وكافر في نفس الوقت ومعه قوى أخرى إمبريالية وخائنة ومتحينة ومتآمرة،ومن ثم فإن التحكيم قد لا يتم طالما هناك من يوالي هذا العنصر الغريب على المجتمع العربي وطوائفه السياسية والمذهبية والعرقية على حد سواء... من هنا كان لزاما على كل عربي حر يريد المصلحة لبلاده ولو كان يتعامل مع المستعمر سياسة ومداراة أن يتساءل:لماذا لم نتوصل إلى حقن دمائنا في الحين قبل إهدارها وسفكها بهذا الشكل الفظيع رغم أننا مسلمون أو حتى مجرد عرب يجمعنا وطن واحد ولغة واحدة وتاريخ مشترك ،بينما إخواننا العرب في الجاهلية استطاعوا أن يحولوا بين إهدار دمهم باللجوء إلى التحكيم والتزام نتائجه ؟ إن الجواب هنا سهل وقريب وهو أن المسلمين سواء كانوا سنة أو شيعة أوعربا وعجما أو بربرا وأكرادا أو أردا وملاويا ليس من طبعهم قتل بعضهم البعض بسبب التمذهب عبر تاريخهم لولا وجود لعبة سياسية قذرة أدت بهم من حيث لم يتفطنوا إلى هذا المآل المؤلم والمخزي. فالتعايش كان قائما بينهم منذ زمن قريب والتواصل بين الطوائف-وخاصة أهل السنة والشيعة- كان متينا ومتراصا،بدليل التجاور في السكن والتضامن أثناء الحصار الظالم للشعب العراقي خاصة، والذي أدى بالبعض إلى الانقلاب على رئيسهم صدام حسين وتوهم أن البديل المؤمل سيكون خيرا من الواقع ،ولكن هيهات هيهات! فهل الشيطان قد أتى يوما بخير؟ لكن هذا التعايش بين عشية وضحاها قد افتقد بشكل مريع وبمجرد سقوط النظام القائم من طرف المستعمر الغاشم . إن النتيجة المنطقية والملاحظة العلمية والاستقراء يقولان بأن: المسبب والمذكي للطائفية والتقاتل بين أهل السنة والشيعة هو المحتل الأمريكي ووراءه الصهيوني بالطبع ،ومعه كل ذي وجهين من أصحاب الجوار وأنماط أبي رغال ! فليتفطن زعماء العراق الأحرار و أهل لبنان وفلسطين وكذلك كل حكام الدول العربية والإسلامية من شرقها إلى غربها وكل من في قلبه مسكة أو ذرة غيرة ووعي بالمسؤولية،وخاصة رواد المرجعيات وزعماء الأحزاب والعشائر، لهذا الاستنتاج وليلتزموا التحكيم لحقن دماء بعضهم البعض والحيلولة دون لعقته من تحقيق أغراضهم في إسالته... ج) لكن! من سيحكمون وهم في هذه الظروف الحالكة والمضطربة؟ لقد حكم العرب في الجاهلية كما رأينا في بناء الكعبة بصورة جزافية: كل من يدخل عليهم من هذا الباب !كما في الرواية . لكن هذه الجزافية لم تكن مطلقة و عشوائية أو عفوية وإنما كانت مضبوطة وحاسمة ،إ ذ هذا الباب يمثل عين المكان الذي يوجد فيه الحرم المكي ،كما أن الداخل منه سيكون حتما واحدا من أهل الحرم وليس أجنبيا! هذا درس ينبغي أن يعتبر به كل العرب والمسلمين الشرفاء ممن حاروا في تخليص دماء أبنائهم من لعقته وسافكيه ،سواء كان هؤلاء الشرفاء عربا سنة أو شيعة وأكرادا أو أفغانا أو حتى من ينتمون إلى الطوائف الدينية غير الإسلامية وخاصة مسيحيي لبنان ومصر ،لأن الخطر محدق بهم جميعا أفرادا وجماعات بدون استثناء، سواء كانوا من الموالين للاستعمار أو المعارضين له، إذ العدو يبقى عدوا ولا يرضى حتى ينال ما يرى فيه مصلحته الذاتية وتسخيره المطلق لمن استعمره لغاية الإشباع الذاتي الذي لا ينتهي! بل يدور بين الباعث الشهوي البهيمي والباعث الغضبي السبعي مع توظيف الكيد الشيطاني للوصول إلى أهدافه كما سبق وقدمنا علميا في هذا المقال! فليعمل أهل كل بلد أوطن ممن ذكرنا على تحكيم كل من يدخل عليهم من حرم وطنهم ودينهم،أي اللجوء إلى أهل الرأي والحكمة ممن يرونه سليم النية وحسن السلوك ونظيف السيرة، إضافة إلى بعده كل البعد عن موالاة المستعمر أو التآمر معه ضدا على مصلحة وطنه وشعبه لأنه:"من يتوله منكم فإنه منهم " فإذا لم يجدوا من يحكمونه في وطنهم الصغير فليبحثوا في وطنهم الكبير عبر العالم العربي والإسلامي بغير تسييس أو تيئيس. فإن لم يطمئنوا إلى أحد من هؤلاء فليحكموا ما لديهم من مرجعية لا يضل عنها إلا هالك ألا وهي: كتاب الله وسنة رسوله ،على النموذج الذي اخترناه لتحليل واقع الطائفية في العالم الإسلامي والسبيل الأمثل لحقن دمائهم لأنها من دمائنا كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم( أدناهم)". لكن أن يحكم البعض العدو الأمريكي والصهيوني وعملاءه بعدما رأوا فظائعه في أبو غريب وقبله من صواريخ عشوائية على الأبرياء وتهديم المساجد من بعيد ثم من قريب، فهذا لعمري سيكون من الغباوة والخسة ما بعدها من خسة في مسخ تاريخ العرب التليد،وهو ما لم يعهدوه ولم يقدموا عليه ولو في أوج الانحطاط وسقوط الدولة العباسية على يد هولاكو وجنوده !. بحيث ينبغي أن يعلم العالم بأن المستعمر الأمريكي قد تورط حتى الترقوة بدخوله للعراق ظلما وبدون رخصة شرعية أو قانونية أو أخلاقية ،وفي نفس الوقت فلقد أخطأ التقدير في هذه الحماقة شأنه شأن قصة النسر والهر ... فقد يحكى :أن نسرا كان يتحين الفرص لينقض على أية فريسة يراها سهلة التناول والاصطياد، فما لبث أن رأى حيوانا صغيرا اعتقد فيه أنه أرنب أو عنزة. فنظرا لاغتراره بقوة سطوته انقض عليه بدون تردد أو مراجعة ثم أوغل فيه مخالبه وطار به في الهواء،لكن المفاجأة ستأتيه في الحين، إذ سيجد أن الذي اصطاده لم يكن أرنبا وإنما هو هرّ أبي و سريع الرد والمقاومة، فما كان من هذا الهر إلا أن أوغل أنيابه في عنق النسر الذي أصبح بعدها في أزمة كبيرة كان في غنى عنها لولا تهوره وتطاوله على غيره بدون حجة أو مبرر مقبول !. فبينما هو على تلك الحال التقى به نسر آخر في الهواء فقال له كيف حالك يا هذا؟ قال له انظر إلى ورطتي مع هذا الهر الذي اصطدته ولم أتمكن من تحقيق انتصار عليه يذكر! فقال له النسر الآخر: اترك سبيله وأرح نفسك منه. أجابه النسر المتورط :أتمنى لو أتركه ولكن هل يتركني هو،إذ المسألة قد فلتت من يدي...؟! د) أخيرا وفي سيرنا مع المنهج النبوي والقدوة في حقن الدماء نتمعن في الطريقة التي وظفها لإرضاء الجميع: فلقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريق التوحيد والتأصيل لجمع شمل عشيرته ،وذلك باستعمال الوسائل الخاصة والشخصية لتحقيق هذا الهدف ،ودون الاستعانة بأية أدوات خارجية أو استعارتها من طرف ثالث تكون له عليه وعليهم بها منة أو تبرير وضغط لفرض الشروط والتدخل في الشؤون الداخلية وتحديد المصير للآخرين ،كما تفعل أمريكا الآن مع العراقيين خاصة. لأنها تمن عليهم بتحريرهم من سطوة صدام حسين -فيما تزعم ويزعم معها الحالمون بالوهم والدجل السياسي -وذلك كذريعة لتمرير مخططاتها الإمبريالية والصليبية في سفك دم أهل العراق وتدمير رصيدهم الحضاري والعلمي العريق. كل هذا بمبررات واهية ثبت كذبها في الحين كمسألة دعوى أسلحة الدمار الشامل وما إلى ذلك، بحيث أن المنطق العلمي يقول كل من ثبت كذبه رفضت باقي رواياته هذا إن كان مسلما عدلا فكيف به كافرا وظالما معربدا ؟! . بحيث سيصبح حال الولاياتالمتحدةالأمريكية مع العراق كما هي قصة الذئب مع الحمل وافتعاله لدعوى تكدير ماء الشرب من الجدول عليه ،مع العلم أن الذئب كان في الأعلى والحمل في الأسفل،فمن أين للماء أن يصعد مكدرا لدى الذئب بهذه الصورة ؟ فتبين كذبه وسوء نيته في الحين! ه) فلقد كان الرداء الذي استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم لحقن الدماء ولمّ الشمل رمزا للستر والتغطية وغض البصر عن العيوب والنقائص حتى يتم التراضي بدون أحقاد أو خلفيات. كما أن هذا الرداء كان رداءه الشخصي ولم يكن مستعارا أو مزيفا.ومن ثم ضحى به في سبيل حقن دماء قومه ،لا يهمه أن يصيبه مكروه أو يتعرض للبلى أو أن يخلق بفعل هذه العملية. في حين لم يستثن أي أحد من المختلفين من إشراكهم في هذا المشروع الشريف المقصد والغاية، ولم يستعمل انحيازه الشخصي إلى فئة دون أخرى لأسباب عشائرية أو حسابات وتنافر شخصي ربما يكون قد حصل بينه وبين بعضهم قبل هذا التحكيم. إذ لما بسط رداءه طلب من الجميع المشاركة في العملية على التساوي وبدون اعتبار الأغلبية من الأقلية؛ لأن الحقوق لا تخضع للعدد ،والدماء تتساوى وتتكافأ ف:"من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا "سورة المائدة آية32 وبالمقابل كانت الاستجابة جماعية لم يتخلف عنها أي فريق أي أن الحل كان متناسبا بين نوع الاقتراح ونوع الاستجابة ،وبذلك تم حقن الدماء ونال الكل شرف الانتماء،خاصة وأن الذي سيضع الحجر الأسود في مكانه هو نفسه المحكَّم في الخلاف،سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والحكماء والعقلاء ،فاعتبروا يا أولي الألباب والراغبين في السلام والصواب !.