تمهيد أخلاقي قد يبدو من المحرج ومدعاة للتحفظ أن يطرح موضوع الشذوذ الجنسي للنقاش العلني معالجة آفته على مستوى الإعلام والصحافة. لكنه وهذا ما ينبغي تفهمه هو أن المشكلة قد تكون ذات خاصية سرية وشخصية طالما أنها لم تطفو على السطح وتفوح بمناتنها وروائحها العفنة على الأحياء والجيران. إذ ما أن تصدر أعراضها وخيوطها حتى يصبح من اللازم استيقافها والعمل على قبرها أو بترها لكي لا تؤدي إلى الإفساد الشامل للذات والمجتمع على حد سواء. فالحديث المفصل عن الشذوذ- كما سبق وقلت - محرج للغاية،أخلاقيا واجتماعيا ونفسيا،قد يستنكف الكتابة عنه العديد من البحاث والعلماء خوفا من انقلاب التهمة عليهم إما بالتطرف أو التفريط ،وذلك لأنه يحتاج إلى حذر وإلى قوة تحليل وتفكير قد تكون إيجابية في ردع هذه الآفة وبيان فسادها لا في التقليل من شأنها أو إثارة الانتباه إلى التقرب من أوحالها وبراثنها. من ثم فقد يأتي الإنكار حينما يثار الموضوع بغير سبب قوي يدعو إلى إعطائه الأولوية في الدراسة التحليل ،وهذا الاعتراض كما يقول الغزالي رحمه الله تعالى :"من وجه حق،فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهما الله تعالى تصنيفه في الرد على المعتزلة ،فقال الحارث:"الرد على البدعة فرض"فقال أحمد:نعم ،ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر على الجواب ولا يفهم كنهه"؟. وما ذكره أحمد حق - كما يعلق الغزالي- ولكن في شبهة لم تنتشر ،فأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية"المنقذ من الضلال ص35 . أولا: قوم لوط و تأسيس البدعة الجنسية 1-مبدئيا يمكن لنا تعريف الشذوذ الجنسي وبكل صراحة وواقعية بأنه :"العوم في النجاسة"أو "النِّجْس الجنسي"،وهو يشمل الجنسين معا،أي شذوذ الرجال والنساء. بحيث أن الاصطلاح الديني والتاريخي لشذوذ الرجال هو ما يعرف باللواط ،وهي تلك الممارسات الخبيثة والمنافية للطبيعة البشرية العادية التي كان يمارسها قوم لوط على شكل تواطؤ جماعي شامل سواء بين الرجال أو حتى النساء اللواتي كن على علم بما يجري هناك. بحيث لم يقمن بعملية استنكار أو اعتراض رسمي على هذا الشذوذ الذي هو ضد مصلحتهن في النوع والبقاء،بل على العكس من ذلك فقد كان البعض منهن يسعين إلى الإخبار بالوافدين الجدد من الرجال الغرباء على مدينة أو قرية لوط لكي يهرعوا إلى ممارسة الشذوذ عليهم . هذا ما ذكره بعض المفسرين حول سلوك امرأة لوط وإخبارها قومه بقدوم الضيوف رغم علمها جزما بنزعاتهم الخبيثة وأنهم سوف لن يترددوا بالإسراع إلى ممارسة الشذوذ على كل رجل يطرق باب مدينتهم . واللوطية تنقسم إلى قسمين هما:اللوطية الكبرى التي تكون بين الرجال واللوطية الصغرى التي تمارس بين رجل وامرأة من حيث إتيانها من دبرها،وهذا ما يمكن تسميته بالجنس الاشتراكي،أي أنه من جهة يكون غير مثلي ومن جهة أخرى يكون في غير محله الطبيعي والشرعي،وهو إهلاك للحرث وإفساد للنسل،كما انه يكون علامة قوية على استعداد كلا الجنسين للاستجابة السريعة إلى الشذوذ المطلق. بحيث أن قبول المرأة لهذا الوضع المشين يكون مؤشرا ومشجعا على اللواطة الكبرى وإهدار قيمة الجماع الطبيعي وذي خاصية الطهارة والغاية الشريفة منه ،على رأسها تحقيق النسل وتناسب اللذة بين الرجل والمرأة على سبيل المساواة في تحقيقها. فإذا كانت المرأة مهيأة لهذا التواطؤ على تكريس شذوذ الرجال فإنها بالطبع وكرد فعل معاكس ومتناسب ستعمل على ممارسة شذوذ النساء عمليا والذي سيعرف لغة وفعلا بالسحاق فيما ذهب بعض المفسرين إلى أن تاريخ بداية ظهوره كان انطلاقا من قوم تبع باليمن. وهذا إن صح تاريخيا فإنه قد يبين لنا مدى عمق التغير الاجتماعي سلبيا لدى هؤلاء القوم وخاصة حينما أصبحت تحكمهم امرأة.إذ سلطوية المرأة على الرجل من غير ضوابط عقدية وتشريعية قد تكون عاملا نفسيا لا شعوريا في الميل إلى هذا النوع من الشذوذ النسوي والاستغناء عن العنصر الذكوري،لا لإشباع غرائزها الشهوية على أتم وجه ولكن لإشباع نزعتها النفسية في التعويض عن التفوق السلطوي وكذلك الجسدي والجنسي المتوهم بالنزوح نحو الانحراف الجنسي وطلب المثلية الشذوذية. لكن في نظرنا أن الأصل في سحاق النساء يعود بالدرجة الأولى إلى لواط الرجال،وذلك كردة فعل على الفراغ الجنسي لدى المرأة بانصراف الرجل نحو مثله وكضعف سلطوي لديه لضبط غرائزه قبل التحكم في غرائز أنثاه. من هنا فالقرآن الكريم لما ذكر قوم لوط كرجال شاذين فقد ذكر بجانبهم عنصرا نسويا متأثرا بالظاهرة، إن لم يكن على مستوى الممارسة الشاذة عمليا فسيكون من باب تكريس تكريس تفشي واستمرارية الشذوذ بين الرجال ،وذلك كمقدمة لإحلال شذوذ النساء في مقابله على مستوى المنافسة ومنطق كلنا في الهم سوى والمصيبة إذا عمت هانت ،وأيضا التفسير المنحرف لقاعدة :إذا عم الحرام جاز التعامل به. وبالتالي سيصبح الشذوذ عاما وبعده سيصير نمطا اجتماعيا معترفا به في بلد ما ،وهو مما تسعى للوصول إليه كثير من المنظمات والجمعيات الشذوذية الغربية الخبيثة،من خلال الدعوة إلى تطبيع الشذوذ في المجتمعات وخاصة العربية والإسلامية ؛من بينها المغرب،رغم علمها بأن هذه الأخيرة شديدة التمنع في هذا الباب وليس من السهل جعل الظاهرة الخبيثة قاعدة اجتماعية متداولة حتى ولو لم تكن الدولة تطبق الشريعة الإسلامية ومبدأ الحدود المناسبة لردع هذه المفاسد القاتلة لقيمة الإنسان واستقراره الغريزي والنفسي والسلوكي. وذلك لأن هذا التمنع ينبني على بقايا عقدية وإيمان مقتنع به ومتوارث لدى فئات عريضة من المجتمع العربي والإسلامي بصفة عامة تذكرها بالمآل والنهاية المدمرة والخاطفة عن قرب لكل قوم سلكوا هذا المسلك الخبيث على نمط قوم لوط،كما يقول الله تعالى عن حالهم ومصيرهم:"كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر "سورة القمر33-34 "قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب"سورة هود "وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين"سورة الصافات . 2) هذه النتيجة السيئة والمأساوية –الدرامية-التي حلت بقوم لوط كانت جزاء لهم لأسبقيتهم في هذه البدعة الجنسية التي لم يسبق إليها أحد قبلهم،وبالتالي إنذار لكل العالمين بعدهم بأن كل ريادة وتسابق على مستوى تكريس الشذوذ الجنسي ثقافة أو سياحة أو تطبيعا وممارسة ستكون نتائجه على نفس نمط قوم لوط من حيث المآل والخسران ومن حيث التدمير الذي لا يترك بعده أملا في إعادة البناء والتشييد والاستدراك. أوليس مرض الإيدز أو السيدا كنموذج واقعي يعتبر تدميرا داخليا للإنسان المصاب به من خلال أن فيروسه يعمل على تدمير خلايا المناعة المكتسبة لدى المصاب به والذي معه قد يصبح الجسم معرضا للحاصِب المدمر من الفيروسات الخفية التي تدخل جسم الإنسان بغتة و تقتله ببطء أخطر من تدمير قوم لوط أنفسهم؟!!!. أوليس مصطلح الحاصب في القرآن قد يتطابق مع أعراض السيدا الجلدية على شكل حصبة وفقاعات جلدية كبيرة ومبثوثة على سطح الجسم ،كما لو أن المريض قد تعرض للرمي بالحاصب المادي من خارج؟ ! إن الله سبحانه وتعالى اسمه العدل،ولا يتوقع أن يدمر قوم لوط بسب فعلتهم الخبيثة ويرسل عليهم حاصبا ثم يترك آخرين يرتكبون نفس الآثام ولا ينتهون عنها توبة أو رشدا،وهذا هو عين العقل ومقتضى مفهوم العدالة في الاعتقاد. فمواصفات قوم لوط قد أصبحت بادية المعالم بكل عناصرها لتوقع حلول هذا النوع من العذاب الإلهي بالشواذ ومن يقف وراءهم دعما وثقافة و تشجيعا سياحيا،يمكن ذكر بعضها على سبيل الإجمال لا التفصيل: أ-الاعتداء والإسراف الجنسي هذا التعدي واختراق الحدود كان يتم على شكل اغتصاب وقطع للطرق أمام المارة الآمنين ،وفتح الحانات والنوادي المعبر عنها حاليا بالملاهي الليلية وكل ما يسمى بالليالي الحمراء والعلاقات الحميمية... هذه الظواهر سيذكرها القرآن الكريم بصورة مختصرة ومعجزة لفظا ومعنى في قول الله تعالى:"أتأتون الذكران من لعالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون"سورة الشعراء165-166 "ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتاتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر"سورة العنكبوت. من جهة فقد كان عملهم اعتداء على الفطرة والغريزة وتعدي لحدودها السليمة،ومن جهة أخرى اعتداء على الآخر بالاغتصاب والإكراه على الفواحش وممارسة ما يسمى عصريا بالجنس الجماعي في نواديهم الخبيثة ،تماما كما هو الحال عليه افتضاحا عبر القنوات التلفزية والأنترنيت والملاهي الليلية والشواطئ وغيرها. ب-السكر الحسي والمعنوي والإغماء الشهوي وهذا كان نتيجة الإفراط في تتبع الشهوات والدوران معها كدوران حمار الرحى. ومعلوم أن الدوران قد يصيب حتما بالغثيان وبالتالي يؤدي إلى اختلال موازين العقل وعدم إدراك الوجهة الصحيحة في السير والسلوك. هذا السكر قد صبح رسميا،هو يجمع بين سكر الخمر والمخدرات بشتى أنواعها وفنونها وسكر اللواط والشذوذ المرافق له أقوالا وأفعالا ،وبالتالي فحينما تعم مظاهره المجتمع فكرا وثقافة وسلوكا فلا ينتظر أن يؤدي النهي السليم والوعظي عنه نتيجة تذكر، بل على العكس من ذلك كلما نهي عنه إلا وازداد المتطرفون الشهويون إصرارا على تحقيق رغباتهم من دون مراعاة لأية قيم أو آداب أو حرمة ضيف أو جار وما إلى ذلك . يقول الله تعالى واصفا هذه الظاهرة الشاذة:"وجاء أهل المدينة يستبشرون ،قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون ،قالوا أو لم ننهك عن العالمين ؟قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ،لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون،فأخذتهم الصيحة مشرقين،فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل،إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم،إن في ذلك لآيات للمؤمنين"سورة الحجر آية 67-68 . فالسكر قد أدى بهؤلاء إلى حالة شاذة وواقع نفسي وسلوكي جماعي ومتواطأ عليه ألا وهو: السفه العقلي،والذي يحتاج معه إلى التحجير أو التنبيه بالحجَر،لأن هذا النوع من السفه ليس خِلْقيا جِبلِّيا وإنما هو مفتعل ونتيجة تراكمات شاذة من أنواع السلوك والتعنت والإسراف والتبذير،وبالتالي فقد حمل معه صورة وبائية وعدوى نفسية ستطال الجميع سواء كانوا رجالا أو نساء . خاصة وأن العذاب الذي حل بقوم لوط قد كان شاملا للرجال والنساء بل حتى الأطفال منهم،رغم أن هؤلاء الأخيرين لا يد لهم في هذا المنكر إلا أنهم بواقع التصاقهم بالمجتمع الموبوء ونشوئهم وتواطؤ النساء عليه ستصبح العدوى شاملة،على نفس النمط الذي يحدث الآن في العالم من عدوى السيدا أو الإيدز التي تصيب النساء البريئات وكذلك الأطفال ،طالما لم يتم تهجيرهم من البيئة الموبوءة والتفريق بينهم وبين الشواذ المصابين بالداء على مستوى التواصل الحميمي أو الاستشفائي وما إلى ذلك. إن السفه العقلي والسلوكي سيؤدي حتما إلى رفع جلباب الحياء وعدم الاكتراث بأية نصيحة أو أي مرشد صالح ،ومن ثم ستصبح المبادرة من طرف الشواذ بشذوذهم أكثر من مبادرة السليمين في طلب حقوقهم الوقائية والتحصينية كما يقول الله تعالى :"وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم،فحسبه جهنم وبيس المهاد"الآية. وهذا هو عين الفساد المركب والنتيجة الحتمية لشذوذ الرجال والنساء على حد سواء،قد أصبحنا نلحظه لدى فئات تحسب غلطا على المجتمعات العربية والإسلامية وذلك بإيعاز وتحريض من صناع الفساد والشذوذ في العالم الغربي على الخصوص!. يقول الله تعالى عن هذه الحالات:"وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات،قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منك رجل رشيد؟قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد"سورة هود 76-78 ولتوضيح المعنى: فالمقصود بالبنات هنا ليس معناه بنات لوط من صلبه- رغم أنه ربما كان له منهن- ولكن كما قال مجاهد:لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته، وكذا روى عن قتادة وأكثر من واحد كما في تفسير ابن كثير. بمعنى أن لوطا عليه السلام كان ينصح قومه باللجوء إلى النساء لقضاء شهواتهم في إطار زواج شرعي يسود المجتمع ككل ،وليس كما ينسب إليه اليهود من فواحش وسلوك لا تقل عن سلوك قومه افتراء وتحريفا مما يزيد في تكريس الشذوذ وأنواعه،لأنه حينما يطعن في سيرة نبي ما سيسهل على العامة ارتكاب ما تنزع إليه أنفسهم من شهوات وفجور،ولكن هيهات هيهات !فالنبي يبقى نبيا مطهرا مهما تطاول على سيرته الخبثاء والمحرفون،وهذا ما صانه وحفظه القرآن لجميع الأنبياء والرسل من حيث الشهادة لهم بحسن التبليغ وحسن التوجيه وتأدية الرسالة المنوطة بهم. وحيث أنه لم يعد بين قوم لوط رجل رشيد فإن الشذوذ حتما سيصير جماعيا وعلى مرأى ومسمع فيما بينهم تماما كما يروج له في القنوات الفضائية وعبر الأنترنيت كشبكة فاضحة لكل رواد الشذوذ بحمولته السمعية والبصرية ،وهذا ما قد نجد وصفا له في القرآن الكريم ودلالة التواطؤ الجماعي على الانحراف حيث يقول الله تعالى :"ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون،أئنكم لتاتون الرجال شهوة من دو النساء،بل أنتم قوم تجهلون"سورة النمل فكان جوابهم بأن صرحوا بتكيفهم على العوم في النجاسة وأنها قد أصبحت مذهبهم الرسمي في مضادتها للطهارة والاستقامة،وهذا فساد ما بعده من فساد:"فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا قوم لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"سورة النمل آية 58 ثانيا :ندرة الشذوذ وخلفياته في التاريخ العربي الإسلامي 1- يعتبر العرب من بين سائر الشعوب أكثر الناس غيرة وحفاظا على العرض والشرف رغم وجودهم فيما يسمى بالعصر الجاهلي ومهما تدرجت بشعرائهم مزالق المجون والخمر والنعرات. بحيث من مظاهر هذه الغيرة لديهم والتي وصلت إلى حد التطرف أنهم كانوا يئودون البنات خوفا من أن يلحقهم العار بسببهن حينما يقعن أسيرات أو سبايا في يد العدو. فكان الهاجس الجنسي يؤجج فيهم هذه الغيرة ويجعلهم أكثر حفاظا على أنفسهم من نسائهم ،أي أن العربي لا يرضى أن يقع في أسر هو وامرأته بل يقاتل حتى الموت أو أن يتخلص من بناته خوفا من أن تقعن في يد غيره يعبث بهن بسبب السبي والأسر. من هنا فيكون من الطبيعي أن يستنكف هذا النوع من الغيارى عن أن ينزلوا إلى حضيض العوم في النجاسة يمارسون الشذوذ على بعضهم البعض بسبب الميل المنحرف أو بوازع الغلبة وما إلى ذلك. إذ محور الهدف الجنسي كان لديهم هو المرأة لا غير قد يصطحبها معه حتى في الحروب كتشجيع معنوي وكتفاد للوقوع في الشذوذ بسبب تغييبها عن مطلبه الجنسي،وعنها قيلت الأشعار والأسجاع وفيها صبت العواطف وسرح الخيال،مرة بالفصيح وأخرى بالمكنى والمستعار ،ومرة بالخليع المطنب وأخرى بالبديع والموجز العذري وهكذا،ومهما بلغ المجون ببعض شعرائهم فإنهم لم يتعدوا وصف المرأة والخيل والخمرة في أغلب الأحيان . فلما جاء الإسلام هذب هذه الغيرة فيهم ومنعهم من وأد البنات وصرفهم إلى ما هو أسمى وأرقى في باب الطهارة الشرف والعزة والمنعة . من هنا فقد كان عمل قوم لوط يكاد يكون مجهولا بالمرة عند فئات عريضة من المجتمع العربي في الجاهلية وحتى مجيء الإسلام ،حتى أن بعض الصحابة أو قل التابعين لا أتذكر اسم الشخص بالضبط لما سمع الآيات الخاصة بقوم لوط وأفعالهم الخبيثة قال مصرحا ومستغربا ما معناه:لو لم يرد ذكر قوم لوط في القرآن لما كنت أتصور أبدا أن يركب رجل ظهر رجل جنسيا!!! فكان هذا دليلا على غرابة الموضوع وشذوذه في حد ذاته عن الوعي العربي ومجتمعه الأصيل. وكاختزال سريع للتاريخ نقول:بأن هذه الحالة أي استبعاد الشذوذ عن الساحة العربية الإسلامية قد بقي معمولا به على امتداد وجود الخلفاء الراشدين ومن بعدهم الدولة الأموية التي حفظت على الطابع العربي القح في عاملاتها وسلوكها وثقافتها وأنماطها الاجتماعية والاقتصادية،لغاية أنه لم يلحظ وجود شعر أ أسجاع تشير أو تلمح من قريب أو بعيد إلى اللواطة والتشبب بالغلمان بشكل ما ... هذا التحفظ والسلامة من الشذوذ ومواضيعه سلوكا وثقافة سيعرفه الأندلس أيضا كامتداد للدولة الأموية في المشرق وكذلك في المغرب. بحيث لا نكاد نجد لدى المؤرخين أو الأدباء والشعراء تخصصا في وصف الغلمان والمجون المرافق له ،وذلك نظرا لبقاء العنصر العربي على طهارته الأولى من هذه الآفة الخبيثة ونظرا أيضا لالتزام المنطقة مذهبية سنية أصولية وضابطة للأحكام الشرعية ومطبقة لها على مذهب الإمام مالك - رحمه الله تعالى- كان من بينها إقامة الحدود على كل من تسول له نفسه عمل قوم لوط،ولم يكن هذا المذهب مجرد نواقض للوضوء أو مقصورا على فقه العبادات كما يحلو للبعض حصره فيه ورفع شعار التمذهب به بغير صدق!. إضافة إلى هذا فإن العرب كانوا هم الحكام الفعليون سواء في الدولة الأموية بالمشرق أو بالمغرب والأندلس التي لم تعرف الشذوذ الجنسي في بعض أشعارها إشارة أو تصريحا إلا بعد تفكك الدولة وظهور ملوك الطوائف والاختراق للوحدة الاجتماعية بشبه الجزيرة من طرف الصليبيين المتربصين بها تاريخيا وسياسيا. في حين أن البربر المغاربة ستتوافق طباعهم مع العرب في باب الأنفة والعزة وسيكونون على مثالهم في مجانبتهم عمل قوم لوط واستنكافهم عن أن ينزلقوا في نجاسات الشذوذ بشتى صوره وألوانه ،قد ساهم في ذلك كما هو الشأن لدى العرب نزعة الحفاظ على صفاء عنصرهم والتشبث بهويتهم القومية والثقافية رغم توارد الدول الاستعمارية على بلادهم عنوة من رومان وبيزنطيين و وندال. إذ عدم انصهارهم مع تلك الشعوب الاستعمارية لم يتح لها المجال في إحداث تفسخ في طبيعتهم وميولاتهم الغرائزية. لكن مظاهر الشذوذ ستبدأ بالبروز تدريجيا بعد قيام الدولة العباسية واختلاط العناصر فيها من المولَّدين والوافدين وظهور ما يعرف بالشعوبية وبالتالي إضعاف العنصر العربي وعدم قدرته عن مواصلة اتخاذ القرار الكلي بمفرده،ناهيك عن مستوى البذخ والترف واستقدام الجواري والغلمان على سبيل الاسترقاق والخدمة من خارج المجتمع العربي الإسلامي. فكان هناك الفرس والترك والروم والقبط والقوط وغيرهم،ومنهم بدأ يدب الشذوذ في المجتمع دبيبا حتى فشا في الأشعار والآداب جهارا وتصريحا بعدما كان تعريضا وتلميحا وتلميحا،كما يقول أحمد أمين عن المرحلة التي برز فيها الشذوذ على السطح وخلفياته الاجتماعية واستخدام الغلمان في الأوساط المستهترة،حتى عند بعض الأدباء والعلماء ملاحظا ندرة هذا أيام "سلطة العنصر العربي في صدر الإسلام ،ويحكي الجاحظ أن هذا الولع بالغلمان نشأ في الخراسانيين ،إذ كانوا يخرجون في البعوث مع الغلمان،وذلك حين سن أبو مسلم الخراساني ألا يخرج النساء مع الجند خلافا لبني أمية الذين كانوا يسمحون بخروج النساء مع العسكر" (ظهر الإسلام ج1ص 131) ثم يقول بعد هذا الإجراء: "والطامة الكبرى ما غشي المجتمع من حب للغلمان ظهر صداه في الأدب. لقد كان أبو نواس يغني في هذا الباب وحده أو مع فئة قليلة،فلما جاء هذا العصر(القرن الرابع الهجري) كان أكثر الشعراء يطرقون هذا الباب ويفيضون فيه في تحفظ حينا،وفي استهتار أحيانا كأبي تمام والبحتري والصنوبري وكجاشم وأبي الفتح البستي وابن حجاج وابن سكرة والقاضي التنوخي والثعالبي وأبي فراس والصابي، كلهم له أشعار كثيرة في هذا الباب تفننوا فيها،حتى الوزير المهلبي لم يمنعه منصبه أن يقول في مملوك تركي جميل قاد جيشا لمحاربة بني حمدان: ظبي يرق الماء في وجناته يروق عوده ويكاد يشبه العذارى فيه أن تبدو نهوده ناطوا بمعقد خصره سيفا ومنطقة تؤوده جعلوه قائد عسكر ضاع الرعيل ومن يقوده وكان هؤلاء الغلمان مملوكين كما تلك الجواري،يقومون بالخدمة في البيوت وفي الأعمال التجارية ،وهؤلاء الشعراء يتغزلون فيمن يملكون أو يملكه غيرهم"ظهر الإسلام ج1ص 139 ثم يضيف فيما يناسب عصرنا قائلا:"بل نرى من هذا ظاهرة غريبة وهي عدم تحرج ذوي المناصب الكبيرة كالوزراء والقضاة من كثرة القول في هذا الباب ،مما يدل على أن الرأي العام قد فتر استنكاره له،وعده من الظرافة والمجونة إلا في الأوساط المتشددة كالذي ذكر أبو حيان التوحيدي من أن أبا عبد الله البصري كان يسمع غلاما يغني : أنسيت الوصل إذ بتنا على مرقد ورد واعتنقنا كوشاح وانتظمنا نظم عقد وتعطفنا كغصنين فقدانا كقد فطرب أبو عبد الله طربا شديدا،فعابوه على ذلك وقدحوا في دينه وألصقوا به الريبة"ج1ص141 فعلى ذكر أبي نواس سيصوغ المؤرخون للمجون حوله عدة حكايات ونوادر شعبية عن ميله للشذوذ الجنسي،منها ما قد يؤخذ كواقع فيما تتناوله الكتب التاريخية ومنها ما هو من نسج الخيال وبعض الوقائع المشبوهة . غير أن المبالغات كانت هي السمة الغالبة في وصف هذا الشاعر وغيره وخاصة في العلاقة بالخليفة العباسي هارون الرشيد ،إذ اقتران وجود أبي نواس وغيره في صورتهم المجونية بالخليفة المذكور سيسيء إلى سمعته تاريخيا وسيفتح مجالا للفساق ومؤرخي المجون وخاصة أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني"لأن يطعنوا في استقامته وطهارة عرضه سلوكه. لكن الأمر ليس كذلك إنما هي من مبالغات الماجنين ورواة الفسق الخيالي،كما يقول أحمد أمين :"تقرأ كتاب الأغاني فتخرج في كثير من الأحيان على صورة للرشيد يخيل إليك معها أنه عاكف على اللهو والطرب لا عمل له إلا أن يسمع الغناء ويخلط الندماء ويثيب الشعراء...". وهذا الوصف فيه مبالغة وخلفية حاقدة على العباسيين وسعي إلى هدم معالم دولتهم وأسسها، بل قد تعدى الأمر أيضا باتهام المأمون أيضا بالشذوذ من خلال هذه الحكايات التي تكون غالبا من نسج الخيال ولغط الندماء ،وهو ما كان يؤكده لنا الباحث المرحوم الدكتور رشدي فكار في بعض محاضراته عن موقفه من كتاب الأغاني والخلفية الذاتية والحاقدة لتأليفه. في حين قد يرجع البعض سبب هذا الانفلات السلوكي إلى مبادرة السلطة إلى كشف أعمال المترفين والندماء على الملأ للجمهور ومن ثم انفلت الزمام وعمت المصيبة فلم يقدر على ضبطها لا الحاكم ولا المحكوم. يقول أحمد أمين أيضا :"في الحقيقة أن المهدي-الخليفة العباسي- فتح للناس باب اللهو ،ورسم لهم حدا يقفون عنده فتخطوه ،وحاول أن يقفهم عند الحد الذي رسمه بإيقاع العقوبة على من تجاوزه فلم ينجح". فهذه نقطة مهمة ينبغي أن يتنبه لها كل حاكم أو عالم أو ذي هيئة محترمة صادق في مجتمعه،إذ مجالسة الفساق والمجان وفتح المجال على مصراعيه للعموم قد تورث عدوى الفسق، إما بالتقليد وإما بفتح الإشاعة عن الحاكم نفسه أو العالم أو ذي منصب محترم واتهامه بنوع الفسق والشذوذ الذي يتهم به مجمل المجلس الذي ضم شواذا أو سكارى ومجان،بحيث أن مجالسة نافخ الكير أو الحداد كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة"،وكفى بهذا وعظا وتذكيرا لمن يعتبر. هذا الاقتران وما ترتب عنه من العدوى في الاتهام لهارون الرشيد وغيره بسبب مجالس أبي نواس وأمثاله جعلت ابن خلدون المؤرخ الكبير يبرئ ساحة الخليفة مما دسه على شخصيته رواد الفسق والشذوذ من أكاذيب على أمل منهم في أن يصبح اللواط والتشبيب بالغلمان ومعاقرة الخمر منهجا وخطابا رسميا للدولة والمجتمع وليس مجرد شذوذ بعض الشعراء الماجنين ممن يعدون على الأصابع في أكثر تقدير. بحيث يقول ابن خلدون في المقدمة :"وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر واقتران سكره بسكر الندماء فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بمنصب الخلافة من الدين والعدالة وما كان عليه من صحابة العلماء والأولياء ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعري ومكاتبته سفيان الثوري وبكائه من مواعظهم ودعائه بمكة في طوافه وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها !حكى الطبري وغيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاما ويحج عاما،ولقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذك في الصلاة لما سمعه يقرأ:"وما لي لا أعبد الذي فطرني "وقال :والله ما أدري لم "فما تمالك الرشيد أن ضحك،ثم التفت إليه مغضبا وقال :يا بن أبي مريم في الصلاة أيضا؟"إياك إياك والقرآن والدين !و لك ما شئت بعدهما"المقدمة ص24 المكتبة العصرية. 2) نعم :إياك إياك والقرآن والدين! إنه موقف شريف و درس لكل حاكم وعالم أو ذي سلطة لضبط ندمائه ومجالسيه حتى لا يسلبوا مجلسه من هيبته وبالتالي قد يسهل على كل ذي نية سوء وخبث بث ما في جعبته من سموم وانحراف مدمر،سواء كان على المستوى العقدي أو السلوكي وبالتالي فعند التساهل معها قد تصبح ذات تسليم رسمي لدى العامة والخاصة ،طالما أن الحاكم وكذلك العالم لم يلجما جموح المجان والفساق وصناع الرذيلة بلجام هيبة الدين والشريعة والسلطان! فهارون الرشيد هذا وغيره من العباسيين قد كانوا بالمرصاد لما سيعرف بالباطنية والزنادقة من المجوس سواء كنوا فرسا أو غيرهم ممن تسربوا إلى المجتمع العربي الإسلامي،والذين كانوا يمثلون رأس الحربة في تكريس الإباحية والشذوذ بكل أنواعه من بينهم :القرامطة و البابكية والمانوية والخرمية وغيرهم أقتطف وصفا لبعض منها من طرف الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه "فضائح الباطنية" بقول عنها: "وأما الخُرَّمية فلقبوا بها نسبة إلى حاصل مذهبهم وزبدته،فإنه راجع إلى طي بساط التكليف وحط أعباء الشريعة عن المتعبدين،وتسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات !. وخُرَّم لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ المستطاب، الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته،ويهتز لرؤيته.وقد كان هذا لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس،الذين نبغوا في أيام قباذ وأباحوا النساء وإن كن من المحارم،وأحلوا كل محظور،وكانوا يسمون "خرمدينية"فهؤلاء أيضا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب ،وإن خالفوهم في المقدمات وسوابق الحيل والاستدرج. إذن فالشذوذ الجنسي في التاريخ العربي الإسلامي قد بدأت بوادره لما ضعف نفوذ العرب والمسلمين المخلصين في تسيير دفة الحكم والتأثير القوي على المجتمع ولما تغلغلت الزندقة في أوساط المثقفين والشعراء المتصدرين للمجالس الرسمية للدولة، وهو ما يلخصه أحد أمين حول الدولة العباسية وخصوصياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية: "فإذا نحن ظفرنا إلى العصر العباسي وجدنا الناس وخاصة الفرس الذين دخلوا في الإسلام وكانت لهم الغلبة على مرافق الدولة لم يعودوا يتذوقون بذوقهم الفارسي الشعر العربي الجاهلي وإنما يتذوقون ما ألفوا من التغني في شعرهم بالحب والخمر ،فظهر العباس بن الأحنف الخراساني البيئة وأبو نواس الفارسي الأم يشبعان ذوقهما ،الأول في عشقه والثاني في خمرياته. قد كان للعربي الجاهلي شعر في الحب وشعر في الخمر ولكن شتان بين خمريات طرفة وخمريات أبي واس وشتان بين شوق امرئ القيس وشوق العباس"ضحى الإسلام ج1ص22 . لكن ورغم مجون أبي نواس وأمثاله مما ينسب إليه وما نطقت به أشعاره إلا أنه مع ذلك كان يرى الباب مفتوحا للتوبة ويشعر أن ما يخوض فيه جرم وخبث يحتاج معه إلى التطهير كما نجد لديه هذه الأبيات : يا رب إن قد عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت أن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن يلوذ ويستجير المجرم أدعوك ربي كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم أني مسلم فهذا يؤشر بأنه مهما أراد الشذوذ أن يطفو على السطح إلا ووجد في الأمة من يغيره في حينه أو من يصحي الغارق والمنغمس فيه حتى يثوب إلى رشده وبالتالي فلا تعم آفته كل المجتمع ما دامت هناك مضادات حيوية ومنبهات فكرية وأدبية. بحيث في مقابل أبي نواس مثلا كان يوجد أبو العتاهية وغيره يحمل لواء المناهضة والتصحيح بواسطة الأدب والشعر البديل والمضاد تماما كما هو دور السماع الصوفي في تهذيب الأذواق والأخلاق،أقتطف بعضا من أبياته يقول فيها: خانك الطرف الطموح أيها لقلب الجمح لدواعي الخير والشر دنو ونزوح هل لمطلوب بذنب توبة منه نصوح كيف إصلاح قلوب إنما هن قرح أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح سيصير المرء يوما جسدا ما فيه روح هكذا كان التدافع في التاريخ العربي الإسلامي رغم وجود ضعف سياسي وتغير اجتماعي كبير بفعل التمازج الشعوبي والعرقي والثقافي المعقد . بحيث حينما كان أبو نواس وأمثاله يسعون إلى فتح باب المجون والشذوذ على مصراعيه ليطبِّعه في المجتمع فقد كان له بالمرصاد أبو العتاهية ورفاقه يدعون إلى البر والزهد والطهارة وصفاء العنصر الإنساني ،ومن ثم كانت الغلبة في النهاية لكفة أبي العتاهية على أبي نواس الذي عاد يرجو التوبة ويطلب العفو و ينحو إلى التطهير والاستغفار بالاضطرار قبل فوات الأوان. وهكذا فسنجد في التاريخ العربي الإسلامي تكاملا بين الأدب والفقه والتصوف في مكافحة آفة الشذوذ بكل أنواعه بل معالجته من طرف الأطباء أيضا الذين سيكتشفون مرضا شذوذيا فيسيولوجيا عرفوه ب "الأبنة" يكرس الخنوثة والنزعة اللواطية، منهم من قد اعتبره وراثيا وإحساسا خبيثا ،و بالتالي ستكون له علامات موضعية وستوصف له علاجات مادية عشبية في غالب الأحيان كما نجده في التذكرة للأنطاكي وقبله ابن سينا في القانون في الطب وغيرهما... في حين سيبحث الفقهاء في تقديم الأحكام القضائية لردع من تسول له نفسه بإعلان الفسق والشذوذ وتعميمه،إذ كان الحكم يتفاوت بين إقامة حد الزنا على مرتكب عمل قوم لوط وبين الإفتاء بقتله أو إذايته بشكل جماعي، وهذا في الرجوع إلى قرار الحاكم أيضا باعتباره حاميا للأمة من الفساد وله حق إقامة حد الحرابة على كل من يسعى لخلخلة الأمن والأخلاق العامة كما قد يوجد في الكتب الفقهية وخاصة على المذهب المالكي. في حين قد كان الصوفية يحللون هذا المرض السلوكي ويسعون إلى تبيين أسبابه السلوكية والأخلاقية كمقدمات وعوامل. فالصوفية كانوا وما يزالون يحذرون من صحبة الأحداث والخلوة بهم خوفا من الوقوع في هذا المحذور رغم تقواهم وصفاء منهجهم التربوي،كما نجد في القشيري يقول في الرسالة:"ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله تعالى بشيء من ذلك فبإجماع الشيوخ :ذلك عبد أهانه الله عز وجل وخذله ،بل عن نفسه شغله ولو بألف كرامة أهله وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر تلويح بذلك أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى بعد ذلك يسيرا وقد قال الله :"وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم" ...ويقول فتح الموصلي:صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الأبدال كلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم..."ص184. في حين سنجد محاولات لتصنيف الشذوذ بحسب الأقوال والأحوال والحركات كما يحكي السهروردي عن بعض الصوفية قولهم:"اللوطية على ثلاثة أصناف:صنف ينظرون،وصنف يصافحون،وصنف يعملون ذلك العمل،فقد عين على طائفة الصوفية اجتناب مثل هذه الجماعات واتقاء واضع التهم ،فإن التصوف صدق كله وجد كله"عوارف المعارف دار الكتب العلمية ص113. فعلى هذا التحذير عند الصوفية سنجد شيخا محققا ومعاصرا من شيوخ الطرق الصوفية في المغرب يعطي تعليماته للمريدين كي يتجنبوا كل مظاهر السلام المبالغ فيه على مستوى المعانقة وتقبيل الوجوه كما جرت عليه العادة السيئة في مجتمعنا تقليدا للغرب ،والاكتفاء السلام اليدوي تفاديا لأية شبهة أو إثارة ،كما سيصدر أوامره بمنع اعتكاف كل شخص لا يتجاوز عمره الخمسة عشر سنة،هذا مع مراقبة صارمة لكل مريد في تحركه داخل الزاوية ومنعه من مغادرتها للتجوال عبر الضواحي من غير استئذان أو ضرورة،وكذلك تنظيم فترات النوم ومنع التقارب أو الخلوات بين صغيري السن وكبيرهم على مستوى التلامس أو النوم في غطاء واحد. كل هذا وعيا منه واحترازا من وقوع ما لا تحمد عقباه عند الإهمال،وهو ما لم تقم به كثير من المؤسسات التربوية أو الكشفية أو المهنية وغيرها في عصرنا رغم خلوها من الوازع الروحي كأهم دعامات الوقاية من الشذوذ ومقدماته. ثالثا:الشذوذ المرفوض ومراحله بالمغرب المقصود كما سبق وقلنا أن العرب والبربر لم يكن لديهم شذوذ بالمستوى الذي قد يعتبر ظاهرة أو قضية تحتاج إلى العلاج والتحليل العلني الرسمي والعلمي ،وذلك لنزعة الأنفة الرجولية لدى الفريقين ولفضيلة الشجاعة والغيرة اللتان تتنافيان مع هذا الورم الشهوي الخبيث كما سبق وبينا باختصار شديد. من ثم فقد كان العربي لا تسمح له نفسه بإهانة أخيه الذي تجمعه به رابطة العشيرة والقبيلة والدم والصهر وما إلى ذلك. لكن حينما تختلط العناصر وتنتقل معها الثقافات وأنماطها السلوكية الموروثة فقد يتسرب الفيروس الفاتك بهذه المناعة من حيث لا يشعر هذا الفريق أو ذاك إلى الوسط المجتمعي وذلك على شكل دبيب ورذاذ أول سابق للسيل الجارف ومنذر به! فقد لا يسع الوقت لتعقب آثار الشذوذ المرصود في تاريخ المغرب ماضيا وذلك لصعوبة الإثبات في هذا المجال ولاستحالة التدوين لأسباب دينية أخلاقية واجتماعية ونفسية وسياسية، وكذلك للتحفظ والاحتراز من أن يصبح الموضوع مشاعا رسميا متداو بشكل عادي عند العامة والخاصة. فكل بلد لابد وأن يوجد فيه الصالح والطالح والتقي والفاسق والسليم والسقيم على مستوى التوجهات الفردية والانفلاتات الشخصية،لكنه على مستوى الدولة لم يكن هناك مما يشير من قريب أو بعيد إلى بسط النفوذ للمجان والشاذين بمحاذاة أو معاقرة مع الحكام والسلاطين. 1-إذ الغالب على الدولة المغربية أنها كانت ذات نزعة دينية في أغلب تكويناتها وتميل ابتداء إلى الزعامة الروحية المنافية لكل مظاهر الفسق والغلو المادي والشذوذ بأنواعه،ابتداء من الدولة الإدريسية حتى العلوية،وبهذا فقد حافظت على قوتها وهيبتها وصلابة عصبيتها كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات –حسب تعبير ابن خلدون:"فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعا وثلاثين ألفا في كل معسكر وجمع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسية ومع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزوهم وغلبوهم على ما بأيديهم. واعتبر ذلك في دولة لمتونة ودولة الموحدين ،فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشف عليهم ،إلا أن الاجتماع الديني ضاعف من قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه ،فلم يقم لهم شيء"المقدمة ص147 لكن مع هذا فقد تخلل التاريخ المغربي نوع من الشذوذ السياسي والمفارقات المذهبية من خلال دولة البورغواطيين ذات النزعات المنحرفة عقديا وبالطبع ستكون سلوكيا،وأيضا بعد سيطرة دولة العبيديين ومرورا بالسعديين وما ظهر فيهم من طائفة العكاكزة التي قد توصف بالانحراف وأنواع الشذوذ إن لم يكن جنسيا فسلوكيا عاما . لكنه مع كل هذا فقد بقيت الدولة قائمة على أسس دينية وذهبية سنية تقاوم كل أنواع الدجل والزندقات من خلال الرأي العام ومن طرف الأولياء والصالحين الذين عرف بهم المغرب بكثرة على مر التاريخ،كان من أبرزهم تاريخيا الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش ومقاومته لأبي الطواجن في دعواه النبوة وما صحبه من دجل وزندقات. غير أن التغير الكبير الذي سيحدث في هذا التوازن الاجتماعي والعقدي والسلوكي للمجتمع المغربي هو ما سيظهر في زمن ما يعرف بالسيبة وفرض الحماية على المغرب وبسط المستعمر نفوذه على أرجاء البلاد. من هنا سيعم ويتعمق الجهل والتخلف الذي كان أصلا قد حل منذ زمن بعيد، أي عندما أقفل باب الاجتهاد ولم يعد من يستطيع معالجة النوازل والإفتاء الموضوعي فيها،في حين سيتسرب الانحلال السلوكي رغم المقاوم الذاتية من طرف الغيورين والمحافظين على أصالتهم. لكن ،ورغم سيطرة المستعمر، فقد يحكي من عاصروا الفترة الاستعمارية أن الوضع الديني والسلوكي قد بقي أكثر استقرارا مما سيأتي بعيد الاستقلال ،بل إن البعض منهم كثيرا ما سيتمنى لو عادت الحياة الاجتماعية بوقارها إلى فترة الاستعمار ولكن بدون مستعمر طبعا،وسيعبر بمثل هذه الكلمات التي يعرفها أهل الشمال وخصوصا بتطوان:"الله يرحم الحْكام دْيال عشعاش"،نسبة إلى أحد الباشوات-فيما أظن- الذين مروا بالمدينة وحكمها بيد من حديد ،لغاية أنه في تشدده - فيما يزعم - قد كان إذا سمع امرأة تغني على الملأ يحلق شعر رأسها وغير ذلك مما قد يستساغ تأديبا أو يعتبر تطرفا أو مغالاة في قمع الحريات التي كان لها مبرر من جهة،وذلك للحفاظ على سلامة العرض المغربي من أن يصبح مطمعا وسهما جنسيا للمستعمر حينما يرى المرأة المغربية قد خرجت بنفسها لعرض مفاتنها وشهواتها. من خلال هذا التحفظ وأمثاله لم يستطع المستعمر بقوته العسكرية أن يحدث تغييرا اجتماعيا جذريا لدى المغاربة يمكن من خلاله أن يسلبهم هويتهم وقيمهم رغم أن الأوروبيين في الضفة الشمالية للبحر المتوسط كانوا يمثلون مركز وبؤرة الشذوذ الإباحية بثقافاته وتنظيراتهم الرسمية ... إذ في القرن العشرين ستعرف أوروبا ومعها أمريكا أنماطا من الدراسات الإنسانية كان غالبها يركز على الإشباع الغريزي المادي والشهوي بالدرجة الأولى على شكل ثورة جنسية على نمط الثورة الفرنسية وحدتها. فكانت المدرسة الفرويدية ومذهب الفرويدية الجديدة انبثقت منها الرايشية نسبة إلى الباحث النفسي الأمريكي رايش والتي تدعو صراحة إلى الإباحية الجنسية ورفع القيود عن أية رغبة شهوانية سواء كانت شاذة أو طبيعية،شرعية أو غيرها، إنسانية أو بهيمية. بعدما انسحب المستعمر عسكريا من المغرب سيخلف لنا استعمارا ثقافيا مبرمجا وذلك من خلال المجندين الفرنسيين خاصة أو ذوي الخدمة المدنية للتدرب على حساب عقول المغاربة والتدريس في مجالات حيوية وذات طبيعة مادية وأيديولوجية صرفة مع تسميتها بالعلوم البحتة من جهة والعلوم الإنسانية والموضوعية من جهة أخرى ،لكنها في الحقيقة كانت دائما محشوة بالنظريات الأوروبية الحديثة وفلسفاتها الوجودية والداروينية والفرويدية والرايشية ،قد كان أغلبها يبث ويلقن عبر العلوم الطبيعية والجيولوجية والبيولوجية والآداب،بل حتى عند ضرب الأمثلة في المجال اللغوي كان يكرس شرب الخمر والحب والغزل غير المقيد مازالت مع الأسف تدرس نماذجه لحد الآن في بعض مضامين الكتاب المدرسي الرسمي. فمن بين مظاهر الشذوذ والدعوة المقنعة إلى سلوكه قد كانت تطرح أوهام فرويد بقوة وتركيز ماكر حول محورية الغريزة الجنسية في كل السلوك الإنساني ،وذلك بترتيبها على شكل خبيث وماكر بربط الرضاعة عند الطفل بالمرحلة الجنسية الفمية ثم بعها المرحلة الإستية(الشرجية)وهذا مربط الفرس في تكريس الشذوذ المبطن والممهد له. كل هذه العوامل كان لها تأثير على المثقف المغربي ،وخاصة المراهق المنبهر بالثقافة الغربية والخالي ذهنيا من التكوين العلمي الشرعي وكذلك العقلي الرصين والفراغ الروحي الرهيب الذي خلفه لديه المستعمر إضافة إلى هذا وجود عقدة الشعور بالنقص والشعور بالدونية تجاه المستعمر والمتجسدة بصورة التعظيم له والاعتقاد بامتلاكه الناصية المطلقة لكل العلوم تقنيها وطبيعيها ورياضيها وإنسانيها... من هنا فقد اجتمعت لدى المثقف المغربي بعيد الاستقلال عدة عوامل مؤهلة لظهور بوادر الانحراف والشذوذ بأنواعه،منها الجهل والفسق والشعور بالنقص والتطلع إلى التحرر من القيود التي فرضها التشدد في الحفاظ على التقاليد التي في أغلبها لم تكن من فرائض الدين ولا من نوافله في شيء وإنما هي أعراف ومواضعات اجتماعية فرضتها ظروف الاستعمار والاحتياط من مباطشه. كثير من هؤلاء المثقفين سيكرس وجهته إلى العدو التقليدي للغرب آنذاك الاتحاد السوفياتي الشيوعي المذهب و الإلحادي العقيدة. كما أن منهم من دفعه الحنين بسبب الانبهار ورغبة في اللحاق بالركب المعاصر توهما لمواصلة التواصل مع كتلة الغرب التي تولت استعماره وطمس معالمه الحضارية التاريخية وسلوكه الأخلاقي والتشريعي الديني. هكذا إذن اجتمع في المغرب لفيف من الماديين المتصارعين على السلطة والمال وامتلاك ناصية الثروات بالبلاد بأي وسيلة وأعمال ولو على حساب أصالتهم وطهارة أعراقهم ،رغم ادعائهم للوطنية والمقاومة المزعومة ،إلا من رحم الله من الوطنيين الصادقين والشرفاء الذين بقوا على العهد وقليل ما هم. في حين بقي الجمهور الغالب يتخبط في العيش على الكفاف أو الفقر و الأمية والجهل وضعف التكوين،الذي كان يتم في بداية الاستقلال ارتجالا وملء للفراغ بكل من هب ودب وبمجرد أن المعلم يستطيع أن يقرأ أو يكتب جملة مفيدة أو يحفظ متنا لغويا ،وخاصة بعد طرد الأساتذة المصريين من المغرب لأسباب سياسية كان من ورائها الصراع الإقليمي الذي أججته الكتلتان آنذاك: الشرقيةوالغربية ،ما زلنا نجتر مرارته لحد الآن بسبب تعنت الجيران الخارجين عن دارة التاريخ من الجزائريين. لهذا فالتباعد بين الشريعة من خلال غياب سلطة العلم وبين هيبة السلطان بسبب الضغط أو التقييد من الحريات في اتخاذ القرار ولو بعد الاستقلال سينتج عنه نوع من انفصام الشخصية لدى الكثير من المغاربة من حيث علاقتهم بالدين والتاريخ والقيم العامة للمجتمع ،كان من أبرزها - وهذا ما يتذكره أجيال الخمسينات والستينات وحتى السبعينات-هو أن بدأت تسمع ألفاظ شاذة على الملأ تتضمن السب واللعن العلني للدين نفسه بل قد يسب الرب سبحانه وتعالى في صورة إلحادية فسقية وحاقدة وهستيرية ،وهو الشيء الذي لم يكن يحدث أبدا ولو في مرحلة الاستعمار،بحيث كما يحكى أن بعض المستعمرين الفرنسيين وليس كلهم طبعا كانوا أحرص على احترام الدين الإسلامي وشعائره ومن يزاول العمل به - وخاصة من كانوا يعتبرون أولياء- من بعض المغاربة أنفسهم الذين ضعفت حرارتهم الدينية بفعل الجهل والانبهار بالكافر والطمع المادي... بل إن نظام العلاقة بين الجنسين قد كان أكثر احتياطا واحتراما وحفاظا على مظاهر الحياء والوقار ولو في المصطافات والشواطئ،بحيث نتذكر ونحن صغار أنه كان بمدينة مرتيل في ضواحي مدينة تطوان بالشمال يوجد فصل عملي ومكاني بين الجنسين عند الاستحمام في الشاطئ،وهو ما كان يتم على شكل سياج من الأسلاك بطول مسافة الشاطئ حتى الرصيف العمومي،وبين السياجين كان يوجد فراغ على قدر إتلاف الرؤية الواضحة للأشخاص والأجساد المستحمة سواء من جهة الرجال أو النساء. في حين قد كانت ألبسة العوم نوعا ما تميل إلى الستر الذي لا يسمح بالإثارة الشذوذية بين الجنسين على حد سواء،على عكس ما هو عليه الحال الآن. بهذا فقد كان الناس رجالا ونساء أبعد ما يكونون عن مظاهر الشذوذ وتعويمه في المرافق العامة ،إلا ما كان يحدث من بعض الشواذ من مريضي النفوس المعدودين على الأصابع والحذرين من افتضاح أمرهم أشد حذر،وهذا لا يخلو منه عصر أو بلد مهما تسامى في الانضباط والمراقبة والتطبيق الشرعي ،لأنه من خبث بعض النفوس و بقايا الشيطان وحظه في كل مجتمع. أنقر هنا لقراءة تتمة الموضوع الرفض الديني والتاريخي للشذوذ بالمغرب "" الدكتور محمد بنيعيش -أستاذ بكلية أصول الدين -جامعة القرويين تطوان [email protected]