يبدو أن البشرية قد أخذت تنحو بشكل جماعي إلى فقد للهوية والخاصية المميزة لها عن سائر الكائنات الحية وشبه العاقلة،وذلك من خلال ما نلاحظه من هذا النزوع الجنوني نحو سفك الدماء وإهدارها على شكل شلالات ووديان لم يسبق له مثيل في التاريخ! أولا:التعذيب بين الحيوان وجنس الإنسان 1- من خصائص الحيوان المفترس ذي النزعة الغضبية والسبعية كما يعبر عنه علم النفس القديم أنه لا يأكل جنسه،بل لا يقتله كقاعدة عامة ،اللهم إلا إذا ضاقت به السبل لتفادي هذه المواجهة والتي لم يكن له منها بد... كما من سلوكياته أن يقيم تحالفا مع بني جنسه ضد الجنس الآخر،الذي يختلف عنه وراثيا وصبغيا وصوريا وشكليا،وذلك حينما تتعارض مصالحه الحيوية معه ويصطدم به على أرض الواقع كمنافسة جادة ومنغصة بل مهددة لكيانه. في حين قد نرى من مميزات سلوك الحيوان أيضا أنه إذا تمكن من عدوه فهو إما أن يغض الطرف عنه لسببين وهما:إما أنه غير مؤذي له ولا يشكل خطرا عليه ،وإما أنه غير مرغوب في مصالحه لوجود إشباع واكتفاء ذاتي لديه. من جهة أخرى فقد يزمجر في وجهه ليطرده من محميته إن اقتحمها خطأ أو مع سبق الإصرار،وإما أن يجهز عليه بالمرة فيودي بحياته بأيسر السبل وأسرع الضربات ،وذلك لتفادي تعذيبه بأقصى حد ممكن ،وهذا ما يعرفه جيدا المتتبعون لعالم الحيوان بالتحقق منه ميدانيا قد نجده معروضا على شكل أشرطة وثائقية... كما أن من خصائص الحيوان أن لا يستولي إلا على ما يلزمه في الحال لإسكات جوعه وتلبية حاجته ورغبته الآنية،ثم بعد ذلك يترك الباقي للآخرين من جنسه وغيرهم كمشاهدة في الواقع بين الأسد و اللبوءة والأشبال ،ثم تأتي بعدهم الضباع والذئاب والنسور وسائر الطيور الجارحة ، بل حتى النمل وغيرها من الحشرات... كل هذه المظاهر وغيرها تعطي للإنسان دروسا في السلوك مع بني جنسه وغيرهم، كان من المفروض أن يكون فيها أرقى من الحيوان السابق ذكره ،سواء في طريقة استيلائه على الموارد المادية أو طريقة توزيعها وأيضا أسلوب تعامله مع بني جلدته ،كان من قومه أو من غيرهم. 2- لكن مع الأسف الشديد قد نجده(وأخص إنسان زماننا لأنه يدعي التقدم والتحضر) يبدو أحط من حيوان الغابة ،لأن هذا الأخير له قوانين يلتزم بها مناسبة لحاله ومستواه التكويني والغريزي ،بحيث قد يمارسها بشكل تلقائي ومتكرر منضبط لا لبس فيه ولا تغيير،لأنها سنته التي خلقه الله عليها،فخضع لها وأوجب على نفسه احترامها والتزامها ... أما الإنسان العاقل فهو يبدو قد جمع بين نزعتين من غير خصائصه :كلاهما أسوأ من غيرها وأحط من مستواه المميز له ،ألا وهما كما عبر عنه أيضا علماء النفس الأقدمون:الروح الشيطانية والروح الحيوانية ،ومن ثم كان وضعه أسوأ من الشيطان والحيوان معا ،فلا ظهر أبقى ولا أرضا قطع! هذه الشيطنة و الحيونة-إن صح التعبير- تبرز لدى إنسان عصرنا على مستويات متعددة ،ابتداء من الفرد كوتر ومرورا به شفعا وزوجا ،ثم أسرة ثم جماعة ؛وأخيرا شعوبا ودولة . فكانت الدولة مجابهة للدولة ،وداخل كليهما حمولات متعددة من ذوي الشيطنة والحيونة على النمط الذي أشرنا إليه من قبل،في حين بدا الصراع على أشده بين الكتل والطوائف بشكل تصاعدي من البسيط نحو المركب ثم يعود الدور إلى نقطة البداية. موازاة مع هذا فقد ينسب الكل الخلل إلى الحاكم الذي بدوره يعكسه على المحكوم،أو يبرره بسطوة حاكم آخر أقوى منه أو ذي نفوذ أوسع من نفوذ دولته،وهكذا تسترسل التهم وتبادل الملام والتبرؤ مما يصدر عنهم من فظاعة و إذاية لبعضهم البعض بغرور القوة والسلطة والطغيان ،الذي أدت إليه السياسات الهوجاء وفساد التصورات والأهواء بإسقاطها لمفهوم العدالة ودور القصاص في إعطاء حق الحياة والأمن وكمال العدالة :"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"الآية. لكن عند التحقيق ينبغي أن لا يتملص أي إنسان من مسؤوليته حينما يقدم على عمل يؤذي فيه غيره بالقصد ونية التعذيب مهما كان المبرر،لأن لديه عقلا خصه الله به من دون سائر الكائنات الحية على الأرض ؛ثم جاء الشرع على لسان الأنبياء الذين هم أيضا من بني جنسه ليوقظه ويحكم به على وعي وإدراك لخاصيته وإعلامه بأنه كما يقول ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه:"جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته وأنك جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته ". فلو تتبعنا هذا التحليل الذي يضع الإنسان ذا الضمير أمام مرآة نفسه لما انتهينا إلى المقصد في هذا المقال الوجيز،ولكن كان لا بد من التعريض بهذه المبادئ عسى أن تكون لها آثار في التحريض وإيقاظ الهمم لاستدراك هذه الطامة الملمة ببني الإنسان في هذا الزمان ومراجعة الحال قبل الاستفحال!!!. ثانيا:ظاهرة التعذيب الإنساني و مجالاته فتعريضنا هذا كان يقصد مسألة جد مهمة وخطيرة في التاريخ السياسي الحديث ألا وهي :ظاهرة التعذيب! تعذيب المواطنين والمتهمين الأضناء وتعذيب المحاربين والأعداء،والمآل واحد في كل الأحوال. 1-فالأول قد يكون بين الشخص وقومه من بني عشيرته،ولا أقول من جنسه كي لا نقع في وهم العنصرية ونغالط أنفسنا بأوهام الحيوانية وتعدد أجناسها وعناصرها،إذ المنطق القديم يقول بصفة عامة عند حد الإنسان بأنه :حيوان ناطق،وذلك بجمعه بين ما يعرف بالجنس القريب والفصل القريب ،ومن ثم فلا يمكن حده أبدا بأنه حيوان ناهق،وذلك لفقد الخاصية وبعد الفاصل . أما التعذيب الثاني فيكون بين بني دولة أو قوم ودولة أخرى قد تختلف فيما بينهما لغة وعقيدة ولونا وأعرافا وعادات، ولكن لا تختلف عنها إنسانية؛ للقاعدة الجامعة بين بني البشر دون سائر الحيوانات. في حين قد تتضارب مصالح هذه الدول وتتداخل أو تتشابك حدودها وتخترق مجالاتها من هذا الطرف أو ذاك، مما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى الحروب والأسر والتجسس على الآخر وما إلى ذلك... إن موضوع التعذيب من داخل دولة ما قد يكون في أغلب الأحيان لأسباب سياسية أكثر منه مدنية أو جنائية محضة،وذلك لأن موضوع السياسة يعتبر متأرجحا بين الاحتياط الداخلي وتوقع التدخل الخارجي ،بحيث أن كل معارض سياسي إلا وهو متهم أو محتمل تورطه في عمالة للأجنبي ،ومن ثم كان التشديد في التعذيب عند كثير من الدول بذريعة حماية السيادة الوطنية والأمن القومي والحفاظ على وحدة البلاد واستقرار النظام العام ... 2-غير أن اختلاط الأوراق وتوسع دائرة الإعلام والتواصل عن طريق، الأنترنيت والهواتف المحمولة وغيرها،جعل من كل قضية سواء كانت مدنية أو جنائية قابلة لإحداث ضجة سياسية على المستوى الخارجي واستغلالها داخليا من طرف الحكومات أو المنظمات المعارضة على حد سواء،وبالتالي ستصبح محل تسييس وذات طابع أيديولوجي تتشابك عنده المصالح وتستغل به المجالس وتمارس من خلاله الضغوطات ،كما ستتنوع على غراره وسائل التعذيب وطرق تبادل المعلومات حول أساليبه الفتاكة والناجعة في نظر ممارسيه . كل هذا على حساب كرامة الإنسان وشرفه وقيمته الوجودية بالمقارنة مع جاره الحيوان كما سبق ومهدنا لواقع هذا الأخير. فالتعذيب معناه -في نظرنا-:" إيلام المتهم إلى أقصى مستوى قد يضطر حينه إلى التصريح بأقوال واعترافات بأفعال قد يكون ارتكبها فعلا أم لا!!!". على هذا فلابد من التمييز بين العقاب والتعذيب،إذ العقاب في تصورنا هو مجازاة محدودة ومحصورة في مقابلتها لنوع معين من الخطايا أو الجرائم قد يتم في لحظة أسرع من الخطيئة نفسها ،أما التعذيب فهو تمديد العقاب مع تنويع وسائله وأساليبه وفنونه لفترة زمنية متفاوتة المدة والشراسة؛و مع وضعه في غير مكانه المناسب كموضوع للقصاص واستحقاقه ،فيكون معه ما لا يطاق من الألم قد تتجاوز به الحدود ويفقد معه القصاص خصائصه العلاجية،بحيث قد يتحول عند المعذب بعد إفلاته من يد معذبه إلى نزعة انتقامية وعنف دفين في النفس سيصبح ذا طبيعة دورية بين المجتمعات الممارسة لهذا النوع من السلوك ،سواء تعلق الأمر بالحاكم مع محكوميه أو الدول مع بعضها البعض وكذلك المجموعات والمنظمات المتناحرة والمتصارعة على النفوذ وبسط السلطة والاستبداد... ثالثا:أحكام التعذيب من خلفيات سادية 1-فهذا النوع من التعذيب يعتبر إكراها ،وهو من الناحية الشرعية غير مقبول ،كما أنه من الناحية النفسية قد يعتبر غير مدان لأن لدى من مورس عليه اختلالا نفسيا ؛حسب تعبير علماء النفس الغربيين المعاصرين، الذين يبررون بها عدة جرائم حينما تتعلق بغير قومهم!!! فإذن لماذا يمارس الغربيون التعذيب على غيرهم لاستخراج الاعترافات مع وجود الخلل النفسي بالإكراه غير المشروع أو غير المقبول طبيا ونفسيا ،والذي قد يعتبر لديهم قاعدة علمية حينما يتعلق الأمر ببني جلدتهم الذين يرتكبون جرائم فظيعة وثابتة في حق غيرهم؟أهذه هي العدالة التي يدعون السبق في تطبيقها ؟ كلا! إن هذا الإجراء لا يمت إلى العدالة بصلة ،ونموذج أبو غريب وغوانتنامو وغيرها من السجون الغربية خير شاهد على ما نقوله! . فالإيلام بهذه الصورة فيه إضرار بالنفس والجسد والحقيقة معا، تجمع حقيقة الإنسانية وحقيقة الواقع المبحوث عنه في ظل التعذيب. 2- إضرار للنفس بسب الرعب والصدمة والإحباط الذي يصاب به المعذب حينما يكتشف أن بني جنسه يفتكون بعرضه وجسمه وكرامته أقصى من فتك الحيوان بأخيه رغم دعواهم التشبث بالقوانين والمواثيق الدولية وما إلى ذلك من الشعارات،في حين قد كان يظن-أي المعذب- أنه يناضل من أجل التصحيح ويظن أن البشرية كلها مثله تحمل في داخلها رغم الاختلاف والتعارض تصورا للحقوق والحرمة والتسامي على منطق الغاب والذئاب والعفة عند وجود الغلبة،وذلك لاغتراره بالصور والدعايات الإعلامية والزيف المدني والتكنولوجي وبريقه المغلف للشر المخفي من وراء مرآته. -إضرار للجسد بالقرص والكي والوخز و الشدخ والكهربة والاغتصاب أيضا ،مما يجمع بين الإيلام النفسي والجسدي وذلك على مرأى ومسمع من المعذب الضحية الذي لا حيلة له سوى الصراخ والأنين في مسايرة هذا العدوان الذي ما أنزل الله به من سلطان !. - إضرار للحقيقة بشقيها المكرمتين: حقيقة الإنسانية وتأسيسها النفسي على مبدأ الشعور المشترك والجنس القريب كما ذكرنا ،وكذلك تأسيسها على العدالة من منطلق: كما تدين تدان ،والمتهم برئ حتى تثبت إدانته كما أن الأصل في الذمة البراءة. حقيقة الواقع بإكراه المتهم على التصريح بعكس ما هو الأمر عليه وجودا، إذ" الحكم للوجود" كما يقول فقهاؤنا المسلمون،فتحل حينئذ العبثية وتضييع المطلوب مع سبق الإصرار والترصد! بهذا تكون الدولة أو المحققون الممثلون لها قد عبروا عن فشلهم وعدم كفاءتهم في الميدان العدلي وذلك من عدة مستويات على رأسها :الفشل النفسي السيكولوجي والأخلاقي، ومن ورائه الفشل السياسي الذي جعلهم لا يستطيعون ضبط العد و الداخلي تكوينا وثقافة وطنية مما جعله يمد يده عمالة للعدو الخارجي... رابعا:الإجراء السيادي لرفض التعذيب السادي 1-فتضييع الحقيقة الأولى مسألة عقدية وفلسفية وفيزيائية إن صح التعبير،بحيث يمكن بناؤها على مبدأ التدافع والانعكاس وقاعدة :"إنما السبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق"الآية ،وهذا يدخل في وعي الأنبياء والصالحين من بني الإنسان ،قد نجد نموذجا حيا منه في هذه الصورة من سيرة بينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ينهى عن التمثيل الجسدي ورفض التعذيب بكل صوره وأوجهه ودوافعه التي تكون في الغالب بسبب وجود نزعة انتقامية ؛قد تبدو في بداية الأمر معقولة ولها ما يبررها عند لحظة الانفعال ،أو أن تكون سادية مقيتة تسعى إلى التشفي من الخصم والعبث بجسده إلى أقصى درجة !!!إما لاستخراج أسرار منه أو الانتقام مما كان قد فعله قبل الوقوع في الأسر وانهزامه ،وهذا هو حال الأمريكان وغيرهم في العراق، والمشركين عند غزوة أحد وتمثيلهم بجثة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب!!!. يروى في كتب السيرة الموثقة :أنه قد كان من أسرى غزوة بدر الكبرى سهيل بن عمرو ،وهو من خطباء قريش وفصحائها ،وطالما آذى المسلمين بلسانه،فقال عمر بن الخطاب :دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا،فقال عليه الصلاة والسلام :"لا أمثل فيمثل الله بي ولو كنت نبيا،وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه عليه"نور اليقين من سيرة سيد المرسلين ،محمد الخضري بك. إنها قاعدة خطيرة ومثيرة ومنيرة تلك التي أفصح عنها النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يضعها في الحسبان كل معذب للآخر في هذه الأرض ،سوا ء كان حاكما أو شرطيا أو عسكريا أو حتى زوجا أو غيره، ولو كان المعذب هرة وبمجرد حبس كما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر حيث عذبت في النار من عذبتها، فما بالك بالإنسان أخي الإنسان روحا وجسدا وعرقا...! خطيرة لأنها تنبني على حتمية الانعكاس في التعذيب والتمثيل؛لا يفلت منه مزاوله مهما طال به الزمن ولو في آخر رمق من حياته ،كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". فكلمة :"لا أمثل فيمثل الله بي ولو كنت نبيا " يعني حكما شرعيا ومآلا كونيا :أن كل من مارس التعذيب سواء باستحقاق أو بغيره لن يفلت من الانعكاس ،وذلك لأن هذا الموضوع من خصائص الجزاء الإلهي الذي يعرف حقيقة التكوين الإنساني في ظاهره وباطنه"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"الآية و:"لا يعذب بالنار إلا رب النار"كما ورد في الحديث. مثيرة لأنها تضمنت العفو مع المقدرة عن شخص ضمن عديد من الأشخاص الآخرين الذين ربما اقتص منهم ،بينما اختص هذا بالعفو الشامل مقابل فدية، علما أنه كان بوقا للعدو ومحرضا ضد النبي وأصحابه ،في حين أن هذا العفو قد أضاف الفضل المستقبلي للمعتقل أو الأسير،وهو كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:"وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه". فكان مقامه هذا هو: أنه لما أراد أهل مكة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قام سهيل خطيبا يحضهم بالثبات على دينهم، فتراجع الناس عما كانوا عزموا عليه ،وكان هذا الخبر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم. منيرة لأنها تعطي للحكام درسا في الاستفادة من العدو بالعفو وتوقع موالاته بدل معاداته؛ وخاصة حينما يعفى عنه بعد أسره ولم يتوقع منه غدرا فراسة أو تخمينا، ومن هنا يكون الربح من جهتين:كسب العدو وكسب العدالة من غير تعذيب. 2-الثانية:حقيقة الواقع وتضييعه من خلال التعذيب والإكراه البدني والنفسي،قد نجد علاجا له في السيرة النبوية أيضا وفي غزوة بدر نفسها عند النقطة التالية :ورد في السيرة أن جيش المسلمين :"لما قارب بدرا أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ليعرفا الأخبار،فصادفا سقاة لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهمي فأتيا بهما والرسول عليه الصلاة والسلام قائما يصلي ،ثم سألاهما عن أنفسهما فقالا نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء،فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان ،فقال الغلامان نحن لأبي سفيان فتركاهما ،ولما أتم الرسول عليه الصلاة والسلام صلاته قال :إذا صدقا ضربتموهما ،وإذا كذبا تركتموهما؟صدقا،والله إنهما لقريش،ثم قال هما أخبراني عن قريش؟قالا:هم و راء هذا الكثيب ،فقال: كم هم؟فقالا: لا ندري،قال:كم ينحرون كل يوم ؟قالا:يوما تسعا ويوما عشرا، قال:القوم ما بين التسعمائة والألف، ثم سألهما عمن في النفير ممن أشراف قريش فذكر له عددا عظيما..."نور اليقين. فهذه الحادثة ذات دروس وعبر لكل حاكم ومحقق يسعى حقا لحماية الوطن والمواطنين من الفتنة والهزيمة كما فيها دلالة على أن التعذيب قد يغير الحقيقة ويعطي الاعتراف الكاذب ،ومن ثم يكون المحققون مع التعذيب قد جمعوا بين سيئتين الأولى أكبر من أختها وهي:التعذيب والتغليط،وكلاهما له انعكاسات مدنية وجنائية وعسكرية خطيرة إضافة إلى الأخلاقية والروحية ابتداء، وفي المآل حلول عذاب الله تعالى بمن عذب خلقه بغير حق أو ضابط؟!! زيادة على هذا فإن الحادثة تعطي درسا للحاكم في مواجهة العدو وتقدير مخاطره الميدانية وذلك باستعمال أسلوب رياضي وواقعي يضع في حسابه الموازنة بين العتاد والأعداد والاستعداد ،أي بين مستوى التمويل لدى العدو ومناسبة عدده استهلاكا وحركة ،إضافة إلى اعتبار قيمة الجيش بقيمة عدد ضباطه ،كما عبر عنه الحديث عند السؤال عن أشراف قريش ونسبة حضورهم عند بدر،ومن ثم تهيئ النفوس بعد هذه المعطيات الاستخباراتية عن العدو لمواجهته بمعنويات مرتفعة وواعية بقوة الخصم!!! هذا التحري قد يتم عن طريق العيون والجواسيس أو طريق استنطاق من يقع في الأسر من أفراد العدو كما هو الشأن في غزوة بدر والحادثة التي نحن بصدد تحليل بعض رموزها... من جهة أخرى تتضمن الحادثة نقطة جد مهمة في التحقيق لتفادي التعذيب المؤدي إلى تضييع الحقيقة من كل أوجهها أو بعضها ،ألا وهي أن المحقق ليس كل من هب ودب من محاربين ورجال شرط أو ضباط ،لأن عمل الشرطي يعتمد على المهارة الفنية والتنفيذية لضبط العدو بالقوة المتاحة له بدنيا وتسليحا وما إلى ذلك ،أما الاستنطاق والتحقيق فذلك عمل فكري ونفسي إنساني يحتاج إلى ذكاء وحكمة واستدراج على نمط ما رأيناه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الحادثة المذكورة، فكان حينئذ التصريح مطابقا للواقع أو مقربا له بشكل شفاف وألغي بسببه التعذيب والضرب من غير مبرر أو ضرورة. هذه النتيجة تقتضي تكوين الجندي أو الشرطي على مبادئ إنسانية ذات استمداد ديني إسلامي بالدرجة الأولى وذلك قبل أن يصبح رجل قوة وتنفيذ آلي للأوامر. من هنا نتساءل:إذا كانت النية مبيتة للإدانة كما يفعل الأمريكيون مثلا في العراق وكذلك بعض الأنظمة الأخرى فيما يخص المتهمين من مواطنيها بقضايا سياسية وغيرها،فلماذا التعذيب والإيلام المتكرر والتفنن في أساليبه ؟ ربما يراوغ سياسيا بالقول أن ذلك الحجز قد يكون بمثابة در الرماد في العيون لإثبات وجه العدالة والمحاكمة بعد التحقيق... فهذه أكبر من أختها، إذ قد زادت على وزر التعذيب بغير حق وضوابط وزر الكذب على الجمهور والتغرير به ومصالحه، ومن بعده كسب تأييده على الظلم والطغيان ؛وهذا فساد ما بعده من فساد!!!. من هنا فقد تبين لنا أن هذه الممارسات التي تطلع بها وسائل الإعلام عن صور التعذيب سواء في السجون الغربية وكذلك العربية وغيرها ليست سوى أسوأ صورة للنزعة السادية وتلويث وإفساد خطير للمبادئ السيادية ،حيث لا مبادئ سيادية مع الظلم وإهدار القيم الإنسانية بتحويلها إلى شبح يجمع حتما بين الحيوانية والشيطانية وكفى به سقوطا ومسخا للإنسان وتحضره!!!.وكفى بالله شهيدا. الدكتور محمد بنيعيش جامعة القرويين المغرب ""