تسعى كل دولة إلى تحقيق غاياتها ومراميها الكبرى من خلال تنشئة المواطن الصالح ، وتختلف التصورات حول مفهوم المواطن الصالح من دولة إلى أخرى حسب التوجهات السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والتاريخية ، وإذا ما بحثنا في مرتكزات عملية التنشئة ، سنجدها مسطرة أولا في الأهداف الكبرى للسياسات التعليمية ، ومن خلال الكتب المقررة والأفكار المتضمنة في البرامج ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ، من هو المواطن الصالح ؟ هل تعني كلمة المواطن الانتماء والتبعية المطلقة للوطن ؟ وهل الوطن كيان مستقل أم مجموعة أفراد جهاز المخزن ؟ وما الذي نقصده بالصالح هل هو أي شخص يخدم وطنه بكل تفان ويساهم بكل فعالية في تدبير الشأن العام ؟ أم أن الصلاح تعني السلبية في التفكير والتعبير وتعطيل الحواس ؟ ومن هو المواطن غير الصالح ؟ هل هو شخص تنصل من قيمه التاريخية والدينية والسياسية ؟ أم هو فرد ضد سياسات مجموعة أفراد ؟ لن نتحدث عن مفهوم المواطنة في الدول الغربية ثم نحاول مقارنتها مع الدول العربية ، يبدو هذا المنهج كلاسيكيا ومتجاوزا لعدة أسباب ولن تفيدنا في الوقوف على مقاربات موضوعية ، جل ما سنجد مفارقات ومتاهات لاحصر لها ، لذلك سننطلق من واقع المجتمعات العربية ، ونستهلها بتحليل المفكر المغربي عبد الله العروي الذي تحدث عن مفهوم الإرث السلطاني المتمركز على القمع والاضطهاد والعنف في أجهزة الحكم في المجتمعات العربية ، فبعد استقلال هذه الدول تطلع مواطنوها إلى فجر مضيء بعد عناء ونضال طويلين لعتمة وسلطوية الاستعمار ، لكن الواقع أبرز إحباطا عميقا ، إذ انتقل المواطن من استعمار أجنبي إلى استعمار محلي ، ومن سلطوية غربية غريبة إلى سلطوية شرقية عربية ، وتغير اسم المواطن من مناضل سياسي ضد الاستعمار إلى مشاغب سياسي ضد أمن الدولة ، كانت حواس المواطن ( غير الصالح ) سبب تعاسته ، كان يرى مراكز السلطة والحكم تؤول إلى فئة معينة لاعلاقة لها بالنضال وبجلاء المستعمر ، ويسمع خطابات مضللة وشعارات كاذبة وزائفة ، لذلك حاول تصحيح الصورة المقلوبة ، فعبّر وتكلم دون أن يتكتم ظنّا منه أنه سيستطيع تعديل الوضع ، فكان مآله السجن والاعتقال والتعذيب ، لكن هذه المرة ، الأمر أشد من الوضع السابق الذي كان يناضل فيه لأجل الوطن ونصرته ، فكان يتلذذ بغربة السجن ومرارة التعذيب مادام سيذكر على لسان أجيال ، أما الآن مازال يظن أنه يناضل لنصرة الوطن ، لكنه اكتشف أنه ضد الوطن ، لم يعد مفهوم الوطن كما كان ، ولم يعد بإمكانه إلا أن يصحح مفاهيمه ووضعه عوض أن يصحح وضع الوطن ، ... عليه أن يعطل حواسه من السمع والبصر والشم والذوق ... فكان يمر بجنب الطرقات مطأطأ الرأس ، وإذا مارأى شرطي المرور يبتز مواطنا آخر من أجل دراهم التحلية ، أومأ بعينه إلى الأسفل وقال في نفسه ، كان الله في عون الشرطي من هؤلاء المواطنين الجشعين وإذا ماتأخرت الحافلة لساعات أرجأ السبب لتقاعسه وتأخره ، أما إذا سمع خطابات سياسية مضللة أو الحديث عن الزيادة في أسعار السلع وتدني الأجور ، قال في نفسه وهو يبتسم : سياسة اقتصادية حكيمة لإعادة التوازن بين العرض والطلب ، وكان الله في عون الحكومة من الضغوطات الخارجية والإكراهات الاقتصادية ، وإذا تكلم في أي تعديل حكومي ، عبّر بالإيجاب على كل ماتراه الحكومة ، وإذا ماسمع مواطنا ( غير صالح ) يتحدث عن الرشوة والمحسوبية والزبونية وعدم تكافؤ الفرص والاختلاسات والاختلالات في القطاعات ، انزوى إلى مكان آخر أو غيّر الوجهة بعيدا عن هذا الشخص المشاغب ، هكذا أصبح يحمل تأشيرة مزدوجة "المواطن / الصالح " ، لقد كان مفهوم المواطنة يرتكز على السلبية ، وشعار " قولوا العام زين " ، أما في السنوات الأخيرة فقد انقلب السحر على الساحر ، لقد أدت الحكومات العربية الثمن بعزوف المواطن عن السياسة وعن الانتخابات وعن كل ما يتعلق بشؤون الدولة ، وأصبح المواطن لايأبه بكل مايجري في الحياة السياسية .... صحيح أنه تكونت منظمات وجمعيات حقوقية ، وأصبح المواطن الصالح يسمع الأحاديث في المقاهي التي كانت إلى وقت قريب طابوهات وخطا أحمر ، وبات يرى في عناوين الجرائد مواضيع ومقالات لم يكن يتصور يوما ما أن الجرأة ستصل إلى هذا الحد ، وبات يتكلم ويعبر كما كان في السابق لكن " لا شيء يتغير " بقي الابتزاز وبقيت المحسوبية ، وترسخت الرشوة أكثر من السابق ، سواء سمع أو رأى أو تكلم وعبر ، بقي الوضع على ماهو عليه ، كل ما تغير هو نمط عيش وتفكير الناس ، إذ تحول المواطن غير الصالح إلى مواطن لايهتم ولايبالي ، وتحول حديث المقاهي من السياسة إلى الحديث عن " البارصا والريال " ، والحديث عن الرسائل القصيرة والأنترنت والجنس والعلاقات العابرة ، والأغاني " الشبابية " وأسماء المطربين والمطربات ، و" الهيب هوب ". والحديث عن آخر صيحة في اللباس الضيق وتسريحة الشعر ، وتدخين الشيشة ... هكذا أصبح المواطن الصالح ، مواطن يميل نحو الأنانية والتمركز حول الذات واللامبالاة لكل ماسواه ، شعاره في الحياة الانتهازية وعدم إضاعة الفرص ، باختصار : المواطن الصالح يسمع ولايسمع ويرى ولايرى وإن تكلم فكلامه غير ذي معنى وإن كان كلامه صرخة تتوخى توضيح انحراف في سلوكيات المجتمع ، لاأحد يبالي لما يقول ، فالقافلة تسير والكلاب تنبح ، بمعنى أنه يتكلم ولايتكلم .