فلا يمكن للديمقراطية إذن أن تنمو وتترسخ جذورها إلا إذا كانت كل قنوات التنشئة الاجتماعية والسياسية، تسعى إلى غرس الحرية والديمقراطية السليمة في نفوس النشء وعقولهم. فالديمقراطية تستند إلى مجموعة من الشروط الموضوعية قوامها وجود ثقافة سياسية ديمقراطية: أي مجموعة من القيم والمشاعر والاتجاهات التي ينبغي تأصيلها في الفكر الإنساني وتأسيسها في الوعي بشكل تجد مرجعيتها في الواقع ذاته وتنعكس في السلوك العادي اليومي للأفراد. 11 فالإنسان لا يولد ديمقراطيا ولا دكتاتوريا، ولكنه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها المؤسسات التربوية ( الأسرة، المدرسة، الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، دور الشباب، مؤسسات المجتمع المدني: كالجمعيات والنوادي الثقافية....الخ ) يمكن أن يتعلم الديمقراطية أو الديكتاتورية وفق ما يتشربه من قيم ومبادئ وما تنمو فيه من خصائص في الشخصية وما يجده من ممارسات وأفعال يقتدي بها12. وكلما كانت هذه المؤسسات الاجتماعية والسياسية (الأسرة، المدرسة، الجامعة، وسائل الإعلام، مراكز التربية وإعادة الإدماج، دور الشباب، النوادي الثقافية، جمعيات المجتمع المدني، الأحزاب السياسية...الخ ) منسجمة في توجهها وتملك نظرة موحدة في تصورها للمشروع المجتمعي المراد تشييده، كلما كانت الطريق معبدة ومختصرة للعيش في كنف الديمقراطية أو على الأقل الاقتراب منها. أما إذا كانت هذه المؤسسات متنافرة التوجه والأهداف، كأن تعمل الأسرة على غرس بذور الخوف والإتكالية والانعزالية والخرافة والأنانية وحب الذات، فإن مهمة المدرسة هنا ستكون شاقة وعسيرة، حتى وإن كانت تحمل مشروعا مجتمعيا ديمقراطيا في غاية من المثالية، فالطفل مثلا الذي يتلقى من أسرته بعض المعارف والقيم ذات الصلة بالديمقراطية والمواطنة، يسهل الأمر على المدرسة لترفع من إيقاع هذه العملية، وتنتقل إلى مرحلة أهم بدل البداية من الصفر وتلقين أبجديات الديمقراطية، ونفس الشيء بالنسبة للإدارة والحزب وغير ذلك من المؤسسات السياسية والاجتماعية .إلا أن الأمر يزداد تعقيدا حينما يكون هناك تناقض صارخ بين توجهات تلك المؤسسات. إن مرحلة الطفولة تعتبر بدون شك من أهم المراحل في تربية الفرد وتنشئته، من منطلق أن أطفال اليوم سوف يقودون حتما دفة التغيير الاجتماعي المستقبلي، وبالتالي فإنهم في حاجة ماسة إلى تنشئة تنمي وعيهم بإكراهات الحاضر وتحديات المستقبل. إن قوة الدول لم تعد تقاس بحجم سكانها، بل بطبيعة ونوعية إعداد أفرادها عبر التنشئة السياسية، ذلك أن الاستثمار الحقيقي لأي نظام سياسي يكمن في أبنائه الذين يتولون إدارة الاستثمارات الأخرى، فإن صلح الاستثمار في المواطن، فإنه يمكن إدارة كافة الاستثمارات الأخرى بكفاءة عالية. واعتبارا لكون الإنسان هو أساس نهضة وتطور المجتمع بمختلف جوانبه وأبعاده، فإن الانطلاقة الصحيحة لهذا كله، لن تكون إلا بالطفل الذي يمثل إنسان المستقبل، والذي إذا ما أحسن تدريبه وتعليمه في الصغر، فإنه يكبر وقد امتلك المعايير القويمة للمواطنة الصالحة والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية لوطنه ومواجهة تحديات المستقبل. 13 ومن هنا فإن التربية على الديمقراطية يجب أن تبدأ منذ وقت مبكر، حتى نضمن وجود منبع دائم للعناصر البشرية القادرة على قيادة المستقبل 14 . إحالات : 1 - عبد العظيم كريمي، مرتكزات التربية والديمقراطية، تعريب عبد الرحمن العلوي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2007 ص: 09 2- عبد الغني أبو العزم، خطاب الديمقراطية، مؤسسة الغني للنشر الرباط، الطبعة الأولى 2001، ص: 21 . 3 - نفس المرجع ص : 50 . 4 - نفس المرجع ص : 49 . 5 نفس المرجع ص : 96 6 نفس المرجع ص 97 7 - نفس المرجع ص : 97 . 08 نفس المرجع ص : 107 09 الديمقراطية والتربية في الوطن العربي. أعمال المؤتمر العلمي الثالث لقسم أصول التربية في كلية التربية مارس 1999- جامعة الكويت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2001. ص: 559 10 نفس المرجع ، ص: 297 11 نفس المرجع ، ص: 338 12 نفس المرجع ص: 456 13 حسن توفيق- كمال المنوفي، الثقافة السياسية في مصر بين الاستمرارية والتغيير، مرجع سابق ص: 884 14 - نفس المرجع، ص : 883 . * باحث في علم الاجتماع السياسي