في الوقت الذي استوعبت فيه العديد من دول العالم في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا دروس المرحلة وحجم التحديات التي أصبحت تفرضها التحولات الدولية الراهنة (مخاطر العولمة بكل تجلياتها، أهمية التكتل في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، الديمقراطية، التربية والتعليم..) وانخرطت بحزم وإرادة قويتين في قطع خطوات مهمة وثابتة على طريق التنمية الشاملة والديمقراطية الحقيقية جنبا إلى جنب؛ تعيش العديد من الأقطار العربية، وبحكم الطوق المفروض على أي إصلاح أو تغيير حقيقيين؛ شبه ركود تعكسه الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية المستمرة؛ والتي لا تخلو في عمقها من تداعيات دولية خطيرة من قبيل تنامي الهجرة بكل أشكالها وانتشار التطرف.. من جهة؛ وكذا تنامي مظاهر التهافت على المنطقة العربية في شكل مشاريع «إصلاحية» ملغومة؛ أو في شكل تدخلات زجرية مقنعة أو مباشرة (احتلال العراق وما تمخض عنه من آثار كارثية محليا وإقليميا، أزمة دارفور، الأزمة السياسية في لبنان..) بالإضافة إلى تزايد الصراعات العربية الداخلية؛ البينية أو الإقليمية (مأزق القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، قضية الصحراء في المغرب، الاقتتال في الصومال)... وقد دقت العديد من تقارير التنمية الإنسانية العربية والدولية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ناقوس الخطر بصدد هذه التحديات في مختلف مظاهرها وأبعادها؛ ولعل الخروج من هذه الوضعية المأزومة والبحث عن موقع فاعل بين الأمم؛ يتطلب إرادة سياسية حقيقية ويفرض اتخاذ مجموعة من التدابير. التربية والتعليم إن الاستثمار في العنصر البشري العربي عبر بوابة التعليم القويم والتربية السليمة للنشء باعتبارهما رأسمالا أساسيا لكل مجتمع، وتفعيل قنواتهما باتجاه بلورة تنشئة اجتماعية منسجمة ومتكاملة؛ تقوم على تنمية شخصية الفرد، أضحى أمرا حيويا مفروضا في ظل الإكراهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة أن هذا النشء في مختلف البلدان العربية يجد نفسه محاطا ومطوقا ب»منتجات» تربوية عديدة متباينة تصل إلى حد التناقض أحيانا. والتربية المنشودة هي تربية من أجل التنمية؛ وتربية قادرة على إعداد جيل يرفض الظلم والخنوع والاستبداد، ويستطيع إبداء الرأي وطرح الأسئلة الكبرى بحرية وطلاقة؛ ويؤمن بالاختلاف وبالعمل الجماعي؛ وكفيلة بتحفيزه على الإبداع والتفاعل والفعل والتطوع والتضحية؛ إنها تربية تنبني أيضا على الثقة في النفس واحترام حقوق الإنسان، تربية حيوية واعية وبعيدة عن الارتجال والعشوائية، تتوخى في أبعادها تربية النشء على الإيمان بالتعددية وروح التسامح والقيم الدينية الإسلامية السمحة والمواطنة والديمقراطية. إن الاهتمام بجانب التربية يطرح بشكل ملح وجدي في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى؛ مع تنامي إكراهات العولمة التي أضحت تهدد قيم وثقافة المجتمعات المستضعفة عبر تكريسها في الغالب لنوع أحادي من القيم المادية والتنافسية الاحتكارية، وفي ظل تدفق المعلومات والقيم والأفكار المتباينة بشكل حر من خلال قنوات الاتصال المفتوحة التي لا حدود لها ولا رقيب عليها. وضمن هذا السياق؛ ينبغي إعطاء الأولوية الكبرى لقطاعي التعليم والثقافة لعلاقتهما الجدلية والوطيدة بالتنمية بكل مظاهرها؛ وذلك من خلال رصد اعتمادات مادية وتقنية مهمة في هذا السياق؛ أسوة بالعديد من البلدان الرائدة والنموذجية في هذا المجال. ولعل ما يبرز عمق الأزمة في هذا الصدد هو أن إنفاق العرب على البحث العلمي لا يتجاوز 0,2 بالمائة من مجموع الناتج القومي، مقابل 3 بالمائة في إسرائيل..؛ كما أن إنتاج الكتب الأدبية والفنية يعد أضعف من المستوى العالمي العام؛ فعدد الكتب الأدبية والفنية الصادرة في البلدان العربية لم يتجاوز 1945 كتابا في عام 1996؛ ما يمثل 0,8 بالمائة فقط من الإنتاج العالمي؛ وهو أقل مما أنتجته دولة مثل تركيا؛ التي لا يتعدى عدد سكانها ربع سكان البلدان العربية. فيما بلغ متوسط الكتب المترجمة بالنسبة إلى كل مليون من السكان في هذه البلدان؛ خلال السنوات الخمس الأولى من ثمانينيات القرن الماضي 4,4 كتاب (أي أقل من كتاب واحد في السنة لكل مليون من السكان)، بينما بلغ 519 كتابا في المجر و920 كتابا في إسبانيا لكل مليون من السكان؛ فيما لم يتم ترجمة سوى 10 آلاف كتاب إلى اللغة العربية خلال القرن العشرين كله، وهو ما يساوي ما ترجمته إسبانيا لوحدها في عام.. والحقيقة أن إهمال هذين القطاعين الحيويين(التربية والتعليم) يفوت فرصا مهمة على الدولة وعلى المجتمع برمته في المنطقة العربية؛ خاصة وأن «المستقبل سوف يعرف سباقا بين التعلم والكارثة» كما قال أحد المفكرين البريطانيين. مطلب الإصلاحات الديمقراطية يتم ربط الديمقراطية في الغالب بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي، واحترام حقوق الإنسان ونهج الديمقراطية مع القدرة على تدبير الاختلاف.. وباعتماد هذا التعريف ومقاربة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأقطار العربية، يتبين من الوهلة الأولى أن هذه الدول تعيش أزمة ديمقراطية حقيقية. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وما تلاه من نهاية للحرب الباردة، هبت رياح التغيير الديمقراطي لتعصف بمختلف الأنظمة التي كانت تسبح في فلك موسكو بدول أوربا الشرقية، قبل أن تنتقل إلى مختلف أقطار العالم بإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقد كانت الأقطار العربية من ضمن الدول التي دخلت معترك هذه التغيرات بنسب متفاوتة، خصوصا وقد أصبحت قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى جانب قضايا حيوية أخرى.. قضية عالمية. فلا تخفى أهمية عاملي تكريس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان كمؤشرين أساسيين ضمن مجموعة مؤشرات يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول. ومن جانب آخر تمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من مراكمة مجموعة من القرارات التي تؤكد الاهتمام الدولي بهذه القضية؛ والتي وصلت إلى حد استعمال القوة العسكرية لأغراض مرتبطة بتثبيت الديمقراطية؛ مثلما هو الشأن في هاييتي في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، أو التدخل لأغراض إنسانية مثلما تم في كل من العراق أو الصومال في بداية التسعينيات من القرن الماضي.. لقد بادرت معظم الأنظمة العربية إلى نهج «إصلاحات» سياسية باتجاه الديمقراطية وتعزيز وضعية حقوق الإنسان العربي؛ غير أن مجمل هذه التغييرات بدت بطيئة وغير شاملة، ولا تعكس في العمق تطلعات الشعوب، بقدر ما ظهرت وكأنها توخت التسويق الخارجي على طريق تحسين صور وسمعة هذه الدول في الخارج، الأمر الذي عمق الإكراهات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية.. وفي ظل هذه الظروف تزايدت المشاريع الدولية الداعية لإعمال إصلاحات «ديمقراطية» في البلدان العربية؛ والتي خلفت ردودا متباينة؛ بين متحمس وجد فيها مدخلا لتحريك ملف الإصلاح والتغيير في منطقة تفرض فيها الأنظمة طوقا من حديد في هذا الشأن، وبين معارض متشائم من أية مشاريع «دخيلة» لا تنبعث من خصوصيات وثقافة المنطقة بقدر ما تنطوي على خلفيات مصلحية لطارحيها. إن هذه المعطيات تفرض إعمال إصلاحات حقيقية كفيلة باستحضار إرادة الشعوب في صناعة القرارات.. خاصة وقد ثبت أن قمع المجتمع ومؤسساته السياسية والاجتماعية (أحزاب ونقابات..) يضعف العناصر المعتدلة داخل المجتمع ويسهم بشكل كبير في تعزيز فرص تنامي التطرف والفكر الأوحد.. والجدير بالذكر أن هذه الإصلاحات الداخلية تفرض نفسها بحدة على الدول العربية؛ قبل أن تبادر جهات أجنبية بفرضها عليها تحت ذرائع ومبررات مختلفة (مكافحة الإرهاب والتطرف..)؛ بعدما أضحت الأوضاع المزرية بالمنطقة العربية في مختلف الميادين مسؤولة عن إنتاج ظواهر لا تخلو من تداعيات دولية كالهجرة (حسب بعض التقديرات بلغت خسائر الدول العربية من هجرة العقول البشرية تحت إكرهات الفقر والحاجة من مهندسين، أطباء، جامعيين، تقنيين.. إلى بعض الدول الغربية كفرنسا، بريطانيا، ألمانيا، كندا والولايات المتحدةالأمريكية حوالي 200 مليار دولار) والتطرف والاضطرابات الداخلية.. التكتل في عالم المخاطر أضحى التكتل في عالم اليوم أمرا ضروريا تفرضه التحديات الدولية التي تجعل من التجمعات الإقليمية وسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية المتزايدة في أبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية.. وهكذا؛ ففي الوقت الذي حققت فيه مجموعة من الدول إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية.. كبرى في كل من أوربا (الاتحاد الأوربي) وأمريكا (الأنديز) وآسيا (النمور الأسيوية)، فإن الدول العربية وعلى الرغم من الإمكانيات البشرية والموضوعية المتاحة؛ فشلت في بناء تنظيم إقليمي قوي وقادر على رفع التحديات الداخلية والخارجية. مما يجعلها ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية عرضة للتأثر السلبي بالتحولات الدولية الحاصلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي والعسكري بعد الحرب الباردة. فالجامعة العربية التي تأسست قبل ظهور الأممالمتحدة والمجموعة الأوربية؛ وصلت إلى حالة حرجة من التردي وعدم الفعالية، وتعكس في العمق الأوضاع المزرية التي تعيشها الدول العربية داخليا على مختلف الواجهات. فاتخاذ القرار بداخل الهيئة يغلب عليه الطابع المركزي؛ وحتى القرارات المتخذة تظل في غالبيتها حبيسة الرفوف ولا تتاح لها إمكانية التنفيذ. ففي أواسط الخمسينيات من القرن الماضي برزت فكرة إنشاء سوق عربية مشتركة تسمح بحرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال وتبادل البضائع وحرية الإقامة والعمل وتنسيق خطط التنمية ورفع خطاب اقتصادي موحد في مواجهة التحديات الدولية، وبالفعل صدر سنة 1964 قرار عن الجامعة بهذا الخصوص، غير أن مظاهر التجزئة وغياب إرادة سياسية حقيقية؛ أفرغت كل هذه الطموحات من محتواها. فالتجارة العربية البينية مثلا، لا تتجاوز 10 بالمائة من حجم التجارة العربية الخارجية، في حين وصلت في أوربا ما يربو على 65 بالمائة، وهو ما يبرز حجم الخسارة التي تصيب الاقتصاد العربي برمته. والجامعة العربية ما هي في واقع الأمر إلا تجسيد وتعبير مصغر عن الواقع المرير الذي تعيشه الدول العربية من نزاعات بينية وصراع على المصالح الضيقة؛ وغياب لممارسة ديمقراطية حقيقية وتفضيل للاحتماء بمظلة الأجنبي... إن إصلاح هذه المؤسسة باعتباره أمرا ملحا وحيويا في عالم لم يعد فيه مكان للدول القطرية بمفردها؛ يظل مرهونا بإدخال مجموعة من الإصلاحات القاضية بدمقرطة اتخاذ القرارات فيها وتفعيلها؛ وباعتبار الدول الأعضاء الانتماء للجامعة ضرورة استراتيجية تفرضها التحديات الداخلية والدولية لا ترفا مكلفا تقتضيه المجاملات الدبلوماسية؛ والتركيز أيضا على التعاون والتنسيق في مختلف المجالات وبخاصة الاقتصادية منها أسوة بالاتحاد الأوربي الذي انطلق انطلاقة سليمة ومعقولة ومتدرجة تنبهت إلى أهمية التنسيق والتعاون في المجال الاقتصادي؛ بالإضافة إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية باتجاه تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والرفاه الاقتصادي والاجتماعي للمواطن العربي.. ويمكن القول أن تطوير عمل هذا الجهاز أمر ممكن؛ وذلك بالنظر إلى الإمكانيات العربية المتاحة(اللغة والدين والتاريخ المشترك، الإمكانيات البشرية والجغرافية والخيرات الطبيعية والموقع الاستراتيجي..) والتي لم تجتمع لأي تنظيم إقليمي آخر.