بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1). وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي. وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة. وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها. وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها. لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال. مركز دراسات الوحدة العربية ثانيا: السياق العالمي والإقليمي للتدهور 1 على الصعيد العالمي في أعقاب الانتكاسة التي منيت بها محاولة النهوض العربي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته بفعل العدوان الاسرائيلي في 1967 بدا، لوهلة، أن النظام العالمي باق على نموذجه السائد في ذلك الحين، بل لقد بدا في عقد السبعينيات أن القوة الأمريكية آخذة في التراجع بفعل الهزيمة العسكرية القاسية في فيتنام وفقدان مواقع مهمة للتأثير والنفوذ، كما حدث بعد نجاح الثورة الإيرانية في 1979، غير أن السياسة الهجومية للإدارة الأمريكية اليمينية الجديدة منذ مطلع الثمانينيات استطاعت أن تستعيد تدريجياً القدرة الأمريكية على التأثير في الساحة العالمية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه عوامل الوهن الداخلي في الاتحاد السوفياتي تحدث آثارها في كيان القوة العظمى الثانية في قيادة النظام العالمي. وعندما تولى غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي في 1985 راهن كثير من المحللين على قدرته على وقف تراجع القوة السوفياتية، غير أن خيوط اللعبة أفلتت تماماً من يديه (إذا استبعدنا ما يصرّ عليه البعض من أنه كان شريكاً في مؤامرة على الاتحاد السوفياتي)، وانتهى الأمر باختفاء الاتحاد السوفياتي من خريطة العالم في دجنبر 1991، وحلول خمس عشرة جمهورية مستقلة محله، هي كل ما كان الكيان السوفياتي يضمّه من جمهوريات فيدرالية. ولقد ورثت روسيا القوة النووية السوفياتية ومعظم عناصر القوة في الكيان المتفكّك، غير أن استسلامها التام للمعسكر الرأسمالي، في ظل رئاسة يلتسين، أفقدها أي تأثير أو نفوذ بالمعايير العالمية، وساعد ذلك، دون شك، على بلورة وضع عالمي جديد تمثلت أهم معالمه في بروز القيادة الأمريكية الأحادية للنظام العالمي، وفقدت الدول المتوسطة والصغرى بذلك عالم القطبية الثنائية الذي وفّر لمن يملك الإرادة منها قدراً من حرية الحركة في الساحة الدولية، وأصبح عليها إما أن تقنع بالتبعية المطلقة للولايات المتحدة، أو تحاول الحفاظ على استقلالها، أو على الأقل على قدر منه في ظل ظروف عالمية بالغة التعقيد، تهدد بضرب كل من يتجاسر على تحدي الإرادة الأمريكية. وكان للدول العربية بطبيعة الحال نصيبها الخاص من هذه التداعيات السلبية بسبب ضخامة المصالح الأمريكية في الوطن العربي، وعلى رأسها المصالح النفطية. ولقد ساد في حينه جدل داخل الوطن العربي وخارجه حول طبيعة تلك التحولات، وانقسمت الآراء في هذا الصدد، فرأى فريق أنها قد أفضت إلى نظام عالمي جديد أحادي القطبية، سوف يُقدر له أن يسود التفاعلات الدولية لمرحلة كاملة من مراحل تطور العلاقات الدولية، وذلك بالنظر الى التفوق الواضح للقوة الأمريكية، ووجود مشروع متبلور لقيادة العالم لدى نخبتها الحاكمة، والسلوك الأمريكي التدخلي في القضايا الدولية الذي يجعل هذه القيادة أمراً واقعاً. غير أن فريقا آخر رأى في هذه التحولات وضعاً مؤقتاً، لأن ثمة تنامياً متزيداً لأقطاب عالمية جديدة لعل الصين أبرزها، ولأن المشروع الأمريكي لقيادة العالم القائم على الهيمنة هو في حد ذاته مصدر تآكل للقطبية الأحادية بقدر الممانعة الدولية له، ولأن السلوك الأمريكي في الشؤون الدولية أحدث من الارتباك والفوضى أكثر مما أوجد من التماسك والاستقرار. مع ذلك، فإن الفريقين لم يختلفا على أن اللحظة كانت تشير إلى انفراد أمريكي ظاهر بمقاليد القرار في الشؤون العالمية. وفي تلك الظروف، وقع احتلال العراق في 2003، وبدا لوهلة أن الولاياتالمتحدة تشقّ طريقها بثبات نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي. غير أن المقاومة العراقية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الولاياتالمتحدة أوقفت تقدم المشروع الأمريكي، وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي الى نموذج التعددية، فواصلت القوة الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس مصالحها الوطنية، بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين الولاياتالمتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك، عودة اليسار إلى السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية، عبر صناديق الاقتراع. وإذ رفعت هذه العودة العزلة عن كوبا وفنزويلا، أذنت بتحجيم النفوذ الأمريكي في القارة اللاتينية التي كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأمريكي على مصائر شعوب وبلدان العالم الثالث، وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات العدوانية الأمريكية في العالم. ولاشك أن مجيء الادارة الأمريكيةالجديدة في مطلع 2009، وخطابها السياسي التصالحي، وبعض مبادراتها تجاه بعض الخصوم، قد أفضى إلى تراجع التوتر في عدد من الساحات التي شهدت أقصى درجات العدوانية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن. ومع ذلك، فإن إمعان النظر يظهر أن المحصلة النهائية لهذه التطورات لم تمس جوهر السياسات الأمريكية، ناهيك عن التمسك بالتصعيد في أفغانستان، الأمر الذي يؤكد من جديد أن مفتاح التغيير إلى الأفضل بيد العرب وحدهم. ولا يمكن أن يكتمل تحليل السياق العالمي دون الإشارة إلى التغيرات الكبرى التي حدثت في بنية المجتمع العالمي، التي تبلورت في ظاهرة العولمة، التي أصبحت تؤثر بشكل مباشر في سياسات الدول في كافة المجالات. وبناء على ذلك، يمكن القول إن صانع القرار القطري قد فقد حرية الحركة النسبية التي كانت له قبل بزوغ عصر العولمة، الذي ساد على وجه الخصوص بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. وإذا كان صحيحاً أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي، فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة، وسيكشف المستقبل المنظور عن أن العولمة ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى، ستنقل الإنسانية كلها إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى، ستحدث آثارا إيجابية لم تكن متصورة لدى من صمموا عملية العولمة، بل ستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم التي كانت تهدف إلي الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي، وسيثبت التاريخ أنه لن يتاح لدولة واحدة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو حتى لمجموعة من الدول، أن تهيمن هيمنة كاملة على العالم اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا وعلميا، وإلا حكمنا على شعوب الأرض جميعا بالعقم وعدم الفاعلية. وفي هذا الإطار، ثمة حاجة ملحة إلى منهج صحيح للتعامل مع ظاهرة العولمة بكل أبعادها، فالعولمة عملية تاريخية غير قابلة للارتداد، وبذلك يعد منطقا متهافتا ما يدعو إليه البعض من ضرورة محاربتها، لاستحالة الوقوف أمام نهر متدفق، هو عبارة عن حصاد تقدم إنساني، تم عبر القرون الماضية، وأسهمت فيه شعوب وحضارات شتى، وإنما الأجدى هو تحليل تأثيرات العولمة في الوطن العربي، وما تفرضه من تحديات، يتعين علينا العمل على التوصل إلى السبل المثلى لمواجهتها. لاشك أن للعولمة تجليات اقتصادية وثقافية يمكن في سياقها تحليل تلك التأثيرات. فبالنسبة الى التجليات الاقتصادية للعولمة تتضح معالمها في تزايد الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول على مستوى العالم، ووحدة الأسواق المالية والنقدية، وفتح الحدود أمام التجارة الحرة بلاقيود، إلا أن أبرز رمز معاصر للعولمة الاقتصادية يظل تأسيس منظمة التجارة العالمية. وإذا كانت غالبية الدول العربية قد وافقت على المعاهدة الخاصة بإنشاء هذه المنظمة التي أخذت على عاتقها فتح الحدود لحرية التجارة، وإزالة كافة القيود وأنماط الدعم التي تفضلها بعض الدول، فإن أخطر ما يرتبط بها أنه بعد نهاية فترة السماح التي أعطيت لبعض الدول، سوف يفتح المجال واسعا عريضا أمام حقبة التنافس بغير قيود، ويفترض التنافس العالمي أن كافة الدول، غنيّها وفقيرها، ستكون على قدم المساواة، ومن هنا ينبغي أن تلتفت الدول العربية الى أهمية الارتقاء الى مستوى المنافسة العالمية. ويخطئ صناع القرار العرب لو ظنوا أن تحديات عصر المنافسة العالمية هي تحديات اقتصادية بحتة تتصل بزيادة الصادرات أو رفع معدل الإنتاج، أو الارتقاء بمستوى الجودة. ذلك أن أخطر التحديات في هذا المجال بالذات هو التحدي الثقافي، وهنا تتعين الإشارة، على وجه الخصوص، إلى الارتفاع الخطير في معدلات الأمية في الوطن العربي، التي تصل في بعض التقديرات إلى 20%، وهو ما يعني أن 20% من الشعب العربي لن يكونوا قادرين على التعامل بكفاءة مع عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، ومع حقبة ثورة الاتصالات الكبرى، ونشوء مجتمع المعلومات العالمي. وهكذا يمكن القول إن الوطن العربي يحتاج الى ثورة تعليمية كاملة لا تقضي على الأمية فحسب، وإنما تعيد بناء مؤسسات التعليم العام من حيث الشكل والمضمون، وترفع مستوى الأداء في المؤسسة الجامعية وفي المراكز البحثية. أما بالنسبة الى التجليات السياسية للعولمة ، فإنه يمكن القول إنها تتركز في رفع شعارات الديمقراطية أو التعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان. وفي مواجهة كل شعار من هذه الشعارات، تجابه الدول العربية جميعا تحديات خطيرة، فقد قطعت بعض الدول العربية خطوات في طريق الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية والتعددية السياسية، إلا أن هذه التعددية السياسية ما زالت مقيدة، كما أن عددا لا بأس به من الدول العربية لم يخط الخطوة الأولى في طريق الديمقراطية. ومن المشكلات المثارة في هذا المجال ما يطرح حول: أي نظرية ديمقراطية يمكن تطبيقها في الوطن العربي؟ فهناك أنصار الديمقراطية الغربية الذين يرون ضرورة تطبيقها بحذافيرها، وهناك معارضون لهذا التوجه يدافعون عن الخصوصية الثقافية في هذا المجال، ويرفعون شعار الشورى في مواجهة الديمقراطية الغربية، أو يطالبون بتأسيس ديمقراطية عربية تتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي. أما حقوق الإنسان، فهي تمثل تحديات للممارسات السياسية في كثير من أقطار الوطن العربي، لأن بعض الدول العربية لا يريد أن يطبق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، زعما بأنها تتعارض مع سمات الخصوصية الثقافية. وعلى الدول العربية أن تستعد لخوض حرب شرسة في هذا المجال مع الهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تضغط لتطبيق المعايير العالمية لحقوق الإنسان. ويمكن القول إن من أخطرتحديات العولمة السياسية ما برز في ميدان العلاقات الدولية، فقد أصبح حق التدخل يفرض فرضا على بعض الدول أساسا من خلال تحكم الولاياتالمتحدة وسيطرتها على مجلس الأمن الدولي. وهكذا، وإعمالا لهذا الحق الذي يستند - كما يقال - إلى الشرعية الدولية حوصرت شعوب عربية لأسباب مختلفة. ويعتبر حق التدخل من أخطر التحديات الجديدة التي تواجه الوطن العربي وهو ما يدعو دوله إلى بذل جهد متصل في مجالين: أولهما، تعديل الأوضاع التي أدت إلى فرض هذه العقوبات تعديلا جذريا، بحيث تنتهي العوامل المرتبطة باستمرار فرضها بشكل واضح. وثانيهما، جهد سياسي وفكري يقع على عاتق رجال الدبلوماسية والقانون الدولي والمفكرين، في تقديم مبادرات دولية تناقش على المستوى العالمي لتقنين حق التدخل، ومنع الازدواجية، خاصة ما يتعلق بإخلاء ساحة اسرائيل في هذا المجال، وعدم تطبيق أية عقوبات عليها رغم جرائمها اليومية ضد الشعب الفلسطيني. وأخيرا، فإن القضية المطروحة في إطار تحليل التجليات الثقافية للعولمة هي الدعوة إلى بناء ثقافة كونية تتضمن نسقا متكاملا من القيم والمعايير لفرضها على كافة الشعوب، مما قد يؤثر في الخصوصية الثقافية للشعب العربي. وهكذا يمكن القول إن تحديات العولمة للوطن العربي متعددة، ومعقدة، وهي - كما تمت الإشارة - ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، تحتاج إلى جهد كبير من قبل صناع القرار العربي، والجامعات ومراكز الدراسات العربية للتعامل معها، لأن الطريق الوحيد أمامنا هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع المتغيرات العالمية الجديدة. السياق العالمي والإقليمي للتدهور 2- على الصعيد الإقليمي لاشك أن الكيان الصهيوني قد لعب دوره في التدهور الذي ألم بمحاولة النهضة العربية، فقد كان هو الأداة التي وجهت الضربة العسكرية إلى الدولة القائدة لهذه المحاولة في 1967، واستطاع هذا الكيان، على الرغم من الإنجاز العربي في حرب الاستنزاف عقب عدوان 1967، وحرب 1973، أن يثابر على سياسته العنصرية التوسعية بسند أمريكي مطلق، وفي هذا الإطار حدث الاختراق الاسرائيلي الكبير للأمة العربية بتوقيع معاهدة السلام مع مصر في 1979 والأردن في 1994، وما تبع ذلك من هرولة، غير مبررة، من قبل عدد من الدول العربية باتجاه اسرائيل، الأمر الذي عزز الانقسام العربي بشأن سبل المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من ان المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية قد حققتا انتصارات لافتة في هذه المواجهة، وبصفة خاصة في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين، فإن غياب ظهير عربي قوي لهما، واستشراء الانقسام الداخلي بين فصائل المقاومة الفلسطينية قد مثلا قيدا واضحا على هذه المقاومة. في السياق الاقليمي ايضا، اخفق النظام العربي في التوصل الى معادلة صحيحة للعلاقة مع جارتيه الآسيويتين الكبيرتين إيران وتركيا. في البدء كانت إيران الشاهنشاهية جزءا لايتجزأ من المشروع الامريكي المناهض لآمال الامة وغاياتها، وعندما نجحت الثورة الايرانية في 1979 تبادلت إيران الادوار مع عرب المد القومي في ستينيات القرن العشرين. غير أن التشدد القومي الواضح للثورة الايرانية والتناقض بين مشروعها «الاسلامي» والنظم العربية عامة، والخليجية خاصة، أوجد احتقانا في العلاقات العربية - الايرانية بلغ ذروته بانفجار الحرب العراقية - الايرانية (1988/1980) لتكون أطول حرب نظامية يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان لتلك الحرب أسوأ الآثار في تدمير مقومات القوة العربية، وتعثر مسيرة الأمة على طريق التنمية. وبين دور إيراني في العراق مرفوض عربيا، وإمكانات عمل عربي - إيراني مشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصهيو - أمريكية، مازال النظام العربي غير قادر على أن يجد المعادلة الصحيحة لعلاقته بإيران على النحو الذي يعظم القواسم المشتركة، ويحفظ المصالح العربية في آن واحد. وبالنسبة الى تركيا، فشل النموذج التركي الذي أيده الغرب، وبصفة خاصة الولاياتالمتحدة، لتحقيق نهضة اقليمية في الشرق الاوسط، في أن يحصل على قبول من جانب النخب السياسية في الوطن العربي لأسباب كثيرة، منها العامل التاريخي، ومنها ايضا طبيعة العلاقة بين تركيا، كدولة أطلنطية، والولاياتالمتحدة التي لعبت دورا رئيسيا في وأد مشروع النهضة العربية في خمسينيات القرض الماضي وستينياته. وتضاف الى ذلك عوامل التوتر في العلاقات العربية - التركية بخصوص قضايا حيوية كالمياه ولواء الاسكندرونة والعلاقات التركية - الاسرائيلية، ومع ذلك فإن التطورات الداخلية في تركيا في العقود الاخيرة، وانكشاف حقيقة الرغبة الغربية في عدم قبول تركيا دولة ناهضة في مجتمع الدول الغربية المتقدمة، قد ولدا توجهات جديدة في السياسة التركية تجاه الوطن العربي فتحت آفاقا رحبة لتطوير العلاقات العربية - التركية، وبصفة خاصة في ضوء التطورات الايجابية في الموقف التركي تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي، وبالذات منذ العدوان الاسرائيلي على غزة (2009/2008). وعلى صعيد القارة الافريقية، أخفق النظام العربي في تحقيق علاقات تعاونية مستقرة مع الجانب الافريقي تجعل من الطرفين حليفين في السعي نحو النهضة والتصدي لمحاولات الهيمنة. كان للنظام العربي في مرحلة المد القومي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته دوره الفاعل في معارك التحرر الافريقية، غير أن هذا الدور واجه دوما عقبة التغلغل الاسرائيلي في افريقيا. وعلى الرغم مما بدا ان التعاون العربي - الافريقي قد بلغ ذروته بعقد القمة العربية - الافريقية في مارس 1977 الا أن الآمال المعقودة على هذا التعاون سرعان ما انحسرت مع بداية الانقسام العربي حول التسوية مع اسرائيل في السنة نفسها، ومع تفاقم الانقسام العربي، واستمرار النشاط الاسرائيلي، ودخول قوى عالمية جديدة على رأسها الولاياتالمتحدة والصين الى ساحة التنافس داخل القارة الافريقية، بدا أن الحضور العربي في افريقيا أضعف من أن يولد تعاضدا عربيا - افريقيا من أجل نهضة شاملة. ويعني ماسبق ان السياق العالمي والاقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن دوما مواتيا أو غير موات، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي عقب هزيمة 1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوما. وعندما تحولت قيادة النظام العالمي الى نموذج الاحادية القطبية، واجه النظام العربي واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي ان احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطرد. ويعني هذا انه ما لم تحدث تحولات داخلية مواتية في النظام العربي، فإن التطورات العالمية باتجاه العودة الى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر في مسيرة نهضته، والامر نفسه ينطبق على نحو أفضل ما حققه من انجازات في صراعه مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الايرانية والسياسة التركية والبلدان الافريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الاقليمية.