تشييع جنازة الراحل محمد الخلفي إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع النهضوي العربي

بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
المشروع النهضوي...والمطالب التي حملتها ستة أجيال عربية في العهد الحديث والمعاصر وناضلت من أجل إنجازها (فنجحت في بعضها وأخفقت في أغلبها)، لكنه يعيد بناء الصلات والعلائق بينها بشكل جديد.
1 طبيعة المشروع النهضوي وأهدافه
يبرر فكرة مشروع نهضوي عربي ما تعانيه الأمة ضَعْفاً ووهناً في أوضاعها، وتشوها في الرؤية بفعل ما ينهمر عليها من نكبات وتراجعات. وحين تكون الأمة بهذا الحجم من التراجع والضياع والتيه، على الرغم مما تضمّه من قوى حية، فإنها تحتاج الى بوصلة تهتدي بها وترشِّد بها فاعليتها. وليس غير مشروع شامل واستراتيجي، مثل المشروع النهضوي، يقدم لها وللقوى الحية فيها مثل تلك البوصلة.
يمثل المشروع النهضوي هذا رداً على معضلات ست فرضت نفسها على الواقع العربي، وعلى العقل العربي، منذ قرنين: الاحتلال، والتجزئة، والتخلف والاستغلال والاستبداد، والتأخر التاريخي.
الاستقلال الوطني والقومي هو الجواب التاريخي عن حالة الاحتلال. والوحدة القومية هي الرد الاستراتيجي على التجزئة الكيانية التي باتت هي الأخرى مهددة بتجزئة دون قطرية. والتنمية المستقلة هي بديل التخلف والتنمية القاصرة في ظل العولمة. والعدالة الاجتماعية هي نقيض الاستغلال والفوارق الطبقية الضخمة التي تعمقت في ظل محاولات فرض نموذج ليبرالي بدعوى تحقيق الكفاءة الاقتصادية. والديمقراطية هي السبيل الوحيد لمشاركة الأمة في صنع مستقبلها. والتجدد الحضاري هو الحل لمعضلة التأخر التاريخي والانحطاط. هي أهداف ستة إذن تلك التي تؤسس المشروع النهضوي العربي وتحمل على الحاجة إليه.
ومن النافل القول، إنها ليست أهدافا جديدة، ولابد من الانتباه إليها مع ميلاد فكرة المشروع النهضوي اليوم. بل لازَمَتْ مسيرة الفكر السياسي والعمل السياسي العربيَّين منذ القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية الأولى. لكنها أبداً لم تتبلور كأهداف كاملة مترابطة إلا في المشروع النهضوي، وإن كانت الأمانة تقتضي الاعتراف بأن شكلا من أشكال الترابط بينها تَبَلْوَرَ في برنامج الثورة المصرية على نحو ما عبَّر عنه الميثاق أبلغ تعبير، فقبل المشروع النهضوي كانت كل نخبة فكرية وسياسية تشتغل تحت عنوان هدف بعينه دون سواه: كانت الوحدة الهدف الأساسي للنخب القومية (ثم أضاف عبد الناصر الاستقلال والتنمية). وكانت العدالة الاجتماعية الهدف الرئيس للنخب اليسارية. والحرية (الديمقراطية) هدف النخب الليبرالية. وحفظ الهوية من التبديد هدف النخب الإسلامية. وكل واحدة من هذه النخب تحسب الهدف الذي أقامتْ عليه مشروعَهَا الفكري والسياسيَّ، المفتاحَ الوحيد للجواب عن معضلات الواقع العربي غير آبهة بغيره من الأهداف.
لم تكن جميعها على خطأ في تبنيها تلك الأهداف، فهي أهداف صحيحة وموضوعية تفرضها أحوال الواقع العربي. لكن الخطأ كان في التعامل معها كأهداف متمايزة ومنفصلة ومتعارضة.. وعلى ذلك، يمثل المشروع النهضوي العربي تصحيحا وتصويبا لتلك الرؤية وإعادة بناء وصياغة للعلاقة بين تلك الأهداف.
2- شكل العلاقة بين عناصر المشروع النهضوي
المشروع النهضوي، الذي نريده، منظومة مترابطة من الأهداف، تتصل الواحدة منها بالأخرى اتصالا تلازم وتماهٍ. وكما في كل منظومة، لا يقبل العنصر الواحد من المشروع النهضوي عزلا أو فصلا أو مركزية دون تغيير مجمل المنظومة والمعنى العميق الذي يؤسسها. فالعناصر جميعها مترابطة ويقوم بينها تحديد متبادل، ولا يمكن إدراكها إلا في منظوميتها. وترجمة هذه الرؤية سياسيا أن المشروع النهضوي هذا لا يقبل النظر إليه بمنطق الأولويات، لأن هذا المنطق هو - بالذات - الذي كان مسؤولا، في ما مضى، عن اعتماد هف معين أو أهداف بعينها على حساب أخرى.
تعني منظومية المشروع النهضوي احترام كليته، والإعراض عن كل مقاربة له بمتقضى فكرة الأفضلية، وعدم المقايضة بين عناصره وأهدافه: تلك المقايضة التي أوقعت مشاريع النهضة السابقة في تناقضات ذاتية ذهبت بوهجها الثوري وأساءت- في بعض الأحيان - إلى صورتها وشرعيتها. إنه المشرع الذي ينبغي إدراكه بوصفه هدفا واحدا لا يقبل التجزئة، وإن كان يقبل التمرحل الموضوعي. وفي هذا السياق ينبغي أن تتكاثف جهود كافة القوى الحية المؤمنة به للنضال من أجله في إطار حلف عريض (كتلة تاريخية) يكون المشروع النهضوي برنامجها ومرجعها.
فلتخض الأمة إذن، وقواها الاجتماعية والسياسية والثقافية الحية، معركة تحقيق هذا المشروع النهضوي العربي وأهدافه التاريخية الكبرى، بعزيمة على قدر مستوى التحدي: مستلهمة ميراثها الحضاري العظيم وسوابق التاريخ وتراكماته. وهذه رؤية للنهضة نضعها تحت تصرف معركة الأمن من أجل ذلك الهدف الكبير.
الفصل الثاني
التجدد الحضاري
حصل للحضارة العربية - الاسلامية الظهور و التألق والتفوق في العصر الوسيط بفعل الديناميات العميقة التي حركت فيها ارادة البناء والتقدم والخروج الى العالمية. كانت دعوة الاسلام واحدة من تلك الديناميات التي حولت نشر عقيدة التوحيد الى رسالة حملها العرب الفاتحون إلى الآفاق. وكان تشبع العرب الفاتحين بثقافات الشعوب، التي فتحت أراضيها - عنوة أو صلحا - واحتك بها احتكاكا، واحدا من الاسباب التي تغذت منها حضارة العرب والمسلمين واطلقت فيها دينامية البناء والتقدم. ثم كان التراكم الثقافي والعلمي الهائل، وحركة التدوين والترجمة، وتطور الصنائع والجرف، وتوسع نطاق التجارة بعيدة المدى مع العالم الخارجي، عوامل أعادت انتاج حركة التطور الحضاري. واذا كان ثمة ما ميز الحضارة العربية - الاسلامية في عهدها، وسمح لها بالبقاء فترة طويلة من الزمن، فهو قدرتها على التجدد الذاتي بالعوامل نفسها التي ذكرنا، وخاصة منها انفتاحها عن غيرها من الحضارات والأخذ منها دونما شعور بالنقص او الدونية، ولم تبدأ حركة النهضة والحضارة في التراجع الا بعد ان انكفأت الى الداخل بفعل الضغط الخارجي على مركز الدولة، وبفعل الانقسام الداخلي وصراعات السلطة، و انهيار مركز الخلافة، وقيام الامارات، وما اعقب ذلك ونجم عنه من انكفاء ثقافي إلى افكار السلف والى ثقافة الحواشي والمختصرات، ومن تشديد الخناق على تيارات العقل والاجتهاد والابداع.
ولقد استفاق العرب قبل قرنين - ومنذ غزوة بونابرت لمصر - على حقيقة ما يفصلهم من بون شاسع عن المدينة الحديثة، وعلى حقيقة ما انتهت اليه اوضاعهم من تدهور وانحطاط. وكانت نخبهم النهضوية، منذ القرن التاسع عشر، تنبه الى ظاهرة التأخر المزدوج الذي يعانيه العرب والمسلمون: التأخر عن العصر والمدينة الحديثة، والتأخر عن الحضار العربية - الاسلامية وما بلغته في عصرها - ثم كان يرتسم طريق الخروج من الانحطاط والتأخر في شكل استلهام للنموذج النهضوي الاوروبي وللنموذج النهضوي العربي الوسيط، او لنموذج نهضوي تنصهر فيه قيم الحداثة والاصالة معا، لم يتوقف النهضويون عن الدفاع عنه الا بعد ان سقطت الدولة العثمانية وسقط معها الاستقلال الوطني للبلاد العربية واليوم مايزال مشروع النهضة والتجدد الحضاري يفرض نفسه على الأمة ويدعوها اليه سبيلا وحيدا الى التحرر من اصفاد التأخر والانخطاط.
اولا: في معنى التجدد الحضاري وضرورته.
اذا كان معنى التجدد الحضاري هو ان يكتسب العرب، اليوم، وسيلة لاطلاق ديناميات التقدم والتجدد في عمرانهم الاجتماعي والثقافي على النحو الذي يؤهلهم للحاق بغيرهم من الأمم المعاصرة التي اخذت بحظ من المدنية والكونية، و على النحو الذي يحفظ لهم خصوصيتهم الثقافية والقيمية، فان ضرورة هذا التجدد تأتي بالذات من الحاجة اليه، ومن الحاجة الى التحرر من الاسباب التي تمنع العرب من تحقيقه. وهناك سببان، على الاقل، يبرران الحاجة الى التجدد الحضاري.
سببان يبرزان الحاجة الى التجدد الحضاري: 1 - ما يعانيه الوطن العربي تأخرا فادحا في البنى الثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط 2 - و ما يعانيه الوطن العربي اشكالا بائسة من الحداثة الرثة في البنى نفسها نتيجة اصطدامه بالغرب.
اولهما يعاني الوطن العرب تأخرا فادحا في البنى الثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه والمنحدرة منذ قرون. ان سيادة الجمود الفكري والتكلس العقلي وتراجع العقل الاجتهادي، وسيطرة الثقافة النصية والافكار التي تدعو الى الانكفاء الى الاصول - مفهومة بوصفها حقائق مطلقة - وتقديس التراث، وهيمنة الخرافة والنزعات التواكلية، ورفض الآخر، والانكماش الذاتي والتشرنق على الهوية - مفهومة بوصفها ماهية مطلقة لا تغتني ولا تتطور - الخ، وهيمنة القيم القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والمعنى العصري للامة، واحتقار العمل، والميل الى الدعة والكسل، والعلاقة المائعة بالزمن وبالنظام، وعدم التشبع بروح المسؤولية، كلها ظواهر تشي بمقدار ما أصاب العمران الثقافي والاجتماعي العربي من خراب هائل. وكلها تحث ارادة النهضة، لدى النهضويين اليوم جميعا، على العمل
الصابر المثابر من أجل إعمار هذا العمران المدمر من مدخل التحدد الحضاري.
وثانيهما ما يعانيه الوطن العربي أشكالا بائسة من الحداثة الرثة في البنى نفسها (الثقافية والاجتماعية) نتيجة اصطدامه بالغرب، وما أحدثه ذلك الاصطدام من ظواهر شوهاء في بناه. ان سيادة نزعة التقليد الثقافي الرث للغرب، وتقديس الوافد واحتقار الموروث، والتغريب، والتبشير غير المشروط بثقافة الآخر، والدعوة الى التحديث القسري، وجلد الذات والهوية، والتماهي مع الغرب والفناء فيه، والهجوم على الدين والمشاعر الدينية للمؤمنين، والعدمية في النظر الى الثقافة العربية، والترحل الدائم بين النظريات الفكرية في الغرب، وتسول أجوبة ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا دون وعي الفارق في البنى والتاريخ.. إلخ، وهيمنة القيم الاستهلاكية تشبها بالمجتمعات الغربية، وتفشي النزعات المادية الغرائزية، والفردانية المفرطة في انغزالها عن العلاقات المجتمعية الطبيعية (كالاسرة مثلا)، والتحلل المتزايد لمنظومة القيم..، كلها ظواهر تنبىء بدرجة التشوه الذي أصاب الحياة الثقافية والاجتماعية العربية المعاصرة نتيجة تلقي جرعات من الحداثة غير مهضومة، او نتيجة إدراك قاصر لمعنى الحداثة. وهي ايضا مما يستحث النهضويين اليوم على مواجهتها وتصحيحها سعيا وراء تأسيس حداثة جديدة لاتطيح بالشخصية القومية او تمسخها، ولا تكره المجتمع والناس على الفناء في المثال الحضاري للآخر.
ثانيا: المداخل والوسائل
ان تجددا حضاريا يعيد استلهام كل ما هو نير وعظيم ومفيد في خبرتنا التاريخية الحضارية من جهة، ويعيد تأصيل كل ماهو متقدم وناجع وباحث على الانتهاض في المدنية الغربية الحديثة من جهة ثانية، كي يكون منهما نموذجا حضاريا متوازنا - على نحو ما فعلت اليابان والصين مثلا - يحتاج، في جملة ما يحتاج إليه، الى تحقيق أربعة أهداف:
أولها ممارسة نقد مزودج لسلطتين مرجعيتين تحكمان الوعي العربي منذ قرنين، وتمارسان عليه تأثيرا هائلا، الى الحد الذي تشلان قدرته على التجديد او التأصيل، هما: التراث والغرب. إن النقد المطلوب هنا هو نقد النظرة الى كل منهما بو بوصفه «مستودع حقائق» يكفي التوسل به للجواب عن كل مشكلات الراهن العربي! ان التراث لاينطوي على حقائق مطلقة فوق الزمان والمكان، كما يدعي خطاب الاصالة. كما أن الغرب ليس مستودع تلك الحقائق المطلقة، كما يدعي خطاب المعاصرة. التراث والغرب مجالان ثقافيان نسبيان ومشروطان بالزمان والمكان ومعطيات التاريخ. والنظر النقدي إليهما ينبغي ان ينصرف الى إدراك هذا النسبي الذي يؤسس كلا منهما. فلقد كان النقد من أسلحة الاقدمين من أسلافنا. مارسوه بجرأة دفاعا عن جديد أنشأوه او تخطئة لقديم او معاصر لهم لم يروا فيه وجه صواب. كما أن الغرب ما فتىء يمارس نقده لنفسه، ما تفعل اليوم تيارات ما بعد الحداثة التي تعيد النظر في كل التراث الغربي الحديث والمعاصر. ان تقديس التراث هو مرادف تقديس الغرب في المقدمات والروح وان اختلفت النتائج. وهو التقديس الذي أرهق الوعي العربي في صراع الاصالة والحداثة العقيم، منذ قرنين، والذي بات يهددنا اليوم بحرب أهلية فكرية وثقافية تستنزف العقل والوجدان!
وثانيها عدم السقوط في نظرة عدمية الى التراث والى الغرب معا بدعوى نقدهما. اذا لم يكن التراث والغرب مستودعين للحقائق المطلقة، فليس يعني ذلك إسقاط مرجعيتيهما من الاساس، وانما إعادة وعيهما بعيدا عن فرضية تفوق أي منهما عن الآخر في تقديم مواد لفكرنا ولمجتمعنا اليوم. ان الرؤية النهضوية الى هذه المسألة تنطلق من التشديد على حاجتنا الى فهم التراث والغرب فهما علميا رصينا دون انتقائية ايديولوجية، والبحث عن أفضل السبل الى بناء علاقة صحيحة وصحية بكل منهما. وفي هذا السياق، ينبغي ان يقع تواصل مستمر مع التراث من أجل معرفة منظومته وإدراكها في سياق اسئلتها التاريخية، والاستفادة من الخبرة الماضية في مجابهة مشكلات عرضت نفسها على العقل والحضارة دون استنساخها، مثلما ينبغي من معرفة منظومتهما وإدراك ما هو خاص فيها يرتبط بأوضاع المجتمعات الغربية وتاريخها وبناها، وما هو عام وكوني يمكن اعتماده. وفي الحالين، ان حاجتنا كبيرة الى تواصل مجتهد مع التراث والى انفتاح متوازن على الحداثة. ومن المهم ان ندرك ان هذه المسألة شديدة الاتصال بهدف النهضة الثقافية. فلا نهضة ثقافية ممكنة دون إعادة تمثل التراث والحداثة تمثلا علميا صحيحا، ودون إعادة بناء صلتنا بهما على نحو صحي ومتوازن دون تقديس او انكار. وغني عن البيان ان الترجمة والتعريب أداة فعالة في أي مسعى نحو النهضة الثقافية، فبواسطتها تمتلك الثقافة العربية امكانية الاغتناء بثقافات المجتمعات والأمم الأخرى. ولذلك فالنهوض بها يقع اليوم كما حصل في الماضي في قلب الأولويات الثقافية المطروحة على هذه الثقافة.
وثالثها إنهاء حالة النزاع داخل المجتمع العربي، وفي أوساط نخبة، بين العروبة والاسلام وإعادة إدراك الهوية في بعدها التركيبي الجامع للحدين على قاعدة أن الاسلام بتراثه العَقدي والحضاري شكَّلَ محتوى للعروبة والقومية العربية. لقد أنتج ذلك النزاع صراعات ثقافية وسياسية كان المجتمع العربي في غنى عنها، لأنها مزّقتْ نسيجَه ودقّت الأسافين بين تياراته. كما أنه لم يكن لها من مسوِّغ تاريخي لو حصلتْ مقاربتُها على نحو صحيح متحرِّر من مطالب السياسة والتعبئة والتجييش لدى أطراف ذلك النزاع. إن الإسلام هو الذي زوَّد العرب بمشروع تاريخيّ منذ الدعوة، وهو الذي قادهم الى تأسيس دولة وحضارة كبيرتين، والعرب هم الذين حملوا الإسلام الى العالم فبات كونيّاً. وهي حقيقة يعيها حتى غير المسلمين من العرب ممن يعتنقون عقيدة أخرى (المسيحيون العرب مثلا)، إذ يسلمون بأن الإسلام جزء أصيل من حضارتهم العربية، ويذهب قسم منهم إلى اعتبار نفسه مسلماً بالمعنى الحضاري. واليوم، ما أحرج العروبة إلى تلك الطاقة الروحية الهائلة التي يحتويها الإسلام في المعركة المفتوحة من أجل التحرر الوطني والاستقلال القومي. وما أحوج الإسلام إلى دور تؤديه العروبة مشروعا تحرريّاً وإنسانياً من أجل التعايش مع العالم والحوار وتعظيم القيم الإنسانية المشتركة.
ورابعُها حماية ما في الأمة من تنوع ثقافي مصدره روافد ثقافية شعبية متنوعة في المجتمع العربي، واعتبار هذا التنوع عامل إخصاب وإغناء للثقافة العربية ينبغي استثماره، لا عامل انقسام وتهديد ينبغي وأْدُهُ باسم الوحدة الثقافية، وذلك دون إخلال بضرورة العمل على تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة.
ثالثا: من أجل نسق قيم نهضوي
إن نسق القيم النهضوي، لابد أن يكون معبّراً عن الشخصية العربية الإسلامية، ومنفتحاً على العصر.
إن نسق القيم النهضوي الذي نعنيه، هنا، هو ذاك الذي يترجم معنى التجدُّد الحضاري الوارد أعلاه، أي النسق الذي يعبّر عن تلك الحالة من التوازن المطلوب بين المواريث والمكتسبات، بين الخصوصية والكونية، المتمسك بشخصيته والمنفتح على العالم. وهكذا فإن نسق القيم النهضوي لابد أن يكون في الآن نفسه معبِّراً عن الشخصية العربية الإسلامية، متمسكاً بالقيم الكبيرة فيها المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني (قيم التمسك بالعائلة، وأخلاق المروءة والصدق، والإيثار على النفس، والتراحم، والتوادد، والتضامن والإنصاف والعدل...)، ومنفتحاً على العصر، منتهلا منه أرقى ما في قيمه ومتمسكاً بها، مستدمجاً إياها في منظومته (ومنها قيم الحرية، والتسامح والاختلاف والمسؤولية والاستقلال الذاتي للشخصية والإنتاج...).
وقد يكون من التحصيل الحاصل القول، إن الهوية أية هوية ليست معطى ثابتا ونهائياً، وإنما هي حصيلة ما يكتسبه الأفراد والجماعات من قيم جديدة تصبح جزءاً من تكوين الهوية. إن الإسلام أضاف إلى العرب قيماً جديدة على قيم الشجاعة والمروءة والكرم والتضامن التي كانت لديهم قبل الإسلام، التي اعترف لهم الإسلام بها باعتبارها من «مكارم الأخلاق» (كما ورد في الحديث النبوي: «إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق»)، ولم تلبث قيم الإسلام أن أصبحت قيم العرب. ثم إن كثيراً من القيم الحديثة التي كانت مرفوضة، قبل قرنين، من العرب والمسلمين (حرية المرأة، والاختلاط بين الجنسين، والترفيه أو الترويح عن النفس، والاقتداء بغير المسلمين في المأكل والملبس..)، باتت اليوم جزءاً من قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم لا يسألون عن مدى شرعيتها أو مدى الأصالة فيها.
وإذا كان من الثابت أن نسق القيم النهضوي الذي ندعو إليه يجافي قيم التواكل والاعتماد على الغير، في قيمنا الموروثة، ويجافي القيم الغرائزية الشاذة والقيم الذرائعية والفردانية الأنانية في القيم الحديثة والمعاصرة، فمن تحصيل الحاصل القول، إنه نسق القيم الذي لا يمكنه أن يرى النور إلا من خلال إعادة تأهيل مؤسسات التربية كافة من أسرة ومدرسة وإعلام وتزويدها برسالة اجتماعية نهضوية تقوم بها. وهذه مهمة ملقاة على عاتق النخب الفكرية والاجتماعية اليوم في الوطن العربي، في المقام الأول، دون إعفاء الدولة من مسؤوليتها في ذلك.
ولعل قوى المشروع النهضوي العربي مدعوَّة إلى الاغتراف من دوائر حضارية أخرى غير الغرب، وقراءة تجربتها التاريخية المعاصرة، وخاصة تجربتها في توفير أجوبة خلاقة عن إشكالية الخصوصية والكونية، والهوية والحداثة، في مجتمعاتها. ولعل بلداناً من الدائرة الآسيوية، مثل اليابان والصين والهند، تقدم مثالا لتلك الأجوبة الخلاقة. وأهميتها تأتي بالذات من كونها مكتنزه بالتاريخ ومواريثه، وبثقل العمق الحضاري فيها، مثل المجتمع العربي، وبثراء نسق «القيم الآسيوية». أما إذا كان لابد من نماذج لمجتمعات أقرب إلى مناخنا الحضاري والديني والثقافي، ففي ماليزيا المثال الذي يستحق القراءة والاستفادة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.