كرونولوجية المسار التربوي المغربي: أي تعليم أريد لمغرب ما بعد الاستقلال؟ بدأت الإرهاصات الأولى لمشروع نظام تعليمي مغربي مساير لمرحلة ما بعد الاستعمار، مع حكومة امبارك البكاي ولو بشكل مرتجل بحكم تواجد العديد من الوزراء المحافظين في حكومته بثقل ثقافتهم الشرعية، ولم ترق السياسة التعليمية إلى مستوى ملاءمتها مع المرحلة الجديدة إلا في عهد حكومة الأستاذ عبد الله ابراهيم، حينما تأكدت الرغبة الجامحة من أجل صياغة منظومة تربوية تكرس الاستقلال الفعلي للبلاد اتجاه تراكمات المرحلة السابقة لها السلبية، إلا أن هذا البرنامج لم يكتب له التطبيق بسبب تبعات ما عرف بالانقلاب الأبيض . فماهي المصوغات الكبرى التي جسدت عراقيل التغيير في خطابنا التربوي من منظور ابستمولوجي تاريخي؟ أي مرتكزات أريد لتعليمنا الاعتماد عليها: جدلية التاريخي والطموح المستقبلي؟ اعتبر صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حدثا سياسيا واجتماعيا أكثر منه مشروعا تربويا من منطلق كونه دستورا آخر للمغاربة بإمكانه الاستجابة لطموح مستقبلي وعلمي وحضاري مشروع، ويجيب عن انشغالات كل المغاربة الآنية والمستقبلية في علاقتهم بمكونات الأسرة الدولية، مكرسا في نفس الوقت قيم التسامح والحداثة، مدافعا عن مفهوم ثقافة حقوق الإنسان في بعدها الكوني. هذا التوجه ورد في القسم الاول كمبادئ اساسية، بل اعتبرها مرتكزات ثابتة، اذ صرح بأن نظام التعليم في المغرب يهتدي بمبادئ العقيدة الإسلامية تروم تكوين متعلم مغربي متسم بالاعتدال وقادر على اكتساب وامتلاك العلوم والتكنولوجيا مما يعزز قدرة بلادنا التنافسية في المحيط الدولي، وبتعبير آخر الانتقال بتعليمنا من تعليم معرفي تقليدي- استهلاكي الى تعريف استثماري ، ومن مدرسة مغربية تقليدية ومحافظة مجرورة اكثر الى الماضي، الى مدرسة حديثة مفعمة بالحياة، مدرسة -أراد لها الميثاق- أن تكون قاطرة للتنمية الوطنية والجهوية ، لا تميز بين الذكور والاناث، بل تكرس المساواة بين المغاربة ، كما ترفض التمايز الاقتصادي الذي أصبح التعليم الخصوصي يكرسه في مستويات مختلفة. فهل تكرست فعليا هذه المقولات على أرض الواقع؟ تعليمنا من الميثاق إلى المخطط الإستعجالي: علاقة تكامل أم تناقض؟ بغض النظر عن الثوابت والمرتكزات ، وكذا الاشارات السياسية القوية التي تتضمنها مرتكزات الميثاق الوطني للتربية والتكوين بمختلف دعاماته ، أو 23 مشروعا التي يتضمنها المخطط الإستعجالي 2009 2012 ، تطرح مجموعة من التساؤولات المخيفة من قبيل : لماذا مخطط استعجالي في هذه الظروف بالضبط؟ ولماذا لم يعط الوقت الكافي لتقويم نتائج أجرأة الميثاق الوطني؟ ولماذا لم يحمل المخطط في نضامينه شعار مشروع أمة بدل مشروع وزارة بعد إقصاء النقابة من مناقشته والمشاركة في إعداده؟ وما هي الحصيلة التربوية على عهد وزيرين سياسي وهو حبيب المالكي وتقنوقراط مسيس هو أحمد اخشيشن؟ وهل يمكن اعتبار هذا المخطط الإستعجالي تراجعا عن المرامي الكبرى التي وردت في الميثاق؟. أسئلة يمكنها أن تتحمل- كما أسلفنا- عدة تأويلات وإجابات تصب كلها في خانة الدفاع عن الهوية المغربية جهويا وقاريا ودوليا دون ان يعني ذلك التعصب لمرجعية من المرجعيات المتعددة . إن النظام التعليمي المغربي يتأثر بالأوضاع السسيو اقتصادية للبلاد: فهو يمتص ثاني الإعتمادات المالية بعد تلك التي تخصص للدفاع عن وحدتنا الترابية ، لذلك فهو مؤهل لأن تحال عليه جميع الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية. فماهي أبرز المضامين التي وردت في الميثاق في هذا السياق؟ أولا- السعي إلى تكوين مواطن منتج ومندمج في إطار تعليم نافع ثانيا- فهو يتجه بقوة إلى المساواة في التربية والتكوين بين الذكور والإناث. ثالثا- يكرس مبدأ تكافؤ الفرص. رابعا- يمكن من الانفتاح على الجديد والعولمة. خامسا- يؤهل للاندماج في سوق الشغل. كما يتضمن خطوطا مهمة تتعلق بقضايا حيوية وإستراتيجية حساسة بالنسبة للمغاربة كنشر التعليم وتعميمه وربطه بمحيطه والرفع من جودته، بإشراك العديد من الجهات والفعاليات من كل قنوات المجتمع المدني والذي يعتبره شموليا في أبعاده وليس قطاعيا، يسعى في نهاية المطاف إلى إعداد متعلم له ثقافة كونية تؤكد على قيم حقوق الإنسان، وبالتالي تهيئه على التكيف مع متطلبات المهن الجديدة التي تفرزها العولمة. فهل استفاد تطبيق الميثاق من الحيز الزمني الكافي لتقييمه؟ حينما نتحدث عن الحيز الزمني، يعني وبشكل أوتوماتيكي البرنامج السياسي للمسؤول الحكومي الذي يشرف على تدبير الملف في علاقته بالهيئة السياسية التي ينتمي إليها ، لا نعتقد ذلك: فخمس وحتى عشر سنوات أمد زمني غير كاف لتطبيق برنامج هذا المسؤول وذاك ، وما الإعلان عن المخطط في هذا الظرف إلا نتيجة للسرعة التي وقع بها وضع القطيعة مع البرنامج التربوي السياسي السابق. كما أن التجربة قد تتغير باستمرار كلما حصل مثل هذه الموقف . لقد كانت التجربة السابقة تنطلق من محورين أساسيين هما الإشراك المباشر للفرقاء الاجتماعيين، والنهوض بالأوضاع الاجتماعية للمدرسين والمتعلمين انطلاقا من المادة 138 من الميثاق ومن الدعامة 13 القاضية بتحفيز كل مكونات هذه الأسرة وتحسين أوضاعها الإجتماعية. إذن فالميثاق الوطني ، هو وليد تحولات داخلية للمجتمع المغربي في علاقته بالمتغيرات الاقتصادية والسياسية الدولية، وفي هذا الاتجاه تبدو جليا الأبعاد السياسية للمرامي والغايات الكبرى التي كانت وراء صياغة مشروع الميثاق الذي تعتبره الكثير من الجهات وخاصة الرسمية والحزبية كونه مشروع امة يتأسس على خلفية الانخراط الشمولي من اجل تكوين متعلم قادر على التكيف مع الوضع الدولي الجديد انطلاقا من كفاءات محددة مسبقا تجعله فاعلا لا منفعلا في صيرورة الأحداث الدولية وخاصة في جانبي الاقتصاد والتكنولوجيا لا منبهرا وسلبيا منها، وذلك ضمن مجتمع متشبع بمبادئ الكرامة، يؤمن بثقافة الحقوق كما يؤمن بثقافة الواجبات اتجاه القيم العليا للوطن . معالم المخطط الإستعجالي بين التجديد والعموميات: جاء المخطط الإستعجالي بمجموعة من المستجدات يمكن حصرها في النقط التالية: 1 رهن الإصلاح بظرف زمني محدد ينطلق من 2009 وينتهي في 2012 . 2 حمل شعار واضح يتمحور حول النفس الجديد للإصلاح . 3 التركيز على الجانب الكمي بدل النوعي : بناء 3600 فصل جديد ، وبناء 2500 حجرة إضافية في السلك الابتدائي، مع إحداث 50 مدرسة جماعاتية، وإلزامية تعليم مليون طفل في التعليم الأولي في أفق 2012 وزيادة عملية ترميم 11000 حجرة أخرى.... بطبيعة الحال هذه المعطيات التقنية جد ايجابية لأنها تستند على غلاف مالي جد هام ومتوفر، فهل يتكيف مع المضامين الكبرى لهذا المخطط؟ إن قراءة سريعة لتلك المضامين تحيلنا على الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى: إن المجالات الأربعة للمخطط تحمل الكثير من النوايا الحسنة منها إلزامية التعليم إلى حدود 15 سنة، كما تتحدث عن مفاهيم أخرى من قبيل التحفيز والإشكالات الأفقية وتوفير موارد النجاح .. وهي عموميات تفتقر إلى الوضوح العلمي وإلى الواقعية. الملاحظة الثانية: إن المكونات الخمس للمخطط كالقرب والتواصل والتشارك مثلا تكرس وإلى جانب عموميتها البعد البيروقراطي الصرف أكثر من الجوانب الاجتماعية والتربوية وبالتالي قد يسقطها في عملية الاجترار للمفاهيم لا أكثر. كما أن المشاريع 23 التي يتضمنها المخطط تلامس في الكثير من محتوياتها وأهدافها مقتضيات الميثاق وتعيد استنساخها مع إضافة واحدة تتجلى في تباين المفاهيم الإبستمولوجية . - إن إصلاح التعليم لا يمكن تحقيقه الا عبر مدخل سياسي مرتبط بقطاعات حيوية اخرى ذات إبعاد اجتماعية واقتصادية متحولة في الاتجاه الايجابي. - عملية الإصلاح هذه ليست بعملية بيروقراطية تتوقف على الإدارة المعنية بالقطاع فقط ، بل إن المشروع في كليته هو مشروع شعبي ورسمي لابد من إشراك كل مكونات الجسم المغربي في بلورة حلوله والاقتراحات البناءة بغض النظر عن بعض الحساسيات السياسية أو الانتخابية. وقد تأكد هذان التصوران عبر محطتين أساسيتين : اولا على ضوء النقاش الذي تزامن مع انعقاد المؤتمر الوطني الثامن للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في شوطه الثاني بالصخيرات -- والذي كانت القضية التعليمية حاضرة بقوة مباشرة أو في الكواليس تأكيد على أن الحضور السياسي بمرجعية وبرنامج حزبي، ستكون هي المدخل الجوهري لأي إصلاح تربوي. فالى أي حد يمكن اعتبار السياسي مفتاحا جوهريا لإصلاح القطاعات الأخرى المختلة على غرار ما شهده قطاع التعليم من إصلاح وذلك على مستوى المعالجة السياسية في إطار مقاربة اجتماعية أخذت بعين الاعتبار أهمية العنصر البشري باعتباره قطب المبادرة الملكية لتنمية الموارد البشرية كمدخل حقيقي للتنمية المستدامة .والتي لن تتحقق باقتناص المفاهيم الإبستمولوجية، بل وإفراغها من محتوياتها الأصلية. إن التركيز على الجانب الكمي المجرد من المعالم السياسية البارزة لن يزيد منظومتنا التربوية إلا تفاقما لجوانب الإنتكاسة بدليل ما حصل مؤخرا بمدرسة عمر بن عبد العزيز بالناضور .