دقة واحترام تخصصات تمهيد حول الموضوعية ومصداقية السيرة الذاتية: "" حينما يشرع كاتب في سرد سيرته الذاتية كشخص منفرد بها قد يكون محل قبول و تصديق في أغلب الأحيان، نظرا لما كان قد قدمه من بطولات ومواقف أو من علوم و معارف، ربما استفاد منها الكثير من الناس على ما كانت تمتاز به من صبر و شجاعة أو جدية و رصانة، سواء كانت الإنجازات عملا أو قولا و كتابة، فيكون هذا التصديق و خاصة في مجال الكتابة أو التأليف بمثابة تراضي بين الكاتب و قراء إصداراته. إلا أن أغلب التصديق يكون من باب الميل الأدبي أكثر منه ميلا معرفيا و علميا، إذ أن السيرة الذاتية لكل شخص حينما يريد أن يعبر عنها فقد يتكلف صياغات ويستعمل أدوات خاصة تكون أقرب إلى الإشهار والدعاية منها إلى الإقناع و الدراية، كما أن طرق الأدلة فيها ربما تكون بعيدة عن واقع السيرة الذاتية، لأنها توظف فيها أدوات و وسائل مستعارة وخارجية تكون في أغلب الأحيان متداولة على سبيل الإبتذال أو مشتركة بين أهل الفكر خاصة و عامة المثقفين. . . لكن حينما يتعلق الأمر بسرد سيرة ذاتية لطريقة أو مذهب بأكمله كبنية أو منهج علمي و عملي متميز و غائي، فإن الأمر يكون على العكس من ذلك محل تردد و ترقب أو تعجب و تقطب، لأن الحديث عن طريقة ما ومن داخل حقلها يمثل خصوصية و ذاتية للكاتب عنها لا يستطيع أن يلغيها من منهجه و أسلوبه، رغم أن كلامه و تعبيره يتسم بالموضوعية والصدق في كل ما يقوله، لأنها ذاتية صادقة و علمية لا تتناقض مع الموضوعية بأي حال، ما دامت قائمة على التجربة و اعتبارات الزمان و المكان و الحال والمقال، و العقل و القلب، و العلم و العمل. و من هنا فقد يقبل البعض بعض عناصر السرد و الرواية لهذه السيرة، وقد يرفضها آخرون إما على وجه الاستبعاد أو الانتقاد، فيقع الرافض بذلك في أحد طرفي الأمر الذميم كما وصفهما الله سبحانه و تعالى " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما ياتهم تاويله " و " كل حزب بما لديهم فرحون . و من هذا التكذيب و التعصب الحزبي أو المذهبي سواء كان فرديا أو جماعيا،فقد يقع الرافض لدعوى الآخر بغير مبرر مقبول عقلا و شرعا في مشكلة فكرية عويصة لا يستطيع التخلص منها و هي مشكلة الكاذب، ونموذجها كأن يقول الرافض: كل أهل مدينة العرفان كاذبون! فيكون صاحب هذا الزعم بإصداره حكما كليا على غيره لا يخلو من أحد موقعين: - إما أن يكون من أهل مدينة العرفان فيصدق عليه نفسه حكم الكاذب، ومن ثم ضرورة لا يصدق بحكمه على أهل العرفان بالكذب لأنه في أصل كلامه كاذب. - و إما أن يكون خارج إقامة أهل مدينة العرفان و مجال تواصلهم، فيكون حكمه بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا، و بعدم الإحاطة المعرفية والاستقراء الكلي لأهل مدينة العرفان، فيرجع عليه حكمه بأنه هو الكاذب حقا، لأنه كذب بما لم يحط بعلمه . والطريقة القادرية البودشيشية هي مدينة أهل العرفان في هذا الزمان، وقد يصعب على الكثير ممن لم يدخلها أو ممن هو بحزبه فرح أن يسلم بهذه الدعوى التقريرية، اللهم إلا إذا كان منصفا و موضوعيا مع نفسه ينشد الحق حيث وجده، و لا يتعصب لمذهب أو حزب أو طريقة أو جماعة و جمعية ما . ولقد كثر اللغط كما كثر الغلط حول واقع هذه الطريقة و منهجها وأسيء إلى أهلها إساءة مقصودة، لكنها مع ذلك بقيت في تزيد لأتباعها وأنشطتها، لا يضرها من خذلها، لأن لها غاية أحادية خالصة لا تحيد عنها ألا وهي " وأن إلى ربك المنتهى " . أ ) أصول التحصيل العلمي المبكر عند الشيخ كبيان للحضور العلمي عند الشيخ سيدي حمزة يمكن تصنيفه مبدئيا إلى نوعين حسب إطلاعنا المتواضع على ظواهره و هما: علم الشريعة والاصطلاح القائم على الحفظ و التفقه و التفكر و الاستظهار، و علم الحقيقة و السلوك المرتكز على الحال و الوجد و الانتقال الروحي من مقام إلى آخر ارتقاء و صفاء. و نبتدئ بالعلم الأول المشترك بين غالبية علماء الأمة الإسلامية للتأكيد على عالِمية الشيخ اصطلاحا و تحصيلا، فنقول بحسب علمنا عنه وبه: أنه قد حفظ القرآن الكريم و تلقى علوم الشريعة الإسلامية بزاوية أسرته العريقة أولا، و التي كان من برز فيها على مستوى التحصيل و التفقه عمه سيدي المكي بن المختار، إذ كانت له مواقف علمية و مناظرات سمعنا بعضا منها عن شيخنا سيدي حمزة نفسه، كما خلف بعده مكتبة علمية اطلعت على بعض كتبها في منزل ابنه سيدي عبد الحفيظ، منها المخطوطات والمطبوعات في الفقه و النحو و التصوف و ما إلى ذلك، كما أن شيخنا كان قد أخذ علوم الفقه و اللغة و النحو عن الفقهاء أمثال: أبي الشتاء الجامعي، ومحمد بن عبد الصمد التجكاني و علي العروسي اليزناسني و حميد الدرعي، ثم تابع التحصيل و التكوين بمدينة وجدة في المعهد الإسلامي التابع لنظام جامعة القرويين يومئذ، و أخذ فيه عن علماء منهم: أبو بكر بنزكري ناظر الأحباس و عبد السلام المكناسي و محمد بن إبراهيم اليزناسني، ومحمد الفيلالي و الحبيب سيناصر و منذ سنة 1940 م سيطلع شيخنا في زاوية أسلافه تحت إشراف العلامة سيدي محمد الكبداني بمهمة التدريس والتذكير في مختلف الفنون خاصة: علوم النحو و الفقه و السيرة النبوية. و عند هذه النبذة الموجزة و التاريخية من جانب شخصية شيخنا العلمية نعطف على سرد بعض أوجه الممارسة التلقينية في المجال العلمي على مستوى الواقع و المعاصرة، و باعتباره مجددا في مجال أحوال القلوب و تصحيح السلوك بحسب مقتضى حال الدعوة في زماننا. و هذه الممارسة دقيقة و مسددة بصورة بليغة، لا يفهم معناها مباشرة إلا من توافق تصديقه مع صدق الشيخ، و كان من أهل الطريقة مناسبة، لأن الطريقة في نظر شيخها هي التي تختار أتباعها لا أن أتباعها يختارونها ابتداء و إن كانت إرادة الاختيار موجودة، لأنها مؤسسة على مبدأ تواصل الأرواح " و الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف" . فالشيخ كما قلنا له خصوصية التجديد في مجال القلوب و إزالة صدئها، ولن يكون في الغالب على حديثه و في مجالسه سوى الدلالة على ما فيه دواؤها وإصلاحها، و الذي ليس سوى ذكر الله تعالى و الدعوة الى حبه و حب رسوله صلى الله عليه و سلم، و ما تدريس العلوم الفقهية والتفسيرية و باقي العلوم الاصطلاحية بحضرته سوى من باب التأكيد على أن الدعوة قائمة على الكتاب والسنة و أن لا سلوك بغير شريعة " و أن الى ربك المنتهى " و رغم الصمت الظاهر على الشيخ في المجالس العامة فقد نجالسه جلسات خاصة بحسب توفر الظروف و الفرص، و من ثم نسمع منه عدة توجيهات وتلقينات ليس على مستوى الذكر فقط، بل على مستوى باقي العلوم الشرعية والاصطلاحية من عقيدة و فقه و حديث و لغة و شتى الفنون الصناعية، بل حتى الطبية و الفلاحية التي قد تصبح و سيلة لضرب الأمثال لديه في علاج بعض الأمراض النفسية و السلوكية لبعض المريدين وغيرهم. كما لاحظنا لديه دقة ودراية فائقة في المجالات التي يخوض فيها ربما كانت الدافع لنا لكتابة مقالات وتأليف كتب كنتيجة لذلك الحافز المعرفي الذي استفدناه من خلال أقوال الشيخ وإشاراته و كذا تشجيعاته . و لقد سمعت منه شخصيا أنه كان من أكثر الناس قراءة للكتب و أنه لم يتخل عن الإدمان عليها إلا بعد أن ضعف بصره، و أدى به الحال إلى التداوي لغاية إجراء عمليات جراحية و فحوصات مكثفة لعينيه الكريمتين داخل المغرب وخارجه، مما يعلمه المتتبعون لتحركات الشيخ من أتباعه وغيرهم، كما أنني سمعته يسرد منظومات علمية يتذكرها، كان قد حفظها عن ظهر قلب لم أطلع عليها و لم أكن قد سمعتها من قبل بل قد نسيت عناوينها بعدما سمعتها منه، و هي منظومات تجمع بين العلوم الشرعية واللغوية خاصة منها: النحوية كالألفية والآجرومية و شروحاتها . . . الخ. و لقد لاحظنا أثناء إقامتنا بالزاوية في مداغ أن له تمكنا نحويا جيدا جدا، بحيث قد كان يصحح لبعض الأساتذة المختصين في تلقين اللغة العربية ونحوها أخطاءهم عند الشرح والإعراب، أو قد يستدرك ما فاتهم عند الإلقاء و هكذا، و لولا توجيهاته السديدة في مجال إتقان العلوم الاصطلاحية والشرعية لما كان لدي اهتمام بمنظومة "الآجرومية" حفظا واستظهارا و لا منظومة "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لعبد الواحد بن عاشر و شروحاتها المختصرة و المفصلة. و هكذا باقي المنظومات، حتى إنه كان يستظهر المعلقات السبع و غيرها فيما يبدو. و من هنا يعد الشيخ أحرص أهل هذا البلد للحفاظ على اللغة العربية بأصولها و ضوابطها و يتجلى الحرص أكثر من خلال الأوراد التي يلزم بها مريديه و على رأسها: قراءة القرآن كل يوم صباحا و مساء . . . ب)مظاهر واقعية لعالِمية الشيخ سيدي حمزة و من أهم مظاهر عالمية هذا الشيخ تخريجه لأفواج من العلماء والأساتذة الذين نشئوا في رعايته الروحية رغم احتساب تكوينهم على المؤسسات العصرية والرسمية من حيث الظاهر، إذ أثر تكوين الطريقة لهم ظاهر عليهم سواء سلم المعارضون بذلك أم لم يسلموا . فلقد أثمرت شجرته ثمارا يانعة حلوة المذاق و صافية الأعذاق، سهر على رعايتها كي لا تسقط عند إثمارها على الأرض، بحمايتها من مزالق الفساد وهبوب العواصف و لفح المصايف، علها تستفيد الأمة من خيراتها، و تنقذ القلوب والعقول من تيهها و حيرتها . و سمعته يوما يوجهنا من باب العلم و كيفية الحفاظ على الثمرة الناضجة في حقل الطريقة من الضياع و نكران الجميل، فقال جزاه الله خيرا و هو يضرب كعادته مثالا على سبيل الحكاية أو التورية ما معناه بأن:"شيخا كان له تلميذ نابغ استفاد من صحبته أيما استفادة و ظهر عليه أثر العلم والنبوغ فيه بصورة خاصة، مما اضطره الى أن يفرغ فيوضاته العلمية في حضرة شيخه على وجه مساءلته عما يجول في خاطره من معارف وإدراكات و أذواق، فاحتار الشيخ لعمق أسئلة مريده بين أن يجيب على تساؤلاته و بين أن يردعه عنها، و في كلتَا الحالتين يكون الخطر قريبا من المريد فسأل الشيخ بدوره شيخه على مستوى روحي وتواصل معنوي قائلا له: إننا قد غرسنا شجرة طيبة، فأثمرت ثمارها، و خفنا عليها من أن تتكسر و تسقط على الأرض فتضيع قيمتها ( و ذلك كرمز للمريد وما فاض عليه من علم و معرفة . . .) و إنه قد أكثر بالسؤال عن أشياء عميقة تصعب الإجابة عنها، فإن نحن أجبناه بلغة عادية، بحسب مقتضى حاله و مقامه لم يقتنع بها و ظن فينا العجز عن تفهيمه إياها خطابا، و إن نحن صرفناه عنها انصرف و في نفسه استنقاص لنا و تحير حول الموضوع المسؤول عنه، و في كلتي الحالتين يكون المريد على خطر من الاستفادة بصحبتنا و ضمان استمراريتها. فقال له الشيخ: إذا كان الأمر هكذا فبادره أنت بالسؤال تلو السؤال في مسائل أعلى من مستواه تعجزه فحينئذ يبقى المريد في سلامة من اعتبار مقام شيخه، و بالتالي يشعر بحاجته إلى الاستزادة من تلقين أستاذه و يقف عن السؤال لتيقنه بمقامه و محدوديته بجانب شيخه، فينجو بذلك و يستمر في السلوك والاستفادة من الصحبة و ما تقتضيه من تواصل روحي و معرفي ! . . ." إن مثل هذه الأمثلة التربوية التي عرضناها بحسب فهمنا لخطاب شيخنا كثيرا ما يضربها بلغة عامية يدركها الجميع و لكن كل بحسب مستواه . كما أنها تومئ الى أن الشيخ قد يكون عارفا بمستوى مريديه، و أن أفكارهم متبلورة بحسب استفادتهم من صحبته، و بهذا فلا ينبغي أن يغتروا بما يظهر عليهم من امتياز علمي ربما قد يصلون به إلى حد التجرؤ على مكانة الشيخ العلمية و العرفانية وكذا التربوية، أو قد يتكبرون على إخوانهم من الفقراء والذاكرين بسبب نبوغهم في مجال العلم والمعرفة، لأن ما يصرح به يكون أقل بكثير مما لم يصرح به لدى غيرهم من الإخوان الفقراء و بالأحرى شيخ الطريقة و متصدر التربية و التوجيه فيها، و هذا ما يمثل خاصية جد مهمة في التواصل العرفاني بين الشيخ و المريدين كما سنراه تفصيلا في حينه . و من هنا فإن تخريج الطريقة للعلماء أو تشجيعهم على النبوغ وإنقاذ بعضهم من مرحلة البطالة و الفشل المدرسي إلى مرحلة الإنتاج العلمي والتأليف. .إلخ، قد يعد دليلا قاطعا على عالِمية الشيخ و بالتالي فقد يصبحون اللسان المترجم عن الطريقة عقيدة و شريعة، حجاجا و مناظرة، كما قرأت مثلا في بعض كتب التراجم على ما أتذكر : أن أبا حامد الغزالي حينما وصل إلى مستوى من المعرفة و المشاهدة و الفناء الروحي بالمعنى الصوفي، لم يعد يولي للمجادلات والمناقشات أهمية أو مباشرتها شخصيا، إذ حينما عاد إلى مدينة طوس بخراسان بعد رحلته الروحية و اعتكافه الذي دام ما يقرب من عشر سنوات، بدأت الوفود تأتي إليه لمحادثته و مجادلته فيما توصل إليه من معرفة و ما ناله من تجربته، فكان تلامذته يعترضونهم بدعوى أن شيخهم مشغول بالله، و أنهم مستعدون للإجابة عن كل الأسئلة التي قد يطرحونها حول شخصه و منهجه و محيط زاويته (أو خانقاه). ويؤكد هذا المسلك مارد به الغزالي نفسه على السلطان سنجر السلجوقي وأيضا حينما طلب منه العودة الى التدريس بالمدرسة النظامية فكان رفضه لكل الدعوات بالعودة إلى ما كان عليه قبل رحلته: و في بعضها يقول بأنه "عاهد عند مشهد إبراهيم الخليل صلوات الله عليه أن لا يذهب إلى سلطان ولا يأخذ مال سلطان و لا يناظر و لا يتعصب، و قد وفى بهذا العهد مدة إثنتي عشرة سنة وقد عذره أمير المؤمنين و جميع السلاطين" وجدت في حاشية الإمام الرهوني على شرح الزرقاني بمختصر خليل، حديثا إن صح على شرط المحدثين " أنه جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد: نحن نعبد بحضور القلب بلا وسواس الشيطان، و نسمع من أصحابك أنهم يصلون بالوسواس، فقال عليه السلام لأبي بكر رضي الله عنه أجبه، فقال: يا يهودي، بيتان: بيت مملوء بالذهب والدر و الياقوت و الأقمشة النفيسة، وبيت خراب خال ليس فيه شيء من المذكورات، أيقصد اللص إلى البيت المعمور المملوء من الأقمشة النفيسة أم يقصد إلى البيت الخراب؟ فقال اليهودي: يقصد إلى البيت المملوء بذلك، فقال أبو بكر رضي الله عنه قلوبنا مملوءة بالتوحيد و المعرفة والإيمان و اليقين والتقوى و الإحسان و غيرها من الفضائل، و قلوبكم خالية من هذه فلا يقصد الخناس إليها، فأسلم اليهودي، فظهر أن الشيطان قاصد و لكنه غير واصل إلى مراده، فإن الله يحفظ أولياءه " و هذا الحديث إن صح وروده مع صحة معناه و بعده، فإنه يؤسس مبدأ استغناء المربي عن المجادلة و المناظرة و تكلف الوعظ و الإرشاد حينما يصل تلامذته إلى أوج رقيهم المعرفي، بحيث أن العلوم التي يتكلمون بها تكون من ثمرة صحبته، بسبب التلقين المباشر، و الإيحاء الروحي بالتواصل و التعارف والتآلف. كما أن المعنى الوارد في الحديث ينبهنا إلى أن التشويش المفتعل حول الشيخ وعالِميته و الزاوية و ما يجري فيها من تربية و تعليم من بين الأدلة على نفاسة باطن الشيخ و رسوخه العلمي والمعرفي، و على أن له شأنا و شأوا لم يبلغه معترضوه، و لن يصلوا إليه ما داموا محجوبين عن الإدراك أو التسليم له بنصيبه الأوفر من الإرث النبوي. و من بين الأدلة الأخرى الدامغة على عالِمية الشيخ هو تكريمه الصادق لأهل العلم و المعرفة و احترامه لهم، لغاية أن يقف بنفسه رغم كبر سنه و اعتلال صحة بدنه لكي يستقبل بعضهم تكريما و ترحيبا، و ربما رافقهم حتى يودعهم، كل ذلك يبسط جناحه لأهل العلم، بل إنه و هذا ما شاهدناه بأم أعيننا قد يستقبل بعض أهل العلم و خاصة في العلوم الشرعية فينزل من مكانه الخاص به إلى الأرض ليجلس فيه هذا العالم أو ذاك تقديرا و احتراما، و هو في ذلك لا يجد في نفسه ذلة أو تنازلا في غير محله كما قد تأباه بعض النفوس المريضة، و إنما إجراؤه هذا يكون بالسجية و التواضع لله تعالى في امتثال أمره بتوقير أهل العلم و حفظة القرآن و كل وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في علمه ظاهرا أو باطنا . و حينما يقوم بمثل هذه الإجراءات يستشهد في كثير من الأحيان بسلوك أستاذه و شيخه مرة بسيدي أبى مدين و مرة بسيدي الحاج العباس والده، تعبيرا عن وفائه لأصول التربية التي أخذها و هو ما يزال في مرحلة التتلمذ. و قد ذكر في معرض هذا السلوك أن شيخه سيدي أبي مدين كان لا يقبل أن يجلس أحد على فراشه و يحاذيه باستثناء أهل العلم فإنه كان يجالسهم عليه تكريما لهم، و كان يقول إذا لم نكرم نحن أهل العلم و حفظة القرآن فمن سيكرمهم، إذ نحن أولى بإكرامهم لِما جعل الله فيهم من سر علمه الشرعي و نورانيته، أو كما قال. و معلوم أن أهل العلم لا يحبهم أهل الجهل و الجهل بالجهل، كما لا يحبهم إلا رجلان، رجل عالم في مقامهم أو أعلى، و رجل محب للعلم يرجو الرسوخ فيه و اللحاق بأهله، و كلا الرجلين من أهل الفضل و المحمودين في الأمة الإسلامية. و شيخنا سيدي حمزة قد جمع بين الوصفين المحمودين معا، فهو رجل علم متضلع في أصوله و فروعه كما سبق و بينا، و رجل محب لأهل العلم لا يتكبر و لا يرفض أن يأخذ فتوى أو نصيحة شرعية من هذا العالم أو ذاك. و قد سمعته مرة يقول ما معناه: إنما نحن بشر لا نخلو من النقص، فمن رآه فينا من أهل العلم الشرعي خاصة، فالأولى به أن يدلنا عليه دلالة شرعية حتى نستدركه، و هو بهذا الأسلوب يمد يده إلى كل علماء الأمة المخلصين و ذوي النيات الحسنة لكي يساهموا في هذه الدعوة بالنصيحة والتوعية و نشر الفضيلة الإسلامية بالقلم و اللسان حتى يعم فضلها أرجاء البلد، بل أرجاء العالم، دون تفريق بين عربي و عجمي. ج) منهج إيجاز الخطاب والاستقطاب عند الشيخ: إن ما سبق و أوجزنا سرده حول شخصية الشيخ سيدي حمزة العلمية، ربما قد لا يسلم به البعض ممن لم يصاحبوه أو على الأقل لم يجالسوه و يسمعوا منه، كما أن البعض الآخر ممن جالسه على عجل و وجل أو على خلفية و ظرفية قد لا يعي فحوى خطابه و مقتضى حال الدعوة بحسب الزمان و المكان، و لهجة اللسان و استعداد الإنسان . فالشيخ رجل علم و ذوق، و من تعاريفه للتصوف أنه "أخلاق وأذواق وأشواق "، و هذا ما يقتضي المناسبة الموضوعية بين وسيلة الدعوة ومسلكها وغايتها، وذلك حتى يتم تكوين الإنسان المناسب لوضعه في المكان المناسب وبحسب الزمان المناسب، و على الحال و الهيئة المناسبة. و لهذا فعالِمية الشيخ في دعوانا أدق من اعتبار اصطلاحي و نظري محض، و إنما تأخذ خصوصياتها و أجلى مظاهرها في التطبيق الدعوي المناسب بين وقت الإقدام و الإحجام، و السكوت و الكلام، و الإشارة والعبارة . . . و هكذا ذواليك، حتى يصل خطاب الدعوة بحمولته النورانية وتناسقه الذوقي إلى القلوب شهدا أحلى و أجلى، و ماء أعذب و أسكب، تحيا به بعد موتها و تتداوى بعد سقمها. و من هذه الإشارة الذوقية حول خصوصية عالمية الشيخ يكون من مقتضى بيان الحقيقة أن نقف برهة من الزمن لتحليل خلفيات بعض المشوشين والمموهين على الناس قصدا، أو جهلا و تجاهلا بالإيهام غير الموضوعي على أن الشيخ أمي و ليس له تحصيل علمي أو على أقل زعم في نظرهم ليس له من العلم ما يؤهله للدعوة و التربية و التلقين . و هذا إيهام مقصود لدى البعض و غير أخلاقي، خاصة إذا صدر ممن يدعون أنهم أهل الوعظ و الإرشاد أو الدعوة والفكر و الثقافة، إذ الهدف لديهم حسب ما يبدو لنا من هذه الإفتراءات والإسقاطات ليس سوى محاولة إضعاف مستوى الاستقطاب الذي و صل إليه هذا الشيخ المبارك من خلال احتضان طريقته لأبرز علماء البلد و مثقفيها و كذا وجهائها و نخب طلابها، خاصة إذا كان هؤلاء المعترضون يسعون إلى زعامة ما سواء في المجال الديني الظاهري المحض أو الدنيوي المحض أو الخلط بينهما لهدف دنيوي محض، وحينما نقول في المجال الديني المحض فنعني به أن يوظف الدين كمطية لأهداف دنيوية فانية بإسمه، و هذا ما يرفضه الدين في بعده و غايته، و التي رفعت شعارها الطريقة ابتداء و انتهاء و هي " أن الى ربك المنتهى". و عند هذه الخلفيات وإسقاطاتها يبرز تناقض المعترضين على عالِمية الشيخ، و هو كيف يمكن لرجل - حسب زعمهم - يجهل العلوم الشرعية جملة أو تفصيلا - و حاشاه ذلك - أن يستقطب فئة عريضة من أجود مثقفي هذا البلد وفي العلوم الشرعية تخصصا و شهادات عليا؟ أو ليس هؤلاء ينبغي أن يكونوا من أولى الناس بالاعتراض عليه لأنهم أقرب إليه انتماء و ملاحظة و مجالسة و مؤانسة. و هي شروط أساسية لإصدار رأي علمي في شخص أو موضوع عصري؟. أو ليس هؤلاء كانوا أولى بالزعامة من غيرهم، كما أنه بإمكانهم إن أرادوا ذلك أن يؤسسوا جمعيات أو جماعات وكذا أحزاب سياسية و يصبحوا رؤساءها و بالتالي يبرزوا إعلاميا أكثر مما هو عليه حالهم الآن إن هم أرادوا الظهور على غير وجهه المفيد؟!. لكن لا هذا و لا ذاك قد حصل، و إنما نرى على العكس من ذلك كلما ازداد أهل العلم من المخلصين في انتمائهم إليه تقربا ازداد نظرهم إليه تعجبا، وحاجتهم إلى معارفه تطلبا، و رأوا علمه حركة و سجية و ليس تعبيرا متكلفا، وتطبيقا و ذوقا و ليس رأيا مغلَّفا . و يبدو بعد استقراء و توقع من أساليب إسقاطات المتحاملين على مكانة الشيخ العلمية أن الوهم دخل عليهم من ملاحظة صمته أثناء التجمعات العامة التي قد تقيمها الطريقة في بعض المناسبات، أو أنه لم يصدر له كتاب أو مؤلف يعبر عن مذهبه و توجهه الفكري و العقدي، و هذه نقيصة فظيعة في الوعي الدعوي عند هؤلاء المعترضين لا يجدون عنها خلاصا، لأنهم يظنون أن الداعية لا يمكنه أن يكون مؤهلا للدعوة إلا إذا كان خريج الجامعات الحديثة الجوفاء، و لو كانت جامعة السوربون، ما دام يدرس فيها نوع من العلوم الإسلامية كالتصوف أو علم الكلام و الفكر والحضارة . . . و عندئذ يشهد للمتخرج منها بعلميته و لو كان مستلبا ظاهرا و باطنا. أما إذا تخرج من المسجد أو الزاوية و في فترة كانت الجامعة بعد لم تستحدث أو تؤسس، فإنه قد يعتبر في زعم هؤلاء المستلبين غير ذي كفاءة في الدعوة و التبليغ و التربية و التوجيه، و هذه علمانية مغلفة تبتعد عن الدعوة الإسلامية و أصولها، و كذلك عن واقع الأمة و توارث أجيالها لمقاليد لواء الدعوة إلى الله في المسجد أو الزاوية التي هي عبارة عن مسجد للتكوين المستمر لا غير، و لو رجعوا إلى استلهام القدوة من سيرة الرسول صلى اله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم لوجدوا أن أغلبهم لو يكونوا ذوي علم اصطلاحي و لا مذاهب في التفسير الديني يخالفون به منهجا وسلوكا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من وحي و ما نص عليه من حديث، وإنما كان شعارهم هو التعامل مع النصوص على قاعدة " أقرأها كما جاءت"، ومع ذلك كانوا أساتذة و هداة مهتدين أصبحوا بذلك خير سلف لخير خلف و العكس صحيح، فكان القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هو علمهم من غير تبديل و لا تأويل، وكان سلوكهم هو صلاحهم في تبليغ الدعوة و نقل الإرث النبوي على أحسن وجه و تمثيل . و صمت الشيخ النسبي في هذا الزمان و في مثل هذه المناسبات ليس عن نقص أو دونية ثقافية، و إنما هو عن كمال وعي بمقتضى حال الدعوة، خاصة في زمن: كثر فيه قراؤه و قل علماؤه - كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم - إذ المذاهب المختلفة و الطفيليات قد ضربت أطنابها في المجتمع الإسلامي، و تجرأ كل من هب و دب على الفتوى و الوعظ و الإرشاد، وأصبحت العلوم الشرعية وسيلة للتبديع الأعمى و التقريع، و مرتعا للجاج والمحاجة على غير أدب و ضوابط، بينما الأصل في الدين واحد و الفروع كلها عنه صدرت . و الشيخ إن هو ركب بحر اللجاج و الخطابة قد لا يسلم من التشويش العقيم و المعيق لمسار الدعوة و آدابها و خصوصياتها، خاصة إذا كان اللجاج صادرا ممن ينتسبون إلى ساحة المسلمين و يتذرعون بحق الفتوى واستصدار الأحكام الشرعية سواء توفرت فيهم الأهلية لذلك أو لم تتوفر! و لم لا و هو لم يسلم صامتا فكيف به متكلما؟ لأنه إذا تكلم بعلم فوق مستوى علمهم اعتبروه بدعة أو أولوه إلى غير معناه، و إذ هو صامت نعتوه بالجهل