جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريقة القادرية البودشيشية: تربية وجامعة صوفية
نشر في هسبريس يوم 28 - 08 - 2009


تكامل العلم و العبادة في منهج الطريقة: ""
من خلال استقرائنا لكثير من الأقوال الصادرة عن البعض ممن لم يلازموا الحضور في مجلس الطريقة و زواياها أو يتابعوا بدقة و موضوعية - إضافة إلى غموض نية - جملة أنشطتها و نوعيتها، و جدنا أنه ربما قد تحصر توهما منهجها في أنه مجرد مجالس تعبدية و سردية للأذكار والأدعية بالتقليد وإنشاد القصائد و الأشعار على وجه العفوية و التركيم.
و هذا ما حدا بالبعض إلى عدم التحمس أو الاعتراض على ملازمة مجالس الطريقة بصورة منتظمة، من دعوى أن مجالس العلم أكثر إفادة وضرورة من مجالس الذكر، حتى إن البعض قد يلجأ أحيانا إلى تأويل أحاديث الذكر تعسفا إلى معنى الفكر أو تدارس العلم و الوعظ القائم على التلقين المحض، مع إسقاط الممارسة العملية التعبدية للذكر القائمة على التكرار و التزام الأوراد و الدعوات من الحسبان و كأن الدين في زعم أصحاب هذا الفهم الاسقاطي للذكر و مقتضياته السلوكية و التربوية عبارة عن نشرة إخبارية وصفية، لا باعث عملي لمستمعها ما تضمنته من أحداث و وقائع، و لا علاقة لها بها سوى من باب استقبال البث الإذاعي لا غير .
وهكذا قد تمضي الأيام لدى أصحاب هذا الاتجاه في تأويل أحكام الدين بين التذكر و النسيان، و يبقى الإيمان و تجدده عبارة عن خبر مرهون بحضور الواعظ بصوته أو غيابه، أو باستعداد الذهن لتذكره أو كلله، و"ليس الإيمان بالتمني و لكن الإيمان بما وقر في القلب و صدقه العمل" كما قال النبي[صلى الله عليه و سلم] .
و لربما قد دخلت الشبهة لدى البعض ممن يستنقصون توهما فضل مجالس الذكر بزعم التفرغ للأولي منهما في نظرهم و المتمثلة في مجالس العلم أو الوعظ و ذلك من خلال فهمهم القاصر و تأويلهم الناقص لمفهوم الحصر الوارد في الحديث المروي في سنن الدارمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال " إن رسول الله [صلى الله عليه و سلم] مر بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله و يرغبون إليه، و الآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال رسول الله [صلى الله عليه و سلم] : كلا المجلسين على خير، و أحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيتعلمون و يعلمون الجاهل، و إنما بعثت معلما، ثم أقبل فجلس معهم "
و كذلك فيما رواه الترمذي عن النبي [صلى الله عليه و سلم] قوله " فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم، إن الله عز و جل و ملائكته، و أهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير " و أيضا فيما رواه أحمد بن حنبل و غيره من حديث يقول فيه النبي [صلى الله عليه و سلم] " إن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما، و إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " الحديث .
و هذه الأحاديث بصحيحها و ما يحتاج إلى تصحيح ينبغي أن تفسر على قواعد سليمة توافق روح الدين الإسلامي في غايته، و هي قول الله تعالى: " و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" ، " و أن إلى ربك المنتهى "و " إنما يخشى الله من عباده العلماء"
إذ الحديث الأول إن صح رغم أنه ظني الثبوت، فإن دلالته تقتضي التكامل بين المجلسين في مدرسة واحدة، و هما: مجلس الذكر و العبادة والدعاء ومجلس العلم و التفقه و الوعظ و الإرشاد. أما المجلس الأول ففي الحديث إقرار لأهله بالخير و المشروعية و فيه دليل على أن المرتدين له لهم خصوصية إيمانية و حضور روحي متميز بالإضافة إلى علمهم بالله تعالى وهو أشرف العلم بأشرف معلوم، و العلم يشرف بشرف معلومه. كما أن لديهم علم بالأمر الشرعي نصا قطعي الثبوت و الدلالة يؤخذ من قول الله تعالى : " و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "، " ادعوا ربكم تضرعا و خفية و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين " و " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما " و" دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام، و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ".
و في الحديث عن أبي سعيد أن النبي [صلى الله عليه و سلم] قال " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم و لا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، و إما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذن نكثر، قال " الله أكثر " رواه أحمد، وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي [صلى الله عليه و سلم] أنه قال " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" قيل " يا رسول الله: و ما الاستعجال ؟ قال "يقول قد دعوت و قد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك و يدع الدعاء"
فالأفضلية لأحد المجلسين على الآخر أو للعالم على العابد لا ينبغي أن تؤخذ على سبيل إقصاء المفضل عليه أو تشطير الأحكام الدينية إلى إيجابية وسلبية، لأن مثل هذا الفهم يكون بمثابة الإيمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الآخر تقريبا، إذ لو كان العلم ملغيا للعبادة و مقلصا من مظاهرها و الإكثار منها لنص الشرع على ذلك، و إنما تبقى الموازنة قائمة بين العلم و العبادة حتى يتحقق المطلوب، كما أن المجلس الذي ضم الذاكرين في دعواتهم و تضرعهم هو مجلس الصحابة، و هم أدرى بخطاب النبي [صلى الله عليه و سلم] و مقتضاه منا، و لهذا فلو فهموا من انصرافه عن مجلسهم نحو مجلس التعليم استنقاصا لفضلهم أو تفريطا منهم في الإقتداء به لهبوا جميعا نحوه دون توان حتى لا يفوتهم الفضل، لأنهم أحرص من غيرهم على نيله، كما أن النبي [صلى الله عليه و سلم] حريص على المؤمنين لينيلهم الحظ الأوفر منه، و رغم ذلك لم يأمرهم بالانصراف من مجلسهم إلى المجلس الآخر حيث انتهى، لأن هذا المجلس الأخير من مقتضاه المجلس الأول إذ العلم يستلزم صاحبه العمل و خير الفقه فقه العبادات ثم المعاملات. و " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " كما في الحديث و أيضا " من ازداد علما و لم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا"
و يجمع هذا قول الله تعالى: " و اتقوا الله و يعلمكم الله " و كذلك قوله تعالى:
" أمن هو قانت آناء الليل ساجدا و قائما يحذر الآخرة و يرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ".
و لهذا فلا بد من العلم للعبادة كما أن العبادة هي الغاية من العلم، كنتيجة حتمية عبر عنها القرآن بصيغة قطعية الدلالة و الثبوت " و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الآية و " الدعاء مخ العبادة " كما في الحديث .
و هذا التكامل و التلازم هو ما جمعته الطريقة القادرية البودشيشية في منهجها بشقيه العلمي و العملي على شكل تداخل و موازنة رفيعة، و كذا تواصل ذوقي بحسب المناسبة و اقتضاء الحال .
و إذا كان البعض يسلم بتقدم الطريقة في مجال العبادة و خاصة الذكر والأدعية و تلاوة القرآن . . الخ فإنهم قد لا يعيرون للجانب العلمي منها قيمة أو اهتماما ملحوظا.
و هذا الغلط قد يقع حتى من بعض من يرتدون مجالس الطريقة على سبيل الانتظام و الانتماء. نظرا لأنهم لم يحصل لهم ذوق و وعي عميق بعد بالطريقة في إدراك المناسبة بين الجانب العلمي و العملي فيها. و من هنا فقد يحصل تفاوت في إدراك روح منهج الطريقة و أبعاده لدى الشيخ بين بعض المنتمين إليها بله غيرهم ممن لا حظ لهم من ذوقها أو تحقيقها!
نوعية التكوين العلمي بين مدار السنة والفصول:
فالمنهج العلمي في الطريقة خصوصا له عدة صور تحصيلية قد يمتزج فيها التلقين بالدروس مع التلقين بالأوراد امتزاجا عجيبا و إيجابيا لحد الذوبان بين المنهج العلمي و العملي تكون نتيجته: المريد العالم الصالح، بالحال و المقال.
فالتلقين بالدروس قد يتم على مستوى الزاوية المركزية و الزوايا والتجمعات الفرعية.
إذ في الزاوية المركزية يتسم التكوين العلمي بمستويات مختلفة من حيث القلة و الكثافة.
ففي سائر الأيام و حيث أن نسبة المريدين المقيمين بها على طول السنة تكون محدودة، يرتكز التلقين هناك على تعليم الفقه الإسلامي و خاصة العبادات من خلال شرح منظومة " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لعبد الواحد بن عاشر، و ذلك بواسطة فقيه متمكن من شروحها واستظهارها، يقوم بهذا العمل بصفة رسمية و يتولى الشيخ نفقة مساهمته وإقامته في الزاوية .
أما بالنسبة إلى العطلة الأسبوعية فإن الدروس تكون بحسب إحياء ليلة في كل أسبوع بالزاوية أو ضواحيها، تنصب في أغلب الأحيان على إبراز فضل الطريقة و أهمية التصوف و استعراض بعض المعاني الذوقية بحسب حال الملقي و مستوى الحضور المتلقي.
لكن كثافة التكوين العلمي و تنوعه يظهر في الزاوية المركزية عند العطل الفصلية و العطلة الصيفية بصورة خاصة .
إذ العطل الفصلية تكون نسبة الحضور في الزاوية غالبا من الطلبة على اختلاف مستوياتهم و توجهاتهم العلمية، و حينئذ يقام بالزاوية ما يصطلح عليه بالاعتكاف، الذي يجمع بين التكوين الروحي بالممارسة التعبدية و التكوين العلمي الذي يقسم إلى مستويات بحسب سن الطلبة و ثقافتهم وبحسب طبيعة الموضوع وقابليته للتداول العام و الخاص .
فقد يهتم البعض منهم بحفظ الأحاديث النبوية المتصلة السند والصحيحة بالدرجة الأولى، مركزين بصفة خاصة على التي تحدد مشروعية المنهج الذي تشكله الطريقة في أذكارها و أنشطتها و مجالسها و تلقيناتها . . . الخ. و ذلك حتى يصبح المريد المبتدئ و المتعلم واعيا بطريقته، مطمئنا في انتمائه إليها بعقله و قلبه.
كما قد يهتم البعض الآخر بشرح تلك الأحاديث نفسها و استخراج الأحكام منها في صورة موجزة و ملخصة، فيما يهتم غيرهم بحسب مستواهم الثقافي بتفصيل النظر و توسيع دائرة الشرح و التفسير.
أما الآخرون فيركزون على القضايا المشكلة و المطروحة للجدل والمناقشة كموضوع التصوف جملة وتفصيلا، و مفهوم السنة و البدعة والسلفية والتوسل . . .الخ. و هي مواضيع قد يصبح المريد من خلال البحث و الخوض فيها متمرسا من حيث قدرته على مجادلة المعارضين ومن أولى على إقناع نفسه أمام تشكيكات المشككين و تشويشات المشوشين عليه في مسلكه.
و عند هذه الاعتكافات الفصلية قد تلقى بعض الدروس العامة من طرف بعض الطلبة النابغين و الناشئين في حضن الطريقة، و أيضا من بعض الأساتذة ممن تكونوا و ارتووا من معينها، بحيث تكون دروسهم إما توجيهات تربوية حول آداب الصحبة و أخلاق المريدين و تأدبهم في الزاوية و خارجها و التزام النظام والوقار أثناء الإقامة بها، حتى يستفيدوا من معتكفهم استفادة روحية و أخلاقية قبل أن تكون مجرد علمية نظرية. و إما أن تكون الدروس مختارات علمية وموضوعية يتولى إلقاءها أحد الأساتذة الجامعيين أو غيرهم ممن تطوع للإقامة في الزاوية عند هذه الفترات من السنة .
و عند نهاية الاعتكاف الفصلي قد تقام ليلة الختم يجتمع لإحيائها كثير من الذاكرين الوافدين من شتى أنحاء البلد و من المقيمين بالزاوية، وفيها يتم ختم صحيح البخاري و كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض على طريقة علمية، تلقى من خلالها نبذة عن سيرة الإمام البخاري و المنهج الذي سلكه في جمعه للصحيح، مع قراءة حديث من بدايته و حديث عند نهايته، و هو نفس المنهج الذي يسلك في التعريف بتاريخ القاضي عياض و تآليفه و أهمية كتابه الشفا. . . الخ. بعدها قد يتوالى استعراض لملخص التكوينات التي تمت أثناء الاعتكاف، يتداولها تلامذة وطلبة بحسب مستوياتهم في الحفظ و الاستظهار والفهم و الاعتبار، ثم قد تلقى دروس موجزة بين الفينة والأخرى على طول الليلة حتى الفجر، تتعلق خاصة بمفهوم الدعوة و الداعية في الإسلام، و قضايا الأمة واضطرارها إلى التجديد و المجدد، و علم السلوك و إصلاح القلوب، و شرح طرق علاج الأمراض المستشرية فيها، و السبيل إلى إنقاذها منها بذكر الله تعالى،
و صحبة أوليائه الصالحين . . .الخ.
" الجامعة الصيفية الصوفية " و تلقين العلوم:
إن هذا البرنامج العلمي قد يعرف صورة أطول و أكثر كثافة عند العطلة الصيفية، و بالأخص عند شهر غشت الذي يقام فيه اعتكاف مستمر ومتواصل لمدة شهر بأكمله، و هو بمثابة "جامعة صيفية صوفية"، لا يوجد لها نظير يضاهيها في العالم الإسلامي برمته، سواء في مجال العلم و الأقوال أو العبادة و الأحوال .
إذ في الصيف و رغم القيظ و الحر، و توق النفس إلى الاستجمام في المصايف و المسابح و انسياق الكثير نحو فتن الشهوات و تتبع خطوات الشيطان، هذا مع يبس الدماغ و كلله عن تحمل النظر في الكتب و الصحف بصفة شبه عامة، فإننا نجد على عكس من ذلك ثلة من المؤمنين الذاكرين وخاصة الشباب منهم و في مقتبل أعمارهم و حيويتهم يحملون المسبحات بدل ارتياد المسابح، والأقلام و الدفاتر بدل شغل أعينهم بالمحظور و ما لا يليق من المناظر، و ذلك من اجل نهل العلم و التبحر في معرفة دينهم والإطلاع بصفاء على أحكام شريعتهم و على دقائق لغتهم و قواعدها.
و بهذا فقد تكون الزاوية بمثابة جامعة صيفية صوفية، تفتتح نشاطها باجتماعات تمهيدية و تنظيمية يتذاكر فيها المريدون الصادقون بعد استئذان شيخهم حول البرنامج الذي سيسلكونه في هذا الشهر الصيفي، سواء فيما يتعلق بترتيب الأذكار و توقيت الدروس و كذا نظام الإقامة من نوم و أكل وشرب و نظافة . . .الخ.
فتتوزع الأدوار بين المريدين و خاصة الشباب منهم بحسب المدن التي يمثلونها، إذ كل مدينة يشرف على رعاية وفدها مريد له سبق أو علم أو التزام وصدق في الطريقة.
و الذي يهمنا في هذا السياق هو الأدوار العلمية و منهجيتها في هذا الشهر بالضبط، و هي أدوار قد تكون ثابتة و متغيرة بحسب حضور الأشخاص الممثلين لها أو غيابهم، إلا أن الغالب الثابت في منهج التلقين العلمي من حيث الفترةالزمنية هو المياومة في التلقينات مع التزام فترات معينة كل يوم على مدار الشهر .
و هذه الفترات تشتمل خاصة على ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل صلاة المغرب، و ما بعد صلاة العشاء إلى ما قبيل الثلث الأخير من الليل أو ما بعيده .
إذ في فترة ما بعد صلاة العصر قد تتم برمجة درسين معا الواحد تلو الآخر، يحضرهما الشيخ نفسه في غالب الأحيان رغم كبر سنه و اعتلال صحته وآلام ركبتيه - شافاه الله و أبقاه ذخرا و ملاذا لهذه الأمة -.
و الدروس التي تلقى في هذه الفترة و خاصة في الحصة الأولى غالبا ما تكون ذات مستوى جامعي متخصص، تعالج من خلالها مواضيع دقيقة وعالية المستوى قد لا يوجد لها نظير في الجامعات الصيفية العصرية، و هي تجمع ما بين دروس في السيرة النبوية و التصوف و علم التوحيد، و الفقه وأصوله، و علم الحديث، و كذا الاقتصاد الإسلامي . . .الخ.
أما الحصة الثانية فهي لا تقل عن سابقتها قيمة و غاية، و فيها درست أو تدرس علوم القرآن و تجويده، و كذا علوم اللغة و خاصة النحو والإعراب و ما يندرج تحته أو ضمنه من معاني و مفاهيم، و عند هاتين الحصتين يكون الشيخ كما أشرنا حاضرا و ملاحظا و بالتالي مصححا، غالبا ما تنتهي الجلسة بنشاط روحي فياض تدمع عنده العيون و تتواجد الأرواح وينال كل واحد نصيبه من العلم والعرفان بحسب حضوره و استحضاره لمعاني المجلس و أهله و ما يلقى فيه من دقائق العلوم و المعرفة، في حين يكون الطلبة و حتى بعض الأساتذة على أهبة لتسجيل ما يلقى عليهم و ما يدور أمام أعينهم و بمسامعهم من أحاديث ومحاورات، بل و نقاشات حادة في مختلف العلوم و الفنون.
و في فترة ما بعد صلاة العشاء فإن الدروس تكون في غالب الأحيان فقهية تعبدية، و توجيهية تربوية و تنظيمية، قد تشمل تدريس منظومة "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لابن عاشر و كذا بعض الحكم العطائية (لابن عطاء الله السكندري) كما قد يرشح الشباب في بعض المرات عند هذه الفترة أحد النبغاء أو النشيطين منهم لتولي إلقاء درس بحسب مستوى تحصيله ودربته في حضرة الشيخ و باقي المريدين من مختلف الأعمار و المستويات العلمية و الثقافية، و هي دروس تكون بمثابة حافز و تشجيع للطلبة و الشباب على أن تتكون فيهم ملكة الإلقاء و التلقين والشجاعة الأدبية لمواجهة الجمهور بما يكتسبونه من معارف و أذواق دون دهشة أو تلعثم و إرتاج و هو ما يلاحظ على كثير من المريدين سواء كانوا طلبة أو أساتذة عند مخاطبتهم الآلاف من الحاضرين في بعض المناسبات دون الاستعانة بتصفح الأوراق أو قراءتها على شكل تهيئ مسبق و منمق، وفي فترة من فترات الإعتكاف اليومي تكون ثلة من الأساتذة و الطلبة منهمكين على البحث و المطالعة في مكتبة الزاوية، التي أصبحت تضم تدريجيا أمهات الكتب و المؤلفات على مختلف التخصصات والدراسات والبحوث، بحيث تعد مركزا ثقافيا مهما يرجع إليه الباحثون من المريدين على اختلاف مستوياتهم و نوعية بحوثهم.
و لقد كان أمل شيخنا رضي الله عنه أن تكون مكتبة في مستوى الإفادة والتحصيل على أحسن الظروف و الانتظام و التحقيق، و لقد تحقق قسط وافر من هذا المأمول بتوفيق من الله تعالى، إذ كان إصرار الشيخ قويا على إتمام هذا الإنجاز رغم أن الإمكانيات المادية تبدو ضئيلة و قليلة، و لكن "إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون".
و بهذه المكتبة كان تتويج النشاط العلمي في الزاوية، بحيث أن كل من يريد أن يحضر درسا أو بحثا قد يلجأ إليها لتصفح المصادر و المراجع التي تهم تخصصه و نوع درسه، حتى يكون في المستوى المطلوب و ليس درسا أو بحثا عشوائيا أو مجرد آراء عابرة لا أساس علمي لها، إذ الدرس في حضرة الشيخ والمريدين قد يكون مهيبا جدا و يعتريه وقار و خشية لا تكون في غيره من المجالس العامة تأكيدا، لأنه مجلس كله خشوع و بكاء وأحوال و تضرع و صدق.
هذا ملخص موجز عن الواقع العام و المتكرر للأنشطة العلمية التي تنهجها الطريقة في الزاوية الأم، و هي أنشطة متنوعة و قارة إلى حد ما، وتعرف نفس الكثافة في كل عطلة و على مدار السنة، و تكون بمثابة نموذج رسمي وتدريبي للمريدين لكي يطبقوه في مدنهم بعد عودتهم من هذه الرحلة الروحية والعلمية، إذ أن من البرامج ما تكون نفسها المطبقة في الزوايا أو الاجتماعات الفرعية و المحلية، غير أنها قد تتفاوت من حيث الكثافة و القلة بحسب توفر الظروف لذلك من أطر قادرة على التلقين و الالتزام ببرامج الطريقة و كذلك توفر المريدين المؤهلين للتلقين و الاستفادة من التكوين العلمي المتخصص، إضافة إلى التكوين العلمي العام، إذ أن هذا الأخير ربما قد يعرف حضورا موحدا في كل المجالس التي تنتمي الى الطريقة من حيث المبدأ، و فيها يطالب العلماء والمدرسون بالتركيز خصوصا على تدريس السيرة النبوية و الفقه على المذهب المالكي ثم حكم ابن عطاء الله السكندري بشروحها.
و عند هذه المواد الثلاث يركز الشيخ على التزام التدريج في التلقين، وذلك بالاستناد عند الالقاءات الأولى على الكتب الميسرة و البسيطة في السيرة مثلا، ككتاب "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" لمحمد الحضري بك، و "رجال حول الرسول" لخالد محمد خالد، و في الفقه كمنظومة ابن عاشر " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" و في الحكم، على "إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للشيخ أحمد بن عجيبة، و هكذا . . . حتى إذا كان التلقين مكتمل الإفادة و الإجادة انتقل المدرس إلى مستوى آخر و خاصة في الفقه كاعتماد الرسالة لأبي زيد القيرواني و مختصر خليل و غيره ونفس الشيء في علوم اللغة كالنحو الذي يبتدئ بالآجرومية ثم الألفية و شروحها. و مع دقة هذه العلوم و أهميتها يكون الملقي ملزما بمراعاة مستوى الاستقبال و الفهم لدى الحاضرين فلا يعقد اللغة حيث يقتضي التبسيط و لا يبسط حيث يلزم التعقيد، بل إن الأمر قد يستدعي الإلقاء في بعض الأحيان باللغة الدارجة و لهجاتها، كمقدمات لإيصال المعاني العلمية التي تحملها النصوص الدينية والتراثية قصد تحبيبها لبعض الأميين و غيرهم، حتى يتأتى لهم استظهارها بسرعة نصا و معنى.
و هكذا يكون الهدف لدى الشيخ جديا و واضحا من التكوين العلمي للمريد، و هو غير ذي طابع جاف و اصطلاحي محض و معقد، و إنما الغاية منه الحفاظ على شخصية المريد في إطارها و روحها الإسلامي الأصيل، و السني مذهبا فقهيا و عقديا و سلوكيا.
الموازنة و التداخل الإيجابي بين العلم و الذكر:
و مع وجود هذا الإلحاح العلمي عند الشيخ إلا أنه لا يجعله غاية في حد ذاته، و إنما هو وسيلة للتقرب إلى الله تعالى بالقلب مع العقل، و بالعمل مع القول، إذ في حالة الإخلال بالشروط الروحية و السلوكية اللازمة والضامنة لسلامة العلم و دوره النافع فإن المتلقي و المحصل قد يطغى عليه الطابع "العلماني"، و هو مصطلح كثيرا ما يعبر عنه شيخنا بخصوص الذين يولون الجانب العلمي الاصطلاحي كل طاقاتهم، بينما يهملون جوهر الغاية من العلم و العمل ألا و هو تحقيق العبودية لله تعالى، و ربط العلم بموهبه عقيدة و سلوكا.
إذ علمنة الدين قد تعني التعامل معه بصورة انشطارية كما سبق وأشرنا، مما يؤدي إلى آفة الانتقائية في مجال لا ينبغي أن يكون فيه سوى التسليم المطلق للأمر الشرعي و نهيه، و ذلك بالإيمان بما جاء به الرسول[صلى الله عليه و سلم] كله و دون إصدار أحكام معيارية ذاتية و مقايسات دنيوية لا تفي بالمطلب الديني و مقتضى الوعي به و بغايته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.