أولا) سلبيات التمشيخ عند الطرقية التقليدية: "" 1- إذا كانت كثير من المظاهر الشاذة صادرة عن العوام ومن ليس لهم بالتصوف عمق وحسن إلمام بسبب جهل ناتج عن التحصيل النظري حول المفهوم الحقيقي للتصوف وأبعاده، فإنه يوجد جهل مركب عند ورثة كثير من الزوايا التاريخية قد يوقعهم في خطأ مقصود وغير مقصود، وذلك حينما يتشبثون ببرنامج شيخهم المتوفى منذ قرون ويصبح هو المرجعية الرئيسية أو الوحيدة في مجال التصوف والتلقين الروحي، وهذه هي الكارثة العظمى التي ابتلي بها التصوف في مجاله الحي والمتجدد، وهي بمثابة وقوف المتسلفة في تسلفهم عند شيخهم ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية، ومن هنا يحتكر التصوف كما احتكر التسلف وبذلك ضاعت الحقيقة بين هؤلاء وأولئك الجمداء من كلا الطرفين، وانساقا معا نحو تقليد القديد كما سبق وعبرنا عند المتسلفة بحيث قد يصبح المتمشيخ ملقنا للأذكار وتوزيع الأدوار بغير علم أو ذوق كما ذكر السهروردي عن خصوصية الصوفي، والمريدون إما أن يلتزموا حرفيا بما كان قد لقنهم الشيخ الحقيقي المؤسس للطريقة في الماضي القريب أو البعيد وهذا قد لا يضر العمل به إن اقتصر في حدود ضيقة، وإما أن يأخذ المتمشيخ التقليدي في الاجتهاد الأعمى لتلقين الأذكار بغير فقهه، وربما توهيم المريدين بقدرته على الفراسة والكشف والادلاء بالكرامات بغير علم أو استحقاق، وهذا هو الخطر المحدق بالمتمشيخ والمريد المغرر به في نفس الوقت مما قد يؤدي في النهاية إلى السقوط في وساوس وأوهام وربما اختلاط وخبط روحاني غير روحي، لا يستطيع علاجه الطبيب النفساني أو العصبي وغيره. إذ الأذكار لها فقهها الخاص الذي يدخل في أسرار العبادات النوافل بالتطوع والاختيار بالإذن الإلهي والنبوي والتسلسل التلقيني بالسند، ولها أنوارها ومناسبتها للذاكر وروحانيته وقلبه، وبالتحديد لدى من يريد السلوك الخاص في معرفة الله تعالى والترسيخ العلمي، أما الذكر العام فالأولى أن يقتصر فيه على المأثورات النبوية ذات الصبغة العامة ودون تقييد الخطاب بشخص معين أو ظرف خاص وحالة منفردة، فتكون تلك الأذكار محددة ومرغبة في أوقات معينة وبصيغ محددة وذلك على سبيل التعبد من أجل نيل الجزاء الأخروي أو التسلح بها في أعمال دنيوية، كأدعية السفر والاستخارة والنوم والاستيقاظ وما إلى ذلك، وهذا ما يتفق عليه كل الصوفية المتخصصين في علم الأذكار وينبهون عليه حتى لا يستهان بموضوعه ويصبح التجرؤ سهلا على مجاله، فيصير الذكر عبارة عن ميدان غير مضبوط ولا مناسب، بحيث لا يلتزم بأية قاعدة فيه سوى اعتباره ذكرا من أجل الذكر، بغض النظر عن دلالته وصيغه، فيصبح الشخص متقلبا بين الصيغ والعبارات ولا يكاد يستقر أو يتعود لسانه على واحدة منها، أي لا يصير رطبا منها، وهذا هو ما يسعى إليه المتسلفة من جهة حينما يحاربون الصوفية في التزامهم الأوراد الخاصة والمستخرجة من الكتاب والسنة صيغة ومعنى بزعمهم أن تلك الأوراد بدعة، فيشتتون بذلك إرادة الذاكرين في السير على وثيرة منتظمة وبالتالي لا يتحصلون على رقي روحي ملموس ومحسوس بالشعور والوجدان والذوق والعرفان، وهذا ما أدى بالكثير إلى الاستهانة بالأذكار وعدم إعطائها من الأهمية والخصوصية التي أولاها إياها الشرع، وذلك حينما لا يتحصلون على الاطمئنان المنشود من الذكر ولا يجدون ذلك الخشوع المنصوص عليه والمتشوق إليه رغم ادعائهم أنهم ذاكرون ولكن بتكلف وبغير فقه مأخوذ عن أهله وخاصته! أما المتمصوفة فبجراءتهم على تلقين الأذكار بغير علم ولا ذوق يكونون قد وضعوا الأمور في غير مكانها المناسب، ويصبحون كمن وصف الدواء بغير تجربة أو بغير أهلية التطبيب، فلا يزيد المريض حينئذ سوى مغص وحيرة وذبول، وبذلك ينقلب التصوف إلى تمصوف والمريد إلى متمرد ويغيب الشيخ ويتصدر الميدان المتمشيخ! ولقد نبه الغزالي إلى هذه النتيجة العكسية التي قد يصل إليها المتمصوف بغير علم أو توجيه روحي من طرف شيخ مربي عارف بالله في مزاولة الذكر بالانتقاء الذاتي حيث يقول عن هذه الحالة، وأصحابها فكم "منهم بقي في خيال واحد عشرة سنة إلى أن تخلص منه ولو كان قد أتقن العلوم أولا لتخلص منه على البديهة..." كما يذكر فرقة من المتمصوفة رغم صدق نواياها بأنها "اشتغلت بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها فصاروا يتعمقون فيها، فاتخذوا البحث عن عيوب النفس باستنباط دقيق الكلام في آفاتها، فيقولون هذا في النفس عيب والغفلة عن كونه عيبا عيب ويستعفون فيه بكلمات مسلسلة، فضيعوا في ذلك أوقاتهم لأنهم وقعوا مع أنفسهم ولم يتعلقوا بخالقهم. ومثلهم من اشتغل بأوقات الحج وعوائقه ولم يسلك طريق الحج وذلك لا يغنيه عن الحج فهو مغرور" وهذه الانزلاقات والاختلالات قد تحصل في حالة عدم صحبة شيخ مربي ومراجعته لكي يخلص المريد من هذه الورطات النفسية ويخرجه منها كمحلل نفسي وطبيب روحي ماهر ومختص، ولهذا كان من شرط التصوف –كما سبق وبينا موقف الغزالي- وسلامة سلوك المريد اعتماد هذا العنصر كأول ركيزة للشروع في السير كما يقول الشيخ محيي الدين بن عربي: "أول ما يجب على الداخل في هذه الطريقة الإلهية المشروعة طلب الأستاذ حتى يجده، وليعمل في هذه المدة التي يطلب فيها الأستاذ الأعمال التي أذكرها لها وهي أن يلزم نفسه تسعة أشياء، فإنها بسائط الأعداد فيكون له في التوحيد إذا عمل عليها قدم راسخة..." 2- إذن فالتصوف بمعناه العلمي والمدرسي الذوقي لا بد فيه من عنصر الشيخ الواصل الموصل، أي وجود السند الروحي في مجال المعرفة والتربية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الواسطة الرئيسية في تحصيل هذا العلم ألا وهو علم التوحيد الذوقي الشهودي والمؤسس على تصفية القلب والتحلي ثم التخلي والعروج في مقامات التجلي وتبدل الأحوال وصدق الأقوال كما يقول ابن عطاء الله السكندري عن الشيخ ووظيفته وشروطه "لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله" وأيضا فالشيخ ليس مجرد من سمعت منه "وإنما شيخك من أخذت عنه وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك من أثرت فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب وليس شيخك من واجهك مقاله إنما شيخك من نهض بك حاله، شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى" . فالمريد الصادق كما يقول السهروردي: "إذا دخل تحت حكم الشيخ وصحبه وتأدب بآدابه يسري من باطن الشيخ حال إلى باطن المريد كسراج يقتبس من سراج، وكلام الشيخ يلقح باطن المريد ويكون مقال الشيخ مستودع نفائس الحال وينتقل الحال من الشيخ إلى المريد بواسطة الصحبة وسماع المقال" وهذه الأحوال و الأوصاف قد وجدناها ميدانيا وحقيقة في صحبة شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش رضي الله عنه وأطال عمره ذخرا لهذه الأمة ومقصدا للصادقين في طلب الطريق إلى الله تعالى على المنهج القويم، والحمد لله بدء وغاية، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته...، ولقد قيل متى يصح تلقيب الشيخ بالأستاذ؟ فالجواب كما يقول الشعراني: إذا جمع هذه الثلاث خصال وهي: أن يكون عنده دين الأنبياء وتدبير الأطباء وسياسة الملوك..." وهكذا يتبين أن الشيخ ليس هو المتمشيخ، كما أن الصوفي ليس هو المتمصوف أو حتى المتصوف على أعلى تقدير واعتبار تقريبي، ومن هنا فإن الطريقة التقليدية غير ذات جدوى في هذا الباب إذا لم تبحث بنفسها عن شيخ مؤهل للتربية حتى تحافظ على أصالتها في نسبتها الأولى للشيخ الذي تنتمي إليه تاريخيا أو تبركيا وشكليا، وإلا فإن ادعاء المشيخة بغير استحقاق يكون بمثابة نوع من الدجل والحيل لاكتساب الأتباع واستغلال طيبوبة الناس وتعلقهم بالشيوخ الحقيقيين الذين سمعوا بهم في التاريخ على سبيل التعظيم والتقدير، فيدخل عليهم من هذا الجانب وبالتالي تلعب بهم الألاعيب: حتى إذا ما انجلى عنك الغبار تبين هل فرس تحتك أم حمار. 3- ولقد كان الأولى بهؤلاء المتمشيخة حينما يقصدهم بعض طالبي الطريق لتحصيل السلوك أن يدلوهم على الشيخ الحقيقي الذي قد يسمعون بوجوده في زمانهم، إذ الشمس لا يحجبها الغربال أويعتذروا بأنهم غير مؤهلين للاستجابة لما يطلبه المريد القاصد، وبذلك يبرئون ذمتهم ويكونون قد نصحوا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بحيث أن الطرق الصوفية جميعها يدرك أصحابها ويتحدثون بالقصة المشهورة عن أبي الحسن الشاذلي ورحلته في طلب الشيخ حيث لم يجرؤ أحد ممن لقيهم على الادعاء بأنه المؤهل لتحقيق ما يطلبه من مقصد أعلى والذي هو من اختصاص الشيخ المحقق أو قطب زمانه –كما يصطلح على ذلك الصوفية- وأيضا الشيخ المأذون والغوث وما على ذلك من اصطلاحات خاصة بعلم السلوك والتصوف، ومن ثم فقد دله الصادقون ممن لقيهم على أن الذي يطلبه قد تركه في بلده المغرب، وهو بلد الأولياء كما يعرف، حتى تم له اللقاء المشهور بالشيخ سيدي عبد السلام بن مشيش وحدث بينهما ذلك التواصل الروحي والذوقي الرفيع بحسب المناسبة بين الطالب والمطلوب والقاصد والمقصود. إن ما قد يحصل لدى كثير من المتمصوفة في رفضهم التسليم بوجود الشيخ المحقق في زمانهم رغم إيقانهم أنهم ليسوا من أهل السلوك والتوصيل خاصة يكاد يشبه في موقفه الأخلاقي السلوكي –وليس العقدي طبعا- ما حدث لأهل الكتاب من اليهود والنصارى حينما بعث الله نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الجديد الكامل المجدد والمثبت لنبوة الأولين والسابقين، إذ أنهم لم يريدوا أن يسلموا بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رغم علمهم ويقينهم أنه نبي زمانه وآخر الرسل والأنبياء وخاتمهم عبر كل العصور والأزمان المستقبلية لكن حسدهم وتذرعهم بالوفاء لأنبيائهم كما يزعمون أدى بهم إلى نكران الحق والكفر به، ناسين أن تكذيبهم هذا هو بالضرورة تكذيب للأنبياء السابقين الذين يزعمون أنهم يتبعونهم ويصدقون بهم، لأنهم قد بشروهم بظهور النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سواء في التوراة أو الإنجيل. ومن هنا فمجال التصوف كما سبق وبينا يحث شيوخه كلهم مريديهم على أنهم إذا وجدوا شيخا عارفا بالله ومأذونا في التربية وله مواصفات المشيخة الحقيقية على المستوى الروحي والسلوكي كما ذكر بعض مظاهرها، فليأخذوا عنه وليتركوا ما كانوا عليه من قبل في حياة شيخهم بعد أن توفي حتى يتسم سيرهم على وثيرة تصاعدية ولا يتعطل مسلكهم الروحي ويقعوا في بطالة أخلاقية وذوقية وفكرية معا، وبالتالي حتى لا تتعدد الطرق وتتصادم، لأن الأصل فيها واحد، وما تعددها إلا بتعدد أسماء الشيوخ المجددين فيها لا غير!. لكن هذا الوعي قد افتقد بصورة خطيرة ومن ثم أصبح كل منتسب إلى طريقة إلا وهو متشبث بها تشبث الأعمى، يخاف من التجديد ويتقيد بالتقليد رغم أن التصوف لا يقبله مبدأ وغاية، كما سبق وبينا مرارا استنكار الشيوخ الكبار لتقليد القديد في مجال الروح والأذواق والبحر المديد إذ يمكن أن يقلد الفكر والسلوك والتعبير، لكن أن يقلد الشعور والوجدان والذوق والأحوال والعرفان فهذا من الهذيان وادعاء كاذب وتوهم في غير محله سرعان ما ينكشف زيفه ويجف مدده ويختفي طيفه. فإذا اجتمعت دموع في خدود تبين من كان يبكي ممن يتباكى! ثانيا: البطالة الفكرية في التمصوف الثقافي والشعبي: 1- إذا كان كثير من أصحاب الطرق التقليدية من المتمصوفة قد وقعوا في هذا الخطأ وذلك لدوافع نفسية وأوهام ذاتية مسيطرة على عقولهم وسلوكهم بل على قراراتهم يزيد في بلة طينها تعلق الجمهور الجاهل والمغرور ولربما ضغط السلطة وإغراءاتها بالاستمرارية لغاية ما، فإن الأدهى من هذا هو ما يسلكه الكثير من المثقفين في زماننا من إظهار للنوازع العاطفية نحو التصوف والتصريح بالميل إليه دراسة وفكرا لغاية تنظيم الندوات واللقاءات وتخصيص محاضرات بشأنه قد يستدعى لها الباحثون من شتى أنحاء العالم ، ربما يشترك فيها العرب والغربيون على مائدة واحدة تخصص لدراسة تراث شخصيات صوفية مشهورة في التاريخ كابن عربي الحاتمي مثلا أو مولاي عبد السلام بن مشيش وابي الحسن الشاذلي وسيدي أحمد بن عجيبة... وقد يأتون في تلك الندوات بشتى ألوان الدراسات والتحليلات، كمجاملة للأطروحات الآنية والسياسية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سابقا وحاضرا فيما ما تصبو إلى تحقيقه من بعد بعيد كل البعد عن الهدف الحقيقي للتصوف فيما يبدو ،وربما قد تبدو من البعض حماسات واندفاعات في التصدي لكل من ينتقد هذا أو ذاك، تحت غطاء التزام الفكر الصوفي ومناصرته لأهميته... ولكن كل هذه الإجراءات قد تعتبر بمثابة سحابة صيف، أو كما يقول الشاعر: وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا لأنه حينما تتم الندوات وتصدر التوصيات مع ما يصرف في تحضيرها من أموال وما يهيأ لها من رجال وأعمال وإعلام وبهرجة سرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة، ويبقى التصوف حبرا على ورق, ومجرد رأي عابر وحدث أو طراز فكري موسمي (مُودَة) لا مدعاة لتحقيق أهدافه ومضامينه، وتصبح المسألة كما في قصة الجاحظ عن البخلاء عبارة عن كلام بكلام أما كلام مع عمل ومتابعة فهذا ما لا يرتجى أو يؤمل! يقول الجاحظ عن بعض البخلاء حكاية: "فبينما هو يأكل في بعض المواضع إذ مر به رجل فسلم عليه فرد السلام. ثم قال: هلم عافاك الله! فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعا، يريد أن يطفر الجدول أو يعدي النهر، قال له: مكانك، فإن العجلة من عمل الشيطان، فوقف الرجل، فأقبل عليه الخراساني وقال: تريد ماذا؟ قال: أريد أن أتغذى. قال: ولم ذاك؟ وكيف طمعت في هذا ومن أباح لك مالي؟ قال الرجل: أو ليس قد دعوتني؟ قال: ويلك، لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام، الآيين (أي العادة) فيما نحن فيه أن تكون إذا كنت أنا الجالس وأنت المار أن تبدأ أنت فتسلم، فأقول أنا حينئذ مجيبا لك: وعليكم السلام، فإن كنت لا آكل شيئا سكت أنا وسكت أنت، ومضيت أنت وقعدت أنا على حالي، وإن كنت آكل فهاهنا آيين آخر، وهو أن ابدأ أنا فأقول: هلم، وتجيب أنت فتقول: هنيئا، فيكون كلام بكلام، فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الإنصاف، وهذا يخرج علينا فضلا كبيرا..." ومن هنا فحينما يطرح موضوع الشيخ الحي على مثل هؤلاء المتمصوفة المثقفين من باب الدعوة إلى الاستطلاع والتحقق الميداني تجدهم يتعللون بشتى المبررات والأسباب للتحلل من الاستجابة إلى هذه الدعوة وكأن هذا الشيخ يمثل بالنسبة إليهم هاجسا أمنيا، أو منافسا اقتصاديا وسياسيا وحتى ثقافيا، إذ أنه في الحقيقة يكون كاشفا واقعيا لأكاذيبهم التي يدعونها حول ميلهم إلى التصوف والدعوة إلى سلوك منهجه أو طريقته، ومن ثم فإن الأمر يصبح بالنسبة إليهم لا يعدو أن يكون إما مسايرة ثقافية ظرفية شأنها كوسائل الإعلام والأحداث الدولية والدعايات التجارية والفنية الاستهلاكية، أما كمبدأ وغاية فهذا هو المستبعد تماما اللهم إلا ما كان ويكون من بعض المثقفين الصادقين في مواقفهم ورؤاهم. وإما أن يكون هذا التحرك الثقافي المتمصوف نابعا من الصلة التقليدية نسبا وبغير نسبة إلى بعض الطرق الصوفية التقليدية التبركية ذات الجذور التاريخية المحضة –أي أنها لا علاقة لها بالتحقيق والذوق والعرفان إلا من باب التشبه أو الترسم، وهذا محرك قوي وباعث غير سليم لدى البعض ممن يحملون نسب شيخ معين، فيسعون على سبيل الانتهازية والمنافسة غير الشريفة إلى التشويش على دعوة الشيخ الحي المحقق، من خلال المسارعة إلى تنظيم ندوات أو إقامة حفلات ومواسم لزاوية ما ويدعمونها بكاء على الأطلال واستدرارا للعطف والمال! يساهم في هذا رجال من أهل العلم المغمورين وأهل السلطة المغرورين أو المغرّرين سرعان ما تنطفئ شمعة هذا الوهج المصطنع لإحياء أهل القبور ثم يعود الظلام والسكون إلى حاله المغبور! 2- وإذا كان البعض من هؤلاء المتمصوفة لهم بريق وأمل في الاستفادة طبعا لغياب الاقتداء بالشيخ المحقق والممثل لمقام الصوفية كما سبق وعرفناه، فإنه يوجد نوع آخر من المتمصوفة لا يتوفرون على قاعدة نسب ولا نسبة، وإنما يختلقونها اختلاقا لإيهام السذج والمغفلين بوجود هذه المزية لديهم، وذلك بالادعاء أن لهم نسبا يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وكذلك ادعائهم أنهم ذوو نسبة صوفية إلى شيخ معين قد كان محققا في زمانه. إذن فهنا مسالتان يلعب على أوتارهما ويتداخل أمرهما كتداخل اللبن والماء: الأولى وهي النسب المؤدي استدراجا إلى ادعاء الثانية وهي النسبة. ولقد استغل العنصر الأول وما زال في التغرير بالنفس وبالغير وللتوهيم بالولاية والشرف والصلاح وما إلى ذلك، إذ كثير هم المهدويون الذين لعبوا على أوتار هذه القضية وغرروا بها جماهير عريضة من الأغمار والغوغاء بل حتى كثير من أشباه العلماء، وهذا ما أدى ويؤدي إلى بطالة فكرية وتوقف ذاتي جماعي عن إصدار النقد والملاحظة والتصحيح في حقهم، مما يعني الانقياد الأعمى لاصحاب الدعاوي بغير علم ولا فتوى سليمة وبالتالي تسيير المجتمع نحو وجهة غير صحيحة وواضحة! وقد يكون أصحاب هذه الدعاوي النسبية ليس لهم أي صلة بالنسب النبوي وآل بيته، لكن اختلاق الألقاب وتراكمها عبر الأزمان والتغيرات الاجتماعية أدى إلى إمكانية تسريبها ضمن شجرة النسب الشريف بالادعاء واستغلالها في باب دعوى الصلاح والتصوف الذي قد يقترب بسبب هذه التشبثات من التشيع حسب المدعين والمعارضين في آن واحد. لكن الصوفية في حقيقة أمرهم لا يشترطون هذه القاعدة حتى تكون هي المحددة الرئيسية لمصداقية أو مقام الشيخ، رغم اختلاف بعضهم حول هذا الشرط بالوجوب أو الاستحباب ورغم أن النسب الشريف له دور مهم وفعال في الحفاظ على الهوية، وترسيخ التشبث بالاقتداء والتأسي السليم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن هناك نسبا روحيا يرتقي على كل الاعتبارات الجسدية أو الشبحية والنسلية ويتسامى إلى اعتبار الأبوة الروحية بالنسبة وصدق طلبها كوسيلة إلى تحصيل النسب الروحي الذي هو الأصل في الاتصال دنيويا وأخرويا وذلك بالاستناد إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" وربطه تفسيرا بقول الله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". حيث يقول عن معناه محيي الدين بن عربي: "فلا يضاف إليهم إلا مطهر ولا بد فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم فما يضيفون لأنفسهم إلا من له حكم الطهارة والتقديس فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة حيث قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سلمان منا أهل البيت" وشهد لهم بالتطهير وذهاب الرجس عنهم، وإذا كان لا يضاف إليهم إلا مطهر مقدس وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم فهم المطهرون، بل هم عين الطهارة، فهذه الآية تدل على أن الله قد شرك أهل البيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تاخر" واي وسخ وقذر أقذر من الذنوب وأوسخ، فطهر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، فما هو ذنب بالنسبة إلينا لو وقع منه صلى الله عليه وسلم لكان ذنبا في الصورة لا في المعنى، لأن الذم لا يلحق به على ذلك من الله ولا منا شرعا، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنوب من المذمة ولم يصدق قوله: "ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" فدخل الشرفاء أولاد فاطمة كلهم ومن هو من أهل البيت مثل سلمان الفارسي إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران، فهم المطهرون اختصاصا من الله وعناية بهم لشرف محمد صلى الله عليه وسلم وعناية الله به، ولا يظهر حكم هذا الشرف لأهل البيت إلا في الدار الآخرة فإنهم يحشرون مغفورا لهم، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حدا أقيم عليه كالتائب إذا بلغ الحاكم أمره..." فابن عربي من حيث نسبه وهو شيخ معترف به عند الصوفية حاتمي وطائي ينتهي إلى جده من الأنصار، وهذا التفسير منه قد يبدو فيه نوع إقناع بحسب ما فهمه من النص رغم أنه يبقى في حكم ذوقه الخاص للمسألة، ومع ذلك فإنه يحدد لنا مفهوم الشرف وأنه في النسب لا يكمل إلا بشرف النسبة، أي سلوك الطريق الموصل برسول الله صلى الله عليه وسلم روحيا حتى يتم التطهير ظاهريا وباطنيا، دنيويا وأخرويا، ومن هنا فليس كل شريف نسبا معناه أن يكون مربيا ومزكيا سلوكيا. وعلى العكس من ذلك فمن ليس بشريف نسبا لا يكون شيخا مربيا ومسلكا في الطريق الصوفي، إذ أن هذا الشرف الروحي هو الاساس عند الصوفية وبه تتم الوصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم والاستمداد من روحانيته في باب المعرفة والأذواق، ومن ثم فمصطلح الأبوة الروحية أو البنوة والأخوة يعتبر أهم الروابط النسبية في الطريقة الصوفية وعليها المعتمد، كما من خلالها يمكن لنا فهم قول الصحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم "بابي أنت وأمي يا رسول الله" إذ أنه يقدم على الأبوة والأمومة الجسدية ويتخطاها في باب التسامي والارتقاء التواصلي. 3- ولقد وقف كثير من الشرفاء نسبا مع نسبهم متوهمين أن ذلك هو الكفيل الوحيد لكي يجعلهم متصدرين في مجال التربية الروحية والمشيخة والإمامة، وهذا غلط منهم وتواكل لا يليق بأهل البيت والشرفاء، بل هو توسيد الأمور إلى غير أهلها وتضييع للأمانة كما سبق وبينا، رغم أن النسب يمكن استعماله في باب العصبية والحكم، وهو ما يستغله الشيعة بكثرة ويركزون عليه لتحقيق أهدافهم السياسية. وهنا يختلف الصوفية عنهم ويتباين مفهوم الإمام لديهم عنهم، كما أنه من هنا يتسرب التمصوف ويقع الناس في المغالطات لأنهم مبدئيا يتوهمون أن الشريف نسبا قد لا يخطئ ولا يخادع ومن ثم لا يناقش، بينما هو إنسان كسائر الناس لا يميزه بشرف نسبه سوى شرف نسبته وسلوكه "أنا جد كل متقي ولو كان عبدا حبشيا" وهذا كلام كان يردده مرارا شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش حينما يطرح موضوع الشرفاء وإبدائهم التميز على غيرهم بالذات والأشباح، وهو كلام قد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواية ومعنى كما نجد نظائر له ثابتة ومبينة هذا المبدأ والقاعدة العامة في التساوي الحكمي والسلوكي حينما أعطى لنا المثال ببنته فاطمة الزهراء عليها السلام "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لن أغني عنك من الله شيئا". وإذ قد امتثلت والتزمت بما أمرها به نبيها وأبوها وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها كانت أول أهل بيته لحوقا به في الجنة. فيما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه فسارها بشيء فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت قالت: فسالتها عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني انه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه فضحكت" . ومع هذا الفضل فإن النسب يقف عند حدود الشرع ولا يتجاوزه بأي حال حينما يكون هناك نص ثابت في حق من الحقوق أو واجب من الواجبات كما يروى "عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما افاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا فهو صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال يعني مال الله، وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم..." الحديث وفي رواية أخرى مفصلة، أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لما توفيت: "دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر، فقال عمر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينهم. فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبا حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته، فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر رقي المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق ابي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكارا للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا، فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف" . وهذا النص وحده فيه الكفاية والردود الحاسمة على دعاوي ومزاعم الشيعة وأيضا التحليلات الوهمية لكثير من الماديين والمتعلمنين حول الخلافة والخلاف حولها بين علي وأبي بكر رضي الله عنهما، كما يبين الاستحقاق الشرعي لها من طرف أبي بكر وإقرار علي له بذلك بعدما دخل عليه الاستحقاق النسبي القرابتي بظن الأولوية والتقدم فيها، ثم رجوعه بعد ذلك طواعية وتفكرا إلى الأمر الواقع، كاعتراف رسمي وعلني بأفضلية أبي بكر في توليه هذا المنصب، رغم أن النسب له دوره في دعمه وتقويته عصبية وتعلقا من طرف الجمهور كما تدل عليه هذه العبارة الدقيقة والملاحظة النفسية والاجتماعية الميدانية وهي: "وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته" فالنسب مقدر ومحترم ولكن في حدود الشرع والالتزام به والوقوف عند أوامره ونواهيه، ومن ثم فكماله بكمال النسبة التي تعطي نسبا روحيا هو الأصل في قيمة النسب الجسدي والنسلي، ومن هنا كما يقول الشعراني حول أخذ الطريق والسلوك الصوفي بأن من شأن "المريد أن لا يقنع في طريق فقره بالآباء والجدود كما عليه أولاد غالبية المشايخ، بل يجب عليه أن يتخذ له شيخا يربيه، فليست المشيخة بالإرث إنما هي بالجد والاجتهاد. وكان الرازي رحمه الله يقول: لا ينبغي للشيخ أن يبادر لأخذ العهد على أولاد المشايخ المتشيخين بالآباء والجدود إلا بعد امتحانهم في الصدق في طلب الطريق ودخولهم تحت أمره ونهيه، فإن غالبهم يرى نفسه أفضل من جميع المشايخ الظاهرين في عصره ممن ليس له سلف في المشيخة، بل سمعت بعضهم يقول: أنا لا أعتقد في أحد إلا إن كان أبوه في تابوت، فبلغ ذلك القول إلى شيخ ليس أبوه في تابوت فعمل لأبيه سترا وتابوتا، وهذا كله من خفة العقل، قال الرازي: وقد أخذت العهد على جماعة من أولاد المشايخ القانعين بالزي من غير علم ولا عمل فما نتج منهم أحد، وعلمت أن التعب معهم ضائع لا سيما أولاد شيخ الإنسان، فإن نفوسهم لا تكاد تنكبس أن يأخذوا الأدب عن أحد من مريدي والدهم أبدا ولو بلغ في الطريق أقصى الغاية، ويقولون إن هذا لم يكتسب الصلاح إلا من والدنا ونحن الأصل." وعند هذا الدافع إلى التمصوف بدعوى النسب القريب أو البعيد لا ينبغي أن يقاس الملائكة بالحدادين كما يقول الغزالي، إذ هيهات الفرق بين أهل البيت المطهرين والمتطهرين والمتشبهين بالمتطهرين والمتوهمين التطهر، لأن الأولين قد جمعوا النسب والنسبة أو لهم نسبة بغير تحول إلى نسب لعارض نفسي، أما المتوهيمن التطهر فلا نسب ولا نسبة، وإنما الادعاء في الأولى والثانية مما يعني انقطاع السند الروحي والنسب لديهم في سلوك طريق التصوف رغم تقمصه وادعاء النسبة إليه، وهذا من أخطر مظاهر التمصوف الذي يلعب على أوتاره كثير من الدجاجلة والمشعبذين والمهدويين من الشيعة وأصحاب الأغراض الفانية والألاعيب السياسية وذوي الحيل في الابتزازات المالية والاستلابات النفسية والاجتماعية....!