تمهيد حول الاصطلاح بالسلفي "" إن البطالة الفكرية عند كثير من الفقهاء والعلماء الرسميين سواء كانوا جامعيين أو أعوانا للسلطة وأصحاب قرار سياسي ، قد أدت بسبب الفراغ الناتج عن هذه الوضعية إلى ظهور أو تعشيش وتفريخ تيارات مغلفة من أشباه الفقهاء والعلماء، هم من جهة رسميون بحكم توظيف الكثير منهم في الجامعات والمعاهد التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وغيرها، ومن جهة أخرى قد يخدمون سلطة خارجية ليست بسلطة الدولة الحاكمة عليهم كما يلاحظ في غالبية الدول العربية والإسلامية، بحيث قد تكون التبعية متشعبة ومتشابكة كالارتباط الملحوظ بالوهابية المتسلفة ذات الوجه المذهبي للسعودية مثلا، أو ذات صلة بتيارات ومؤسسات باكستانية ممولة من طرف الدولة وكذلك أفغانية تابعة لها أفرزت فيما قبل حركة الطالبان بالاشتراك مع السعودية في لعبة سياسية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية انقلبت ضد لاعبيها فيما بعد لتبرير حضورها في المنطقة ورصد التحركات العسكرية والاقتصادية لإيران وروسيا وباقي دول آسيا المهددة لمصالحها. كما ظهرت تلك التيارات بأسماء مختلفة في العالم الإسلامي حتى لا تبرز تبعيتها المباشرة للوهابية السعودية أو المتسلفة الباكستانية وحتى المتشيعة الإيرانية فتثير مخاوف الأتباع وأيضا مضايقات السلطات المحلية وإجراءاتها الأمنية المشددة، لكن الجميع يشترك في جذع واحد وخط متميز عن المسلك العادي للمسلمين سنيهم وشيعيهم، حيث قد تعددت الأسماء والمسمى واحد، هم يسمون أنفسهم بالسلفية ونحن نحبذ أن نصطلح عليهم بالمتسلفة، كتدقيق اصطلاحي ووضع الأمور في مكانها المناسب. وهذا التسلف قد يحصره هؤلاء كمرجعية مذهبية في شخصيات تاريخية لا تتعدى هذه الثلاثية شبه مقدسة لديهم وهي: ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب، وذلك كاختزال للأمة ولتاريخها ورجالها وصالحيها، وعلمائها وعامليها، حتى قد أصبح هؤلاء بمثابة مرجعية لا تراجع ومصدر لا يناقش،وهو ما قد يمارس لدى بعض الجماعات المغربية التي قد تخلط في عملها ومنهجها بين التسلف والتصوف ومزاعم الجهاد والمعارضة السياسية خلطا مغثيا ومقززا ،ومع ذلك تعطي لزعمائها صفة المشيخة المزيفة أو الإمامة المنتظرة بالقومة وأوهام النومة ومزاعم الأحلام في الظلام، وكأن الحديث عنهم يقيد بمبدأ "لا اجتهاد مع وجود النص". لكن أي نص هذا وأي فكر يحتويه ذاك الذي سطره المتسلفة المتقدمون وتلقفه المتأخرون حتى جعل تيار الماء العلمي راكدا ومعرضا للتغيير في لونه وطعمه ورائحته، بسبب طول مكثه على السطح أو بسبب ما تراكم عليه من شوائب وإسقاطات ونفايات داخلت عناصره فأصبح لا يستطيع أن يؤدي وظيفته التطهيرية أو الإروائية مما عرض له من إهمال وركود؟وهذا ما قد يفرض على العلماء الموضوعيين والحكام المخلصين لشعوبهم وهوية أمتهم ترسيخ المذهبية السليمة والأصيلة في البلاد مع تدعيم المجال الروحي النير والمتخلق بالصدق والمحبة والصفاء الذي قد لا يوجد بشكله الواقعي والمدرسي الجميل والوجداني الرفيع المرهف الحس والذوق سوى عند الصوفية من أهل السنة كما يجمعهم ابن عاشر على الترتيب في منظومته الخالدة والحضارية والتي قد تلقنها بعض الطرق الصوفية وعلى رأسها -وبشكل رسمي ومستديم- الطريقة القادرية البودشيشية لمريديها كأوراد ومنهج تحصيل: في عقد الأشعري و فقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك وعن الطريقة وأستاذها يقول: يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك يذكره الله إذا رآه ويوصل العبد إلى مولاه تناقض المواقف والإسقاطات عند المتسلفة: 1- ولئن كان بعض متسلفة الماضي المصطلح عليهم بالسلفية (التاريخية) قد ساهموا بنوع إنتاج علمي وفكري رصين وفيه نوع من الإفادة والجدية رغم ما يعتريه من خلل وتناقضات ومراكمات في كثير من أوجهه فإنه على العكس من ذلك نجد متسلفة عصرنا قد شوهوا صورة أسلافهم وعرضوا إنتاجاتهم مبتورة ومعوقة فزادوا من خلل المختل مبدئيا وخللوا الرصين كما أنهم شددوا المشدد أصلا وضيقوا الضيق واغلقوا منافذه حتى أصبح أصحاب هذا الاتجاه عبارة عن أشباح بلا أرواح وجماجم بغير أدمغة أدت إلى البطالة الفكرية لدى شريحة جد مهمة من المجتمع العربي والإسلامي عموما. فمن مظاهر خلل المتسلفة في الماضي ظاهرة العمل على هضم وقضم العلوم التي كتبها غيرهم ثم إدراجها في كتاباتهم واعتمادها للطعن في أصحابها ليس على سبيل النقد البناء أو البحث عن الحقيقة، وإنما الاندفاع بسبب جزء رأي أو فلتة لسان أو زلة قلم لا تناسب أفكارهم ومذهبيتهم في التأويل والتحليل لتشويه صورة الآخر في نظر الجمهور تحت غطاء دعوى السلفية والتزام منهج السلف الصالح حتى ينفر من تلك الكتابات ويطعن فيها بشكل غوغائي وجزافي، ليس له من سند في ذلك سوى أن ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية قد انتقد هذا العالم أو ذاك سواء كان من أهل الفقه أو الكلام والتصوف. ومن هنا فإن التقليد سوف لن يقتصر على الأفكار وعدم تطابقها وإنما سيطال الأخلاق في جوانبها السلبية وتكريس جرأة ووقاحة قد تؤدي إلى سب كبار رجال الأمة وعلمائها وصالحيها... وهذا النوع من القصور والهضم الذي نبهنا إلى بعض أوجهه في نقص التكوين عند الجامعيين وطلاب الكليات ذوي الخلل في المنهج والتلقين قد ظهر بصورة جلية عند ابن تيمية وابن قيم الجوزية بشكل ملحوظ وطاغي حتى أن بعض الدارسين كمحمود الغراب في كتابه "شرح كلمات الصوفية والرد على ابن تيمية" ذهب إلى اتهام ابن تيمية خاصة باختلاس أفكار الشيخ محيي الدين بن عربي وغيره، ثم تبنيها وفي التالي العودة باللائمة على صاحبها في شكل نكران للجميل والتظاهر بالتدقيق والتحليل. غير أن الأمر ليس كذلك عند التمحيص، إذ السلفية الحقيقية تقتضي أن ينسب الحق إلى أهله, ويقتدى بمصدره ومنبعه، لا أن توضع بينه وبين طالبيه الوسائط والحجب مما يغير صورته ويبهت لمعانه وبريقه، فيضعف في النفوس الطلب ويتقاعس الطالب، أو أن يجري وراء سراب حتى "إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب". وكمدعم لإمكانية صدق دعوى محمود غراب وغيره وجدنا تصريحا لابن تيمية أو إن شئنا قلنا فلتة من اعترافاته باستفادته من كتابات الشيخ محيي الدين ابن عربي يقول فيها: "وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات والكنة، والمحكم المربوط، والدرة الفاخرة ومطالع النجوم ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا. فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان" . ولم يكتف ابن تيمية بهذا الانقلاب النظري الكلي لأسباب جزئية أو أقوال متفرقة إما أنه لم يفهمها وهذا هو الصحيح وإما أن بعضا منها دس على الشيخ ابن عربي كما كشف عن ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه "اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر"، بل ذهب إلى الاستنجاد بالأحلام والإسقاطات الذاتية الصادرة من طرف بعض أعداء الشيخ ابن عربي، كما يحكي: "حدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنياري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويعثران ويقولان كيف الطريق؟ أين الطريق؟" وهذا إن دل على شيء فإنه يبين لنا نوعية الأحكام الجاهزة والمتسرعة بصورة متقطعة ومنقطعة عند ابن تيمية دون الالتزام بالقواعد الأصولية، كإحالة المحكم على المتشابه أو المعمم على المخصص أو المطلق على المقيد أو حتى الناسخ على المنسوخ، والمحكي على المقرر مع التثبت والتيقظ قبل الأخذ والرد، وهو ما يجعل القارئ يحتفظ بالأفكار السليمة ويترك الأخرى على اعتبار أنها دسيسة وتحريف أو أنها زلة قلم أو عثرة لسان، تمشيا مع التوجيه النبوي مما يروى في قوله صلى الله عليه وسلم "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" كأخلاق إسلامية متجذرة في وعي العلماء والعامة على حد سواء. 2- ولسنا الآن بصدد محاكمة ابن تيمية أو مقارنته بغيره، إذ أننا قد أفردنا دراسة مختصرة لهذا الموضوع سميناه "الموضوعية والذاتية بين الغزالي وابن تيمية"أو"قضايا سلفية بين الغزالي وابن تيمية"طبعة دار غارب.. دللنا فيه بإيجاز على نوع التسرعات التي تخللت دراسات ابن تيمية النقدية وبعض اوجه التناقضات في المواقف سواء على مستوى علم الكلام أو علم التصوف، بحيث أن هذا الأخير قد أصبح بسببه فيما بعد مرمى للسهام ومقصدا للسباب والتهجم بغير مبرر شرعي أو أخلاقي، أو حتى تقليدي كامل وشامل لما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من الحنابلة المتسلفة في منحاهم الإيجابي تجاه هذين العلمين وأقطابهما، إذ أن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية يعترفان صراحة وبوضوح تام لأقطاب التصوف بفضلهم على الأمة كالشيخ عبد القادر الجيلاني والجنيد والشبلي وغيرهم، وبالتالي فهو يقر للطرق الصوفية مشروعيتها بدليل اعترافه بالشيخ عبد القادر الجيلاني ومن سار على مسلكه، كما أنه يقسم الصوفية نظريا إلى ثلاثة أقسام كلها ملتزمة بأحكام الشريعة ومتفاوتة في تطلعاتها ومراتبها العملية والعلمية المعرفية كما يقول المثل: "ثم إنه –أي التصوف- بعد ذلك تشعب وتنوع وصارت الصوفية ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم" . لكن متسلفة عصرنا لا يرون في المواقف سوى الجانب النقدي الهدام والمعمم بغير تخصيص، والمطلق بغير تقييد، ويسعون إلى الرفض الكلي لما لا يوافق أهواءهم وتحجر أذهانهم، بخلط الأوراق بين التسلف والتزيف، وبين السجية والتكلف مما يؤدي في النهاية إلى الانصراف عن أهل الحق والوقوع في الحرمان والتخلف، وهذه هي عين البطالة الفكرية التي أصبح عصرنا يشتكي من آفاتها باسم السلفية المحرفة وهي ذات قطيعة مع السلف الصالح وحتى السلفية التاريخية المرحلية منذ زمن ابن تيمية وابن قيم الجوزية، الشيء الذي نبهنا عليه بدقة وبلغة علمية في كتابنا المتواضع، "البعد التوحيدي للذكر في الإسلام: الوسيلة والغاية" وأيضا "التجديد في دراسة علم التوحيد". إذ الذي حدث لابن تيمية إن صح القصد كما ذهب إليه محمود الغراب وغيره سواء في نقده لأقوال وكتابات الآخرين أو إدراجها في كتبه بغير إذن أو دلالة على إحالة تبين أصلها ومن ثم صبغها بشارة السلفية هو نفسه الذي سيحدث لتلميذه ابن قيم الجوزية وخاصة في مجال علم الكلام والتصوف رغم أنهما في جوانب كثيرة يعودان إلى الإحالة، ولكن ليس كلها، كما تلحظه في كتابه الروح مثلا لغاية انه يعرض آراء حول النفس يخالف فيها أستاذه ابن تيمية أحيانا وينزلق مع ابن حزم الظاهري في القول بجسمية الروح، وأيضا ما طرحه من آراء وتقسيمات حول النفس الإنسانية ومراحلها وعناصرها، وهي ذات مرجعيات صوفية عبارة ومعنى ودراسة وتحليلا، كما نجد الشيء ذاته وبصورة مفصلة ومعمقة في كتابه "مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين" وهو كتاب صوفي مقتبس بالحرف والفاصلة من أقوال وكتابات الصوفية، لكنه مؤلف على شكل نقد بل بديل متسلف للتصوف يقوم على الصياغات الذاتية نظريا واقتباسا، وبالتالي تجزيئا وتحكما في صياغة المنهج وطريقة العمل. بحيث من جهة يبدو وكأنه يؤيد التصوف في نتائجه ومعارفه وعلومه النفسية والأخلاقية" ، ولكن من جهة أخرى كأنه يريد أن يقصي التصوف كطريقة وميدان مستقل بمنهجه ومؤسس مدرسيا بين الشيخ والمريد وتلقين الأوراد وضبط الواردات... ومن هنا فقد تسقط التصورات الذاتية التي يصوغها ابن قيم الجوزية كما صاغها قبله شيخه ابن تيمية باعتباره فقيها حنبليا متشددا وباعتباره متسلفا متكلفا يدعي أنه يلتزم منهج السلف الصالح في الأقوال والأفعال والعبادات. وهذا المسلك في الكتابة هو الذي بعينه ولكن بصورة جد مشوهة ومستهجنة ورديئة وجدناه يبرز عند متسلفة أو متسلقة عصرنا، وذلك حينما شعروا بأن الخطاب الصوفي يحتفظ بحيويته طول الدهر، لأنه صدر من أهل الحق ومن قلوب مستنيرة بذكر الله وطهارة النفوس، فأرادوا تقليده من جهة ومعاكسته من جهة أخرى فلا هم بقوا على تسلفهم ولا هم تراجعوا عن تسلقهم، وإنما سقطوا على أم رأسهم، لأن أسلوبهم بدأ يخرج على شكل هجين مسلوب المذاق، لا هو من نموذج ذوقيات وعمقيات ابن عربي ولا هو من جمالية أدبيات حكم ابن عطاء الله السكندري ولا من شعريات وخمريات ابن الفارض والشيخ البوزيدي، وإنما ظهر مشوها لا ينتمي إلى الحقيقة في شيء ولا إلى العلم أو الادب وفن الحكم من جهة، كشأن الوليد الذي امتحن به سيدنا سليمان عليه السلام، فيما يروي البخاري عن أبي هريرة أن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام كان له ستون امرأة فقال لأطوفن الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة ولتلدن فرسا يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام. قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله" . وإذ أنه لم يستثن ولم يقل إن شاء الله تعالى على سبيل النسيان فقد امتحن بهذا الامتحان، فكيف بالذي يقصد إلى معاكسة الحق وأهله بنية مبيتة ومغالطة سيئة، إذ لا بد وأن يكون نتاجه أسوأ من وليد سليمان الذي امتحن به، بحيث وجدنا التقارب بين العلمانية والتسلف في عدة قضايا، منها ما يسمى بأسلمة المعرفة وتأسيس علم النفس الإسلامي وهو خال من روحه وأسسه الإسلامية وإنما هو صورة مغلفة أو مقلدة بتحفظ شكلي لعلم النفس الغربي ذي الاعتماد الحيواني بالدرجة الأولى, فلا هو بقي نصا في صيغته ومعناه الأصيل ولا هو قلد الغرب في ماديته ومآله الوبيل، وقس على هذا من أنواع الكتابات الفجة التي تملأ بها المكتبات وتزخرفها الأغلفة بسبب الدعم والتمويل لتحقيق هذا الهدف المزيف! الانتقاء الاستدراجي في منهج المتسلفة: إن مسلك ابن تيمية وابن قيم الجوزية يتوافق على خط واحد في انتقاء ما يوافق توجهاتهما الخاصة ولا يكادان يلتزمان بما يصرحان به كموقف ومنهج لديهم ومقدمة استدراجية كما نجد ابن قيم الجوزية يقول: "فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم، ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، والإشاة لنا والعبارة لغيرنا وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنى لا فساد فيه وصار هذا سببا لفتنة طائفتين: طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم، وطائفة نظروا إلى مقاصدهم فصوبوا تلك العبارات وصححوا تلك الإشارات، فطالب الحق يقبله ممن كان ويردها خالفه على من كان" . في حين نجد أستاذه ابن تيمية لا يأخذ بهذا التوسع في التقسيم والأعذار وتحري الصواب في نسبة الأقوال والإسناد، اللهم إلا من باب اعتبار السكر المعنوي عند بعض الصوفية كالشبلي بصفة خاصة وإلغاء الشطحات الصادرة عنه أثناءه كما يحكي عنه إضافة إلى انتقاص مكانته في بعض الأحيان ووصفه بالجنون تلميحا وتعييرا حينما يذكر انه أدخل البيمارستان، لكنه في الغالب يذهب إلى النقد الأهوج والمتطرف وخاصة لابن عربي الحاتمي بالدرجة الأولى حيث يقول عنه كنموذج: "وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بواسطة كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص..." ثم يقول: "فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم!!!، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم..." 3- ثم يمضي في الإسقاط والتعميم بدون تحرز أو تحفظ العالم الورع فيقول: "ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية، والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار، مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، وينتقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الشيطانية!!!" 4- هكذا إذن تمت عملية التسلف ووظفت حركيتها لإنتاج بطالتين متتاليتين ورئيسيتين هما: البطالة الفكرية بصرف العامة والعلماء عن مطالعة كتب العارفين والأولياء، والبطالة الروحية بالتشويش على قلوب الطالبين طريق الحق للسلوك إلى الله تعالى، على منهج التزكية النفسية والاقتداء بالمشايخ الأحياء أهل الصلاح والقدم الراسخة في المعرفة والتسامي الروحي والوجداني، إضافة إلى الانزلاق في البطالة الأخلاقية المتمثلة في الغيبة والنميمة والحسد والتشهير والتكفير والتبديع بغير تحرز أو ضوابط من الورع وسلوك مسلك التأويل أو افتراض عدم نسبة الأقوال إلى صاحبها إن كانت لا تقبل تفسيرا سليما، إلى غير ذلك من الإجراءات الأخلاقية وسلوكيات البحث العلمي الرصين والمتأني في إصدار الأحكام. فلماذا لا يرجع ابن تيمية إلى مبدأ الخير ويغلبه على ما فهمه ذاتيا ووهميا من الشر الذي يزعمه في أقوال وكتابات وحتى نوايا ابن عربي مثلا؟ لماذا لا يغلب الواضح الصريح على المبهم أو الغامض المشكل حينما تكل آلته الذهنية وحوصلته الفكرية عن استنباط المعنى السليم من الأقوال؟ بماذا سيرد ابن تيمية على إشهاد ابن عربي لله ولرسوله وللأمة جمعاء على سلامة عقيدته وسنيتها حينما قال: "فيا إخوتي ويا أحبائي رضي الله عنكم، أشهدكم عبد ضعيف مسكين فقير إلى الله تعالى في كل لحظة وطرفة وهو مؤلف هذا الكتاب ومنشئه، أشهدكم على نفسه بعد أن أشهد الله تعالى وملائكته ومن حضره من المؤمنين وسمعه: أنه يشهد قولا وعقدا أن الله تعالى إله واحد لا ثاني له في ألوهيته منزه عن الصاحبة والولد مالك لا شريك له، ملك، ملك لا وزير له، صانع لا مدبر معه، موجود بذاته من غير افتقار إلى موجد بل كل موجود سواه مفتقر إليه تعالى في وجوده، فالعالم كله موجود به وهو وحده متصف بالوجود لنفسه، لا افتتاح لوجوده ولا نهاية لبقائه، بل وجود مطلق غير مقيد، قار بنفسه ليس بجوهر متحيز فيقدر له المكان ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء، مقدس عن الجهات والاقطار، مرئي بالقلوب والأبصار، إذا شاء استوى على عرشه كما قاله وعلى المعنى الذي أراده، كما أن العرش وما سواه به استوى وله الآخرة والأولى، ليس له مثل معقول ولا دلت عليه العقول، لا يحده زمان ولا يقله مكان، بل كان ولا مكان وهو على ما عليه كان، خلق المتمكن والمكان، وأنشأ الزمان، وقال: أنا الواحد الحي لا يؤوده حفظ المخلوقات ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات، تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها أو تكون بعده أو يكون قبلها، بل يقال كان ولا شيء معه..." إلى أن يقول: "فكذلك أشهده سبحانه وملائكته وجميع خلقه وإياكم على نفسي بالإيمان بمن اصطفاه واختاره واجتباه من وجوده ذلك: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى جميع الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ صلى الله عليه وسلم ما أنزل من ربه إليه وأدى أمانته ونصح أمته ووقف في حجة وداعه على كل من حضر من أتباعه وما خص بذلك التذكير أحدا من أحد عن إذن الواحد الصمد، ثم قال: ألا هل بلغت؟ فقالوا بلغت يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد، وإني مؤمن بكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم مما علمت وما لم أعلم...." أما الزعم بأن ابن عربي يرى الولاية أفضل من النبوة والرسالة فهذا كلام من توهم ابن تيمية وكلل فكره عن التدقيق في مغزى وأبعاد كلامه، وإلا فإن الولاية تبقى دائما تحت لواء الرسالة والنبوة في الدنيا والآخرة كما يقول ابن عربي بصريح العبارة: "فكان من شرف النبي صلى الله عليه وسلم أن ختم الأولياء في أمته نبي رسول مكرم هو عيسى عليه السلام وهو أفضل هذه الأمة المحمدية وقد نبه عليها الترمذي في الحكم في كتابه ختم الأولياء له وشهد له بالفضيلة على أبي بكر الصديق وغيره، فإنه وإن كان وليا في هذه الأمة والملة المحمدية فهو نبي ورسول في نفس الأمر فله يوم القيامة حشران: يحشر في جماعة الأنبياء والرسل بلواء النبوة والرسالة، وأصحابه تابعون له، فيكون متبوعا كسائر الرسل، ويحشر أيضا معنا وليا في جماعة أولياء هذه الأمة تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم تابعا له مقدما على جميع الأولياء من عهد آدم إلى آخر ولي يكون في العالم، فجمع الله له بين الولاية والنبوة ظاهرا، وما في الرسل يوم القيامة من يتبعه رسول إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يحشر يوم القيامة في أتباعه عيسى وإلياس عليهما السلام، وإن كان كل من في الموقف من آدم فمن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، فذلك لواؤه العام، وكلامنا في اللواء الخاص بأمته صلى الله عليه وسلم، وللولاية المخصوصة بهذا الشرع المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ختم خاص هو في الرتبة دون عيسى عليه السلام لكونه رسولا..." 5- فهل يا ترى صاحب هذه العقيدة المعلنة وهذا الفكر الدقيق العميق والسليم من التشبيه والتجسيم والتعطيل في تأسيسه على التقديس والتعظيم والتنزيه والتصديق يمكن وصفه بالإلحاد والزندقة والتلبيس الشيطاني وما إلى ذلك مما أصبح مظهرا للبطالة الفكرية عند متسلفة عصرنا؟ إن المثل يقول: "كما تدين تدان" وهذا هو الذي حصل عمليا لابن تيمية وجماعته من المتسلفة إلى يومنا هذا! بحيث قد أصبح ينسب إليه القول بالتجسيم والتشبيه والجهة، بل قد يعزى إليه القول بقدم العالم أو قدم الهيولى على غرار زعم الفلاسفة ، لغاية أنه أدخل السجن بسبب عقيدته حتى توفي فيه. فكان كل ذلك يعود في سببه على ما نرى إلى أنه لم يتحرز في تكفير غيره وتبديعه فناله من مسلكه ما أذاقه غيره. حتى إننا نجد النشار يبالغ في وصف ابن تيمية بالتشبيه والتجسيم، بحيث يقول عنه في عدة مواضيع: "وقد اثرت الكرامية في السلف المتأخرين ونادى ابن تيمية بما نادى به الكرامية، واحتضن الحنابلة المتأخرون هذه الآراء وظهرت على أقوى صورة لدى الوهابيين بعد وأصبحت جزء من عقائدهم..." ولم تمت الكرامية... لقد عاشت الكرامية بعد موت مؤسسها... ثم احتضنها عالم سلفي متأخر ومفكر من أكبر مفكري الإسلام وهو تقي الدين ابن تيمية أو بمعنى أدق سار الحشو في طريقه بدعم فكرة التشبيه والتجسيم ويجتذب إليه مجموعة من أذكى رجال الفكر الإسلامي". "...بقي التشبيه والتجسيم في بيت المقدس وفي دمشق وفي حران، وفي هذه الأخيرة ولد عالم السلف المتأخر الكبير تقي الدين ابن تيمية عام 661ه، نشأ ابن تيمية في أسرة حنبلية يحيط بها التشبيه والتجسيم، وقد وقع فيهما ابن تيمية وقوعا كاملا" . ومن دقيق الملاحظة عند النشار حسب دعواه أن التيار الحنبلي المتسلف صار يجتذب إليه مجموعة من أذكياء الفكر الإسلامي، وذلك لأن الذكاء وفي باب العقيدة ليس هو الحد الفاصل في تحديدها والتزامها، لأن مقر الاعتقاد هو القلب وانشراح الصدر إلى الحق، وحينما يصبح العقل وحده هو المفسر للعقيدة والمصور لها فحينئذ قد ينجذب العقل إلى مطالب الخيال الحسي وبالتالي قد يؤلف اعتقاده بحسب تعوده على المرئيات والماديات والمحسوسات خاصة إذا كان صاحب هذا العقل متحجرا ومتشددا في الاعتداد بنفسه وتوهمه امتلاك الحقيقة لوحده. وإذا كان النشار وغيره يصرحون باتهام ابن تيمية في قوله بالتشبيه والتجسيم وكذلك قدم العالم فإننا نتحفظ في هذا الموضوع ولا نجاري هذه الاتهامات رغم ما يمكن أن تحتمله كتاباته وجماعته المتسلفة من عبارات تؤكد صحتها، وذلك حتى لا نقع فيما وقعوا فيه وننزلق في بطالة فكرية وأخلاقية لا نكاد نخلص من وحلها، وأذكر بصورة خاصة مسألة القول بقدم العالم إذ نجد في بعض كتابات ابن تيمية نفيا صريحا لها، كما وجدنا عند ابن عربي نفيا صريحا للقول بوحدة الوجود أو الحلول والاتحاد، إذ بحسب ما التزمنا به من أخلاقيات البحث العلمي والعدالة الفكرية أن نغلب الصريح الصحيح على المبهم الموهم. فمن نموذج الصريح في قول ابن تيمية بحدوث العالم نورد هذه الفقرة من مناقشاته "والعلم بصدق الرسول ليس موقوفا على العلم بحدوث العالم، وهذه طريقة صحيحة لمن سلكها، فإن المقدمات الدقيقة الصحيحة العقلية قد لا تظهر لكل أحد، والله تعالى قد وسع طريق الهدى لعباده، فيعلم أحد المستدلين المطلوب بدليل، ويعلمه الآخر بدليل آخر، ومن علم صحة الدليلين معا، كان كل منهما يدله على المطلوب وكان اجتماع الأدلة بوجوب قوة العلم، وكل منهما يخلف الآخر إذا عزب الآخر عن الذهن. ولكن مع كون أحد العقلاء لم يعلم أنه قال هذا، ومع كون نقيضه مما يعلم بالسمع فنحن نذكر دلالة العقل على فساده أيضا فنقول: كما أنه ما يثبت قدمه امتنع عدمه، فما جاز عدمه امتنع قدمه، فإنه لو كان قديما لامتنع عدمه، والتقدير أنه جائز العدم فيمتنع قدمه وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه بل جاز عدمه، وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه، لأنه لو كان قديما لم يجز عدمه بل امتنع عدمه. وتلك المقدمة متفق عليها بين النظار متكلمهم ومتفلسفهم وغيرهم"... ولكن مع هذا فقد لا يمكن تخليص ابن تيمية من التناقضات التي شابت كتاباته ومن ثم عمقت تطرف وتناقض أتباعه لحد الغلو في التكفير والتبديع لكل من يخالفهم ولو في شكل اللحية واللباس والتقليد فيهما بشكل مضحك مبكي كما يحكى في قصة "جُرب فصح" أن أحد الملتحين من هذا الفصيل المتسلف -فيما أظن -والآخذ للعلوم على سطحها وحرفها أنه كان ذات يوم يقرأ في كتاب تحت ضوء الشمعة فإذا به يمر بفقرة فيه تقول:"كل ذي لحية طويلة فعقله سخيف ! "فالتفت إلى نفسه في الحين فوجد أنه ذو لحية طويلة من الصنف المذكور هناك.فما كان منه إلا أن هرع إلى التخلص من لحيته تلك كي لا تنطبق عليه القاعدة المذكورة،فلم يجد حينها ما يحلقها به ،لكنه تنبه إلى الشمعة التي كان يقرأ على ضوئها فخطرت له فكرة رائعة وعبقرية ألا وهي: أن يمسك بلحيته إلى الحد المنصوص عليه سنة وشرعا وهي قبضة اليد ثم يحرق الباقي بواسطة تلك الشمعة ! وفعلا ذلك الذي فعل ولكن حصل ما لم يكن في حسبان البلداء ،وهو أن النار لم تكتف باللحية الزائدة وإنما أحرقت شاشة وجهه وعرض جبهته عن آخرها.حينئذ رجع هذا الغبي والصادق مع نفسه في مبادئه إلى الفقرة من الكتاب الذي سبب له هذا المصاب فسطر تحته تعليقا ب"جرب فصح"أي أن كل ذي لحية طويلة فعقله سخيف: صحيح مجرب.وهذا ما قد أكده مالك بن دينار رحمه الله تعالى حينما قال :لا تغرنكم اللحى فإن التيْس له لحية !.ولنا عودة لمتابعة هذا الموضوع بصور من الواقع إن شاء الله تعالى كتصحيح للمفاهيم ونصيحة لجمهور الأمة وعلمائها وأولياء أمورها.