" لم يكن هؤلاء العلماء أقل ذكاء من أبناء اليوم،بل كانوا يملكون قدرة نادرة على الإستنباط والإستدلال.إلا أنهم كانوا يعملون في نطاق فكري محكم يحتم عليهم منطقيا قبول نتائج تظهر لنا سخافات لأننا غير مرتبطين بذلك النظام " عبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي ص:34 "" لقد أفلح الغزو الثقافي في تشكيل الكثيرين من المنبهرين على النحو الذي أراد كما يشكل العجين مستغلا الطبيعة الإنسانية في اتباع الغالب إذ المغلوب مطبوع على اتباع الغالب كما قال الفقيه بن خلدون الذي كان أيضا يعلم بشؤون الحيض.. هؤلاء المستلبون تحولوا إلى أعداء للذات فكفوا أرباب الغزو الفكري كلفة هدم أركان الهوية ومقومات الحضارة في شقها الروحي..هؤلاء يطلقون سخرية وتهكما مسمى فقهاء الحيض والنفاس على عموم الفقهاء من غير معرفة للنسق الفكري الذي يحكمهم ولا دراية بأدواتهم في الإستنباط والإستدلال وهم لايعرفون يمينهم من شمالهم في ما له تعلق بشرع الله ولا يميزون بين الفقيه وبين من يحفظ الفقه من الإستظهاريين!هذا بالرغم من وجود فقهاء هم فقهاء في الشرع والقانون معا درسواالعلوم الإنسانية والفلسفة والعلوم القانونية والدستورية بأهم الجامعات العالمية اليوم، وفقهاء موسوعيون تخصصوا في علوم الكيمياء والفيزياء والطب والفلسفة والمناهج العقلية في الماضي..و الوليد بن رشد ؟ كان فقيها فيلسوفا عارفا بشؤون الحيض كذلك..وهذا بغض النظر عن التحريف الذي وقع في مسمى الفقيه الذي أصبح في نظر الكثيرين يعني ذلك الشخص البسيط الذي يحمل ثقافة بالية وقديمة ! غير أن هؤلاء ليسوا الوحيدين الذين أطلقوا هذا المسمى بل إن من الإسلاميين من أطلقه،وأنا شخصيا قرأته لأول مرة عن زعيم العدل والإحسان الذي يصف "العلماء الرسميين" بفقهاء الحيض والنفاس تارة وب قطط السلطان تارة أخرى..ولنقل هاهنا على أن الفقهاء في المغرب منقرضون أو يكادون وحتى من اشتهر منهم هم عيال على المشارقة حتى منذ القديم ! ليس شأن الحيض الخاص بالمرأة محتقرا أو معرفته انحطاطا بل وجب على كل مسلم أن يعلم كيف يتعامل مع زوجته الحائض بما يوطد روابط الزوجية ويقوي لحمة البناء الأسري كما جاء في القرآن الكريم ، ولايتوهمن جاهل أن لفظ (ولا تقربوهن) هو نهي عن الإقتراب ،بل هو نهي عن إتيان المرأة جماعا إذ يفيده السياق (فأتوهن من حيث أمركم الله) أما غير ذلك فليس مقصودا وإن كان من أمور العلاقة الحميمية بما دون الجماع كما تفيده الأحاديث الشريفة ! أما المستلبون المشكلون فليسوا معنيين بشيء من هذا مادامت مرجعيتهم النهائية والمعيارية هي النموذج الغربي ! والنموذج الغربي لا يعترف بقيمة معنوية أو بخلق وإلاهه الخفي هي الرغبة التي تشرع له الأحكام ! ربما قد نسمع غدا عن حركة وطء المرأة أثناء الحيض من يدر فالإباحية في الغرب فتحت "آفاقا" لمزيد من "الإبداعات" الجنسية سواء في مجتمعاته أو لدى اتجاهات معزولة في مجتمعاتنا وأقول اتجاهات والإتجاه من طبيعته العزلة والخروج عن الجماعة تماما كاتجاه الوكالين ! إن موضوع الحيض والنفاس يتناول في معرض الحديث عن الطهارة بابا من أبواب الفقه الإسلامي الممتد الشامل لكافة مناحي الحياة السياسية والإقتصادية والمالية والإجتماعية والبيئية والصحية بما يفتحه من آفاق الإجتهاد..غير أن التركيز الرسمي ليس إلا على الطهارة والصلوات والحج والأضرحة ولا يتم ذكر العلماء إلا في مراسيم البيعة وذلك شأن آخر..ما مكانة الفقيه في دولة آثرت النموذج الغربي وتسيرها نخب متغربة مشكلة؟ لا مكانة سوى الحديث عن الطهارة وفي أحسن الأحوال يستنكر المنكر بقلب..هي حدود مرسومة له وياويله إن تعداها ! ولنتأمل معا مقتطفا من خطاب الحسن الثاني للعلماء سنة 1984:(فإذا أنتم أحكمتم سلوككم وطريقتكم في العمل،فستكونون بجانب العامل عن الإقليم ورئيس المجلس العلمي للإقليم بمثابة ذلك العالم الذي يستنكر المنكر ولكن بقلب، أما السلطة التنفيذية فهي للعامل عن الإقليم،فهو الذي طبقا للقانون وفي إطار القانون يمكنه،بل يجب عليه أن ينهى عن المنكر بيده.هذا ما نسميه بفصل السلط) وقال:( لا نغلق أندية،ولا نغلق مسابح،ولا نرجع إلى الوراء أبدا،أنا أتكلم فيما يخص العبادات والمعاملات والسيرات ولا تهمكم السيرة في الأزقة،والعربدة في الطريق ،وغير الحشمة في الطريق). فإذن مهمة من ينعتون بالعلماء محدودة محددة وعليه لايمكن وصفهم لا بالفقهاء ولا بالعلماء،بل هم موظفون في الدولة لهم مهمة يتقاضون عليها مرتباتهم آخر كل شهر! و لو استقرئنا أدوار الفقهاء عبر التاريخ الإسلامي وجدنا منهم من كان مع الناس ناقدا للسلطان ومن كان مع السلطان مضللا للناس،وعلى سبيل مثال الأول نجد المقريزي الذي تناول في كتابه " إغاثة الأمة بكشف الغمة " أو " تاريخ المجاعات في مصر"، الحديث عن الأزمات الاقتصادية والمجاعات التي عاشتها مصر، ليصور لنا ما لاقته معظم فئات الشعب والجماهير المصرية من ضروب المحن والمآسي، في غفلة من الحكام، الذين فضل معظمهم الابتعاد عن الجماهير ، وجعلوا كل همهم في جني الأموال وتحصيلها والإكثار منها، والاحتفاظ بالسلطة والحكم بمختلف الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية، ومهما حل بالشعب من آلام ومصائب. واستطاع المقريزي أن يحدد الأسباب التي أدت إلى حدوث هذه المآسي والمجاعات ووصفها لتلافيها وعدم الوقوع فيها مرة ثانية. وتقي الدين المقريزي كان فقيها يعلم بشؤون الحيض والنفاس أيضا، ولم يمنع ذلك توماس جريشام من أخذ قانونه من نظرية المقريزي في مجال النقود ! وأمثال المقريزي كثيرون أخذ أو نقل الغربيون قوانينهم ونظرياتهم منهم،والمنهج التجريبي نفسه لم يكن من إبداع الغرب في شخص فرانسيس بيكون كما ساد بذلك الإعتقاد بل من إبداع علماء المسلمين الذي جعلوا من بين معارفهم أحكام الحيض والنفاس! فعندما انبثقت الحضارة الإسلامية وجاءت معها بروح علمية جديدة واستخدم العلم كأداة لتطوير الحياة نشطت الحركة التجريبية وظهر في علماء المسلمين كثيرون ممن اعتمدوا التجربة منهجا أساسيا في المعرفة وأبرزهم كان جابر بن حيان في القرن الثاني للهجرة العارف بشؤون الحيض. كذلك كان الحسن بن الهيثم،الذي لايقل عنه معرفة بأمر الحيض،اشتهر في الغرب بمؤلفاته في حقل البصريات..هذا دون إغفال الدراسات المالية والمصرفية للفقهاء المعاصرين في المشرق ودعوة بعض الأصوات الغربية للإستفادة منها لتجاوز الأزمة الإقتصادية.. غير أن الإنبهار بالغرب أنسى التاريخ وحقائقه، بل التاريخ يؤخذ زيفه من الغرب على أنه حقيقة جاءت وحيا منزلا من النموذج القياسي المعياري! ويكفينا أن الغرب يشجع ويمنح الجوائز لأناس يشتغلون بالبقالة الفكرية رأسمالهم الإستهزاء ! والغربيون وإن كانوا يكرمون - لا لوجه الله - هؤلاء أصحاب الفكر القمامي فلا يفكرون في إضافة الإستهزاء منهجا علميا أو أداة للبحث.وموضوع الإستهزاء والتكريم فيه الكثير مما يقال. [email protected] mailto:[email protected]