ناضل الوطنيون و قاوموا الاستعمار، كما الوطنيات ناضلن و قاومن نفس الاستعمار. ولكن التاريخ لم ينصف نساء المقاومة. و من ضمن المقاومات الطاهرات العفيفات الوطنيات المخلصات للاراضية وزاني شاهدي -رحمها الله- المعروفة ب"راضية الوزانية" في بعض الأوساط، و المعروفة أيضا ب"سلطانة أهل وزان" في أوساط أخرى. و رغم أن التلفزة الوطنية غيّبت "سلطانة أهل وزان" عن المشهد، بحيث لم تخصص لها و لو برنامجا يتيما كشاهدة متميزة على فترتي ما قبل نفي السلطان محمد الخامس رحمه الله و ما بعد عودته إلى أرض الوطن منتصرا مظفرا بفضل الله، فذاكرة للاراضية ستضل حية عبر التداول الشفهي عبر الأجيال. و لعل هذا الغياب الرهيب لوسائل الإعلام الوطنية التي لم تنصف هذه المرأة التي عاشت حياة غنية بالعطاء و التسامح و الصلاح، لعل هذا الغياب هو الذي جعل الدكتورة و الأستاذة الجامعية "جوهرة الفيلالي بابا" تبادر إلى استجواب للاراضية قيد حياتها، من أجل التاريخ، في مجلة "جواهر". و سيكون مفيدا أكثر لو بادرت بعض الأقلام الحرة المنصفة لكتابة السيرة الذاتية الشاملة لكل مناحي حياة "للاراضية الوزانية"، فلقد كانت امرأة استثنائية في تسامحها و صلاحها، كانت تحب لغيرها ما تحب لنفسها، كانت تعطف على الفقراء و تشعر بالمسؤولية نحوهم و لا ترد أبدا من طلب مساعدتها خاوي الوفاض. تعرفت على للاراضية وزاني شاهدي رحمها الله عن قرب، و عرفت مدى طيبوبتها و تواضعها و حبها للناس و سعيها للإصلاح بينهم بحنكة عالية و بذكاء قل نظيره. كانت ذكرى، أو عيد الاستقلال، تعني لها الكثير إلى حد إعطاء أوامرها، تلقائيا، كلما حلت هذه الذكرى المباركة، أو هذا العيد الوطني، بلف منزلها المتواجد بطريق إموزار كاملا بنسخة عملاقة من العلم الوطني لتكون قدوة للآخرين و لعلها تزرع الوطنية في الجيل الجديد. قالت المناضلة قيد حياتها للاراضية وزاني شاهدي رحمها الله ذات يوم في لقاء جمعها بالدكتورة و الأستاذة الجامعية جوهرة الفيلالي بابا: "إن الكتب التي ألفت عن المقاومة من طرف المغاربة كتبت في فترة متأخرة، و لم تعط لنضال النساء ما يستحقه من اهتمام و ركزت بصورة خاصة على الرجال، مع أن الحكي الشفاهي غني في هذا الباب، و لو تقصى المؤلفون الحقائق لوجدوا الكثير، و إن كانت جل المناضلات قد التحقن بالرفيق الأعلى نظرا لبعد الزمن..." و قالت أيضا للاراضية رحمها الله و جازاها خير جزاء على كل كلمة حق تفوهت بها : " ...أغلب المقاومات لم يطمعن في المقابل، من رخص و غيرها من الامتيازات التي استفاد منها حتى غير المناضلين من الرجال..." ولكن، كيف التحقت للاراضية بالمقاومة و بميدان النضال؟ تقول رحمها الله في هذا الباب: " كان لتردد الزعيم علال الفاسي على منزلنا أكبر الأثر، لقد كان صديقا لأخي عبد السلام الخطيب المفوه الذي خطب في القرويين إثر إعلان الظهير البربري مستنكرا ما يهدف إليه الفرنسيون من التفريق بين المغاربة. كان الحديث في منزلي و منزل أسرتي يدور حول مضايقات البوليس الفرنسي، و عن استشهاد الوطنيين، عن نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف و تعيين ابن عرفة....فكان طبيعيا أن أتأثر بالجو الخاص و العام، و كان هذا حال جميع أفراد الأسرة، كل كان يعبر عن تفاعله مع الحدث بطريقته الخاصة، مثلا ابني سيدي محمد و الذي كان سنه حوالي اثنتي عشرة سنة انقطع عن الدراسة بعد نفي السلطان، و لم يعد إليها إلا بعد رجوعه، لقد رفض أن يدرس في عهد ابن عرفة. أما بالنسبة لي شاركت في مرحلتي الاستعمار و ما بعده، لأني كنت أومن بما قاله سيدي محمد بن يوسف حين عاد من منفاه، بأننا خرجنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر و هو بناء الوطن " كانت للاراضية وزاني شاهدي المعروفة ب"راضية الوزانية" تنتمي إلى الحركة الوطنية " التي آمنت بضرورة إشراك النساء في مختلف مناطق المغرب، في المدن و البوادي إذ كان عمل شبكة الاتصالات النسائية أمرا حيويا، و بالنسبة لنساء فاس كن يتحركن في المجال الاجتماعي الذي يخفي وراءه التوجه السياسي". و قد شاركت "سلطانة أهل وزان" في ما يلي: " توزيع المنشورات و رسائل التهديد الموجهة للخونة، إخفاء المقاومين و مساعدتهم عن الهروب متنكرين، إخفاء السلاح و توزيعه، تزويد المسجونين بالمؤونة و غسل ملابسهم، مداواة الجرحى، جمع التبرعات للمساهمة في تمويل الحركة الوطنية..." فألف تحية و تحية لكل المقاومات اللائي قالت عنهن للاراضية، من بين ما شهدت به : "إن المقاومات كن مؤمنات بالتضحية بالنفس و النفيس في سبيل الوطن و من أجل رجوع محمد الخامس من المنفى، و حين تحقق ذلك عدن إلى حياتهن العادية...." لم يكن عمل نساء المقاومة يترك مجالا للعشوائية أو للارتجالية، فلقد كن يحرص على تسجيل أسماء الفدائيين و الفدائيات من أجل تقديم المساعدة إن كانت أسرهم في حاجة إلى ذلك. و مما دونته، مثلا، السيدة "أمينة الغياتي" بتلقائية و دقة قدر المستطاع، في وقت لا بد و أنه كان حرجا للغاية يقتضي السرعة في نقل المعلومة، على ورقة احتفظت بها للاراضية للتاريخ : "الفدائيون: عبد الله الشفشاوني ترك ولدا و بنتا، بن شقرون محمد ترك أولادا، محمد السلاوي ترك ولدا و بنتا، علال بن عبد الله من مدينة الرباط، محمد الحياني ترك أخته، ولد بوعنان الساكن بواد الصوافين ، رشيد العلوي والده شطاب يسكن بسويقة بن صافي، فطومة زيانة توفيت في المظاهرة...." أغلب الاجتماعات في فاس إبان المقاومة كانت تذيل بجملة: "حضرت الاجتماع كمسؤولة عن حزب الاستقلال مليكة الفاسي مع الأخت للاراضية الوزاني"، و لكن لا يظهر إمضاء المقاومة المجاهدة المناضلة الوطنية للاراضية على عريضة المطالبة بالاستقلال، و لمعرفة السبب يمكن الرجوع إلى ما أدلت به رحمها الله من تصريحات في مجلة الجواهر في عددها 36: " كانت الظروف المادية للحزب جد صعبة، فبعد أن أنهى الفوج الأول المرحلة الابتدائية بمدرسة النجاح بدرب الطويل تطلب الأمر إحداث ثانوية، فقررت و السيدة مليكة الفاسي القيام بهذا الأمر، و هكذا اكترينا منزلا بحي عين ازليتن ليصبح ثانوية البنات التي درّس فيها أساتذة متطوعون.... و في ثانوية عين ازليتن درست أمينة الغياتي مع غيرها من البنات، منهن من كن دائمات التردد علي في بيتي كلما احتجن إلى مساعدة، إضافة إلى كوني كنت أكلفهن بالقيام بمهام مختلفة لها صلة بالعمل الوطني، خصوصا و أن إمكانية خروج نساء فاس إلى المجال العام كانت جد محدودة، كما أن مجتمعهن كان مفصولا عن مجتمع الرجال في الأفراح و الاتراح، و الحكم يشمل الأصهار فما بالك بمن لم تكن تجمعنا بهم قرابة، و حتى إذا خرجت المرأة أو حضرت مجلسا فيه الرجال -و نادرا ما كان هذا يقع- فكانت تلبس الجلباب و تتلثم....فالمجتمع الفاسي آنذاك كانت تحكمه أعراف تبدو غريبة الآن و لكنها كانت متحكمة، و يكون الضغط أقوى إذا كانت السيدة تنتمي إلى بيت ذي شرف و مال و جاه، لذلك فأغلب الاجتماعات التي حضرتها عقدت في بيتي بالسياج أو بمنزل أختي بدرب الميتر بباب الخوخة، و لم يكن بإمكاني مرافقة للامليكة -التي سمحت لها ظروفها بحرية أكبر- في كل تحركاتها، و بالتالي لم أوقع على العريضة...." " للاراضية سليلة بيت شرف و مال و جاه و من ذوات الأريحية، تبرعت ببعض حلييها و بعض حلي بناتها و كذا بالمال، أو بقطع أرضية ليسخّر ثمن بيعها لصالح الوطن، كما كانت تصرف بسخاء على حفلات عيد العرش و التي كانت تقام بدار مكوار بالبطحاء، و معروف أن المغاربة كانوا يؤكدون بإحيائها شدة ارتباطهم بالعرش العلوي في شخص السلطان محمد الخامس، و كان بيتها قبلة المحتاج، و كانت تشعر بالمسؤولية نحو بلدها و نحو بنات وطنها، حاربت لديهن الأمية و الفقر، كما ناضلت ضد الاستعمار" (نساء فاس و المقاومة- الجواهر العدد 36) و لأن ابنها عبد السلام توفي في عز شبابه و لم يترك ابنا يدعو له، فلقد بادرت للاراضية رحمها الله بإنجاز مشروع للمحرومين و المحرومات ليكون صدقة جارية لفائدة ابنها المتوفى حتى تشمله مغفرة من الله عزّ و جلّ. عن هذا المشروع تقول للاراضية رحمها الله : "تمكنت بتوفيق من الله من إنشاء مشروع تنموي لصالح نساء فيكيك، التي تعرفت عليها حين زرت أختي للارحمة (-رحمها الله-)، فزوجها سيدي مصطفى المشرفي (-رحمه الله-) كان قائدا على المنطقة. كان الناس هناك يعيشون في فقر مدقع، وجبتهم خبز من دقيق الشعير، و خليط مطحون مكون من الشحم و التمر. حين توفي ابني عبد السلام في عز شبابه كان حزني عليه كبيرا، فقررت أن أصرف المال في إنشاء مشروع خيري يمكن النساء المستفيدات من الحصول على المال عن طريق نسج الزرابي، و تحقق ذلك، فقد وفرت المكان و جهزته بما يلزم من مناسج و صوف و ضمنت له الاستمرارية، و بفضل الله عرف المشروع نجاحا. و كنت قد تشرفت قبل إنجاز عملي هذا بلقاء السلطان بعد عودته من المنفى صحبة للامليكة الفاسي فحدثه عن الحالة المزرية لسكان المنطقة، و عما أنوي القيام به فشجعني على ذلك و أوفد معي إضافة إلى الأميرة للاعائشة (-رحمها الله-) و عدة شخصيات من بينها: السيد عبد الله إبراهيم، و السيد أحمد بناني مدير التشريفات الملكية و السيدة فاطمة حصار...و زودنا رحمه الله بهبة ملكية كانت عبارة عن مواد غذائية و أمرنا رحمه الله بأن نوزعها على أهل المنطقة كما أوصانا خيرا بالجيران الجزائريين إذ كانوا في أشد الحاجة للمساعدة " توفيت الحاجة للاراضية، ابنة سيدي ابراهيم وزاني شاهدي و للاالعزيزة بنشقرون، في الأيام البيض و في ظهر يوم الجمعة (14.02.2014)، و في نفس اليوم علمت بالخبر إحدى قريباتها التي كانت تتواجد بالديار المقدسة فأهدت لها عمرة. فالآية من القرآن الكريم التي تخطر بالبال تلقائيا هي الآتية: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )) في يوم من أيام فترة مرضها الأخير الذي دام طويلا سألت للاراضية رحمها الله إحدى قريباتها عن جديد قضية رجل سلطة نزيه كان قد تم عزله و تهميشه بعد اتهامه بالتبليغ عن الرشوة و فضحها، فكان الجواب بأن لا جديد حيث لم يتم إنصاف الرجل بعد، فقالت رحمها الله: "والله لو سعفتني صحتي لذهبت للقاء السلطان محمد السادس لأبلغه بهذا الأمر، فلقد كان جده رحمه الله يعزني و يستقبلني بالترحاب" رحم الله للاراضية، فلقد كانت إلى آخر أيامها تتحلى بالصبر و تسعى إلى الخير و ترفض الظلم و لا تيأس أبدا، حيث كانت تؤمن بانتصار الخير على الشر إلى آخر رمق من حياتها. و رحم الله زوجها سيدي إدريس وزاني شاهدي العالم الجليل قيد حياته و الذي توفي كذلك في يوم الجمعة (08.09.2012)، و الذي كان قد علق رحمه الله في نفس قضية رجل السلطة النزيه قائلا: "هذا رجل لا يطلب المستحيل، فهو لا يريد سوى إصلاح إداري ".