يبدو أن تفاعلات ما بعد دستور 2011،تسير في الاتجاه الذي لا تشتهيه الأنفس والضمائر التواقة إلى العتق من ربقة السلطوية والتسلط ، حيث تتركز مفاعيل قيمية وممارساتية مشدودة أكثر إلى الماضي السياسي المعيب ،وتتوارى الإرادة في التغيير وإمكانية خلق حراك سياسي إيجابي يقطع مع أوصال الفعل السياسي السلطوي/الاستبدادي،حيث يمثل في أفق النسق السياسي الحنين إلى تكريس استمرارية قيم التسلط ورعايتها ومنحها السيادة ،وقد تأكد أنه من الصعب جدا على من رضع ويرضع من حلمة السلطوية أن يتم فطامه ،أو فصامه عنها مادامت هي مكمن ومبعث تلذذه وانتعاشة ذاته. إن الاحتفاء بالسلطوية معطى حاضر وثابت في البيئة السياسية المغربية وأضحى ممارسة يومية ومتواترة ،ولم تستطع لاءات الدستور الجديد تفكيكها أو خلخلة تركيبتها الصلبة العنيدة المستعصية على التحلل والاندثار أو حتى الاضمحلال ،وإنما يتم النفخ فيها وتعظيمها وتوسلها وتوجيه طلقاتها من أجل اغتيال الديمقراطية.وتبقى السلطوية حاضرة حاضنة للعقل السياسي النخبي . فكل الفواعل السياسية استمرأت السلطة والسلطوية وارتضتهما في مسارها وسيرها غير مكترثة بحالها ولا حال من وضع بين يديها أمانة تمثيلها ،وحكم الدستور متروك لذاته يخاطب نفسه ويعزف أنشودة هلاكه وخلاصه ،والفاعل السياسي ماض في تقديم آيات الولاء للسلطوية يمجدها ويغازلها لنيل الرضا واليمن والبركات ،وهو في طلبها دائما ،بينما يمحق كل شيء مرتبط بالديمقراطية ،نعم يكرهها وهي بالنسبة له ضيف ثقيل غير مرغوب فيه . حلف بغيض ذلك الذي يجمع بين السلطوية والفاعل السياسي في مغرب اليوم يمضي بثبات ويحقق انتصارات متوالية ،يزرع أشواكا وألغاما محكمة في طريق الدمقرطة، ويسد عليها كل الأبواب والمنافذ ،وهي مسألة طبيعية جدا مادام الأمر يتعلق بموعد الاحتفاء بالسلطوية ،مما يعزز تيمات الخصام والشقاق بين البيئة السياسية والديمقراطية ، وحتى بلغة الجيولوجيا السياسية لا يمكن لبذور الديمقراطية أن تنبت في ارض خلاء تأكسدت فيها بذور السلطوية والتسلط. فنبتة الديمقراطية بحاجة إلى نقاء الأرض والتربة وصفاء العقل الذي يرعاها. كل الممارسات والعلاقات السياسية بسياقاتها الأفقية والعمودية تحفل بقيم السلطوية وتخلق "بيئة انتباذبة" لقيم الديمقراطية ،وكل النخب تتوسل وتسعى في طلب الوقوع في دائرة السلطوية وترجو الإذلال لنفسها في سبيل التقرب من السلطة ،فكيف السبيل إلى الديمقراطية في ظل الإجهاز على الحرية والحقوق وتكريس قيم الطاعة والخضوع والخنوع. فباب الاجتهاد والإبداع في سبيل تعزيز السلطوية مفتوح على مصراعيه وفي تنافس محموم لا نظير له، بينما باب الابتكار والمثابرة في الديمقراطية مقفول ومسدود ومشمع بمقتضى حكم مؤبد حائز لقوة الشيء المتسلط به وإمكانية النقض أو الطعن معدومة. والتحلق وراء السلطوية والتمسك بها هو صمام الأمان لبقاء النخبة وعدم دورانها ،وسريان الفساد والريع وبقاء الوضع على حاله وأحواله ،لأن حكمة البقاء والاستمرارية والديمومة بالنسبة للنخبة المستفيدة تستمد أصولها ومفعوليتها من أسيجة السلطوية ومقامات التسلط وسراديب الاستبداد ،وفي طلب الدمقرطة ،محصلة التهلكة لهذه النخبة المتأبطة،ف"طوبى للسلطوية بكل معانيها وسحقا للديمقراطية وأخواتها وتوابعها"،إنه كوجيطو التفكير النخبوي المتعفن المحتفي بالسلطوية. والفاعل السياسي يغلب منطق "بنى السلطوية" ويسهر على تعميقها وتثبيتها والحفاظ على الموروث السياسي السلطوي ،واستحضاره في محفل الممارسة السياسية وتغذيته بما يكفل تسيده في ميدان السياسة ،حيث المؤسسات السياسية السيئة والهشة تجر النخب إلى ممارسة السياسة دون فضيلة أو حتى حد أدنى من الأخلاق، فيكون جسم السياسة عبارة عن جسد عضال يفقد مناعته وتنقض عليه كل الأمراض.والنخبة بحكم استمرائها للخضوع تقوم بدور مساعد في استعباد الرعية وتجريدها من إرادتها وإخضاعها لماكينات السلطوية . وبين استئساد نية الاحتفاء بالسلطوية والإطاحة بالديمقراطية، يرتسم تشكيل من العاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وينحصر الأمل وتنهم علينا حالات الحصرة والتحصر وتنمحي معها الماهية السياسية للمواطن الذي يغترب في وطنه ويفقد مواطنيته وإنسانيته ويدفع ضريبة الاحتفاء بالسلطوية المقيتة. فلا يمكن للديمقراطية أن تستقيم في ظل وجود هذه "النخب المنقادة" التي ارتضت لنفسها الانحناء للممارسة السلطوية والاشتغال تحت وطأة التعليمات والأوامر واختيار هذه "العبودية الطوعية" بحسب تعبير "لابويسي"،والانسياق وراء ملهاة نعم السلطة والتفريط في حريتها وتقديم أعناقها بنفسها للقطع ابتغاء مرضاة السلطة، في سبيل نيل عطائها وسخائها الذي قد تطوله أو لا تطوله،فكثيرا ما لفظت السلطوية مريديها وأخرجتهم من دوائرها. فالنخبة القائمة والموجودة ترزح صاغرة أمام نير السلطوية وتزدري الديمقراطية وترتمي في حضن الفساد وتحصنه وتحرسه ،وتنتظر المكافأة والتعويض بمختلف أشكاله بعدما استنفذت وفقدت كنهها وسخرت نفسها وجهدها في خدمة وحراسة السلطوية،إنها "النخبة المذنبة" في حق الوطن والمواطن.