كيوسك السبت | مثقفون ورجال قانون وأجانب قاطعوا الإحصاء العام للسكان والسكنى    نواب أوروبيون يعبرون عن امتعاضهم من قرار محكمة العدل الأوروبية    "ميتا" تعلن عن إنشاء نموذج ذكاء اصطناعي جديد    طقس السبت ممطر في بعض المناطق    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم    المغرب يعتبر نفسه غير معني بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري        إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    أساتذة كليات الطب: تقليص مدة التكوين لا يبرر المقاطعة و الطلبة مدعوون لمراجعة موقفهم    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في نهضتين عربيتين
نشر في بيان اليوم يوم 27 - 06 - 2010

يوزع العرب تاريخهم السياسي الحديث على مراحل تفصل بين نهضتين، جرت أولاهما في مطالع القرن التاسع عشر وانتهت بعد منتصفه بقليل، وثانيتهما في منتصف القرن العشرين وانتهت في أوائل الثلث الأخير منه. في هذا النوع من التحقيب، تكون النهضة الأولى، التي قادها محمد علي وابنه إبراهيم باشا، قد عاشت قرابة نصف قرن، بينما عاشت الثانية، التي حملت اسم جمال عبد الناصر وارتبطت به، حوالى عقدين ونيف. إلى هذا، شهد تاريخ العرب الحديث نهضة فكرية، سبقت النهضتين السياسيتين وامتدت من الثلث الأول من القرن التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين، ركزت على تعريف العرب بالفكر الأوروبي الحديث، وخاصة منه ما اعتبره اليسار «الفكر البرجوازي»، ثم تواصلت في طور جديد عرفه الثلث الأول من هذا القرن وامتد حتى الربع الثالث منه، عبر عن نفسه في مدرسة فكرية/ أيديولوجية غلب عليها الطابع القومي والاشتراكي، فشل حاملها السياسي من دول وأحزاب قومية واشتراكية في تحقيق وعوده حول تغيير الأمر الوطني والقومي القائم، مما أدى إلى استعادة أسئلة ومسائل النهضة الأولى، التي تمحورت أساسا حول ما يجب تداركه على صعيد الفكر من قضايا كالمواطنة وحقوق الإنسان والدستور والقانون وتنظيمات المجتمع والدولة، ليتاح لنا اللحاق بأوروبا على صعيد الواقع. لا حاجة إلى القول إن محاولتي النهضة السياسيتين بدأتا كلتاهما في مصر، وأن النهضتين الفكريتين انطلقتا أساسا من لبنان، ثم انتشرتا إلى مصر وبلاد الشام، وترتب عليهما تأسيس أحزاب وتيارات سياسية اعتبرت أدوات جديدة وفاعلة للعمل العام، المحلي/ الوطني، والعربي/ القومي.
***
عرف التاريخ الأوروبي فترة مديدة اتسمت بنهضة سياسية تلت نهضة فكرية/ معرفية دامت قروناً عديدة، شقت لها الطريق أو/ وتزامنت معها في بعض مراحلها. حققت النهضتان، وخاصة الفكرية منهما، انقلاباً نوعياً في وعي الواقع وإقامة شروط تغييره، بلغ ذروته في الثورة الفرنسية، التي قيل بحق إنها كانت من صنع روسو ومونتسكيو وهوبز ولوك، وأنها » الطور الثاني، الذي تحقق في الواقع، من ثورة جرت في ميدان الفكر « (هيجل). أما في تاريخنا الحديث، فقد قامت على الدوام هوة بين واقع السياسة القائم وفكر النهضة، وبين بنية وطابع الواقع وبنية وهوية هذا الفكر. وبينما تعين الواقع السياسي بنظام تسلطي وفردي في كلتا حالتي النهضة السياسية، طالب الفكر ب وتركز على تقصي وتلمس سبل تحقيق الحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطن، ودمقرطة في الدولة والمجتمع. بهذا الافتراق بين الطابع السياسي لدولة تنشد التحديث وتقوم بتحقيقه، وهو سلطاني/ دولوي، وبين فكر النهضة، الذي قدم بديلا يناقض هذا الطابع، وربط التحديث بسلطة بديلة، وقع احتجاز مضاعف ومتبادل، فلا النخب المثقفة نجحت في إقناع النخبة الحاكمة بقبول التغيير المنشود، ولا هذه قبلت رهان التحديث المفتوح، المجتمعي والديموقراطي المنطلق والمآل، الذي قدمته هذه النخب، أو منحتها حرية الوصول إلى الشعب، خوفا من أن تحدث أفكارها تحولاً في وعيه يجعله حامل مشروع التغيير، على غرار ما وقع خلال التجربة الأوروبية، حيث مكنت الحرية الشعب من لعب دور حاسم في الشأن العام، خاصة إبان الثورة الفرنسية، التي اعتبرت نموذجاً تظاهر فيه عمق التغيير المطلوب من جهة، وفعل الفكر الملموس والحاسم من جهة أخرى.
أعتقد أن محاولة النهضة الأولى فشلت بسبب التناقض بين طابع الدولة ومسعى التحديث، الذي حاولت أن تنفرد بحمله وتجعله مقتصراً عليها بالأساس، فجاء تحديثاً ناقصاً، سلطوياً واستبدادياً، وقاد إلى نتائج احتجزت وأحبطت التحديث كمشروع شامل يطاول الدولة والسلطة والمجتمع، أهمها سقوط مصر مركز ومنطلق مشروع التحديث السلطوي تحت الاستعمار، الذي مكن نخبتها الحاكمة من إعادة إنتاج نفسها في إطاره وتحت حمايته. وكانت تجاربها وصراعاتها الأولى ضده قد أظهرت عجزها عن مواجهته أو تجاوزه، وأقنعتها أن مصيرها يرتبط بتجديد سلطانها بالتعاون معه، وأن تحديث المجتمع والدولة في حاضنة النهضة الفكرية سيفضي إلى تقويض سيطرتها. باختبارها التحديث من فوق، السلطوي والجزئي، وجدت حركة النهضة نفسها في مواجهة تحد فشلت عموما في مواجهته، أجبرها على التحول من حركة فكرية/ معرفية مثلها مثقفون إلى حركة سياسية ميدانية ارتبط مصيرها بقدرتها على تحديث وعي الشعب وتعبئته من أجل نضال وطني/ اجتماعي ينخرط فيه المواطنون، يتولى القيام بالانقلاب السياسي المنشود، القادر على كسر وتخطي تحالف النخبة الحاكمة مع القوى الخارجية، التي كانت قد تحولت في هذه الأثناء إلى احتلال استعماري داخلي.
كيف واجه الاحتلال ممكنات النهضة والتحديث الفكري؟. سبقت الإشارة إلى أنه تبنى تحديثاً بديلاً موضوعه وأداته السلطة وطبقات وقوى اجتماعية وفكرية حاملة لها، هدفه إعادة إنتاج النخبة الحاكمة في حاضنته ولخدمته، بينما عمل على ربط النخب المالكة بالسلطة. بذلك، استحال حدوث توافقات تاريخية بين النخب المختلفة خارج إطاره وضده، كما حدث في اليابان خلال الفترة ذاتها تقريباً من نهاية القرن التاسع عشر. ساعد التحديث السلطوي الاحتلال على أن يمسك من فوق، من مستوى الدولة والسلطة، بالشأن السياسي العام، ومكنه من تغيير وظيفة النخبة الحاكمة، التي حاولت بالأمس القريب في عهد محمد علي وإبراهيم باشا تحقيق مشروع يتجاوز حدود مصر إلى مجال أوسع يشاركها اللغة والدين والتاريخ والهوية، يمكن لاتحاده معها أو خضوعه لها أن يحدث انقلاباً في علاقات القوى الدولية وموازين القوى داخل الإقليم العربي، فصارت من الآن فصاعداً أداة حجبت أية نهضة، ووظفت قدراتها لمنع بلدها من تحديث نفسه في سياق وطني/شعبي/يعادي الهيمنة والسيطرة الخارجيتين، وينتشر منه إلى بقية البلدان العربية. هذا التبدل، الذي قلب دور النخبة الحاكمة رأسا على عقب، تطلب تحولاً هيكلياً في بنية النخب السياسية، وتعزيز وتوسيع النخب المالكة، التي كانت تنتج من فوق، وصارت الآن قاعدة السلطة وحاملها، وصار بوسعها حفظ الاستقرار الداخلي وإدارة مصر بالتعاون مع النخب الحاكمة، خدمة لبريطانيا، التي كان نائبها في مصر، اللورد كرومر، قد أجاب رداً على سؤال: كيف ستحكم مصر، بالقول: سأحكم من يحكمون مصر.
قبل الاحتلال، كانت النخبة الحاكمة منخرطة في مشروع نهضة اقتصادية وعسكرية وسياسية وعلمية، فغدا من الضروري عكس دورها، لتلعب دوراً يفرمل هذه النهضة ويحول دون وصولها إلى المجتمع، ويستبدلها بتحديث تابع يزيد فارق التقدم بين السلطة وبين مجتمعها، ويتيح لها القبض بيد قوية على بلدها، وتقويض جهود النخب المثقفة لوضع فكرها في خدمة واقع سياسي من نمط مختلف، يحمله الشعب عامة والطبقة الوسطى خاصة. بذلك، انقلبت أسرة محمد علي على مؤسسها، وتحولت من قوة تحديث لمصر وتوحيد للعرب إلى قوة محافظة ورجعية، وطدت دور ومكانة طبقة الملاك العقاريين، الرجعية أساساً والمعادية للتحديث العام، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتفت بحكم مصر، التي فقدت وظيفتها العربية أو مارستها بطريقة ناقصة ومشوهة، مثلما حدث قبل الحرب العالمية الأولى، خلال الحقبة التي تم فيها الاتفاق على تقسيم المشرق العربي بين فرنسا وإنكلترا، وإعطاء فلسطين للصهاينة، ثم إبان ما سمي حرب فلسطين عام 1948، حيث بلغ هذا الدور ذروته. بانقلاب النخبة الحاكمة على مشروعها الأصلي، آل التحديث من مشروع تغييري متكامل إلى سلسلة تدابير وإجراءات جزئية ومتفرقة أجهضته وطوت صفحته. ولعل هذه المفارقة تظهر بأكثر صورها وضوحاً من خلال بناء دار الأوبرا، التي أنفقت عليها مبالغ طائلة من أموال الديون الأجنبية، وأقيمت لتقديم عرض موسيقي معين (أوبرا عايده للموسيقي الإيطالي فردي) ارتبط بمناسبة معينة (افتتاح قناة السويس)، بينما كانت نسبة سكان بيوت الطين والأميين تقارب الخمسة و90% من شعب مصر!.
ساعد انقلاب النخبة المصرية الحاكمة على دورها ومشروعها الاستعماريْن البريطاني والفرنسي على تشطير المنطقة العربية وتقسيمها ورسم حدود داخلية ومصطنعة فيها، والتهامها قطعة بعد أخرى، بينما كان تحديث السلطة والطبقة المالكة يغرق مصر في حال شقها إلى عالمين: عالم نخب مالكة وحاكمة يرفل في النعيم، ويتمتع بحماية القوات البريطانية المنتشرة في أرض الكنانة، وآخر يقاسي الأمرّين، يشمل الشعب، وخاصة منه الفلاحون والعمال ومعظم شرائح لفئات الوسطى.
ليس من قبيل المصادفة أن تكون محاولة النهضة السياسية الثانية، التي بدأت في مصر مع ثورة عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، قد بدأت بإزاحة النخبتين المصريتين الحاكمة ثم المالكة، واستعادت مكونات جوهرية من مشروع محمد علي السياسي، الداخلي والعربي، مع الأخذ بمطالب عبرت عنها نقاط برنامج الثورة الست، وخاصة ما اتصل منها ببناء الديموقراطية السليمة، والرأسمالية الوطنية، والجيش الوطني القوي، ومراعاة فارق الزمان واختلاف الأحوال، والاهتمام ببعض المفردات الفكرية الجديدة كالعدالة والمساواة وسيادة القانون والمواطنة، التي دخلت أو أدخلت إلى المشروع السياسي الجديد، لتضفي طابعاً شعبياً عليه يساعد على جسر الهوة بين النخبة الحاكمة والمجتمع.
على الصعيد الفكري، ابتعدت النهضة الجديدة، بعد أعوام قليلة من قيام الثورة، عن مفردات رئيسة في مشروع النهضة الفكرية الأول، اعتبرتها برجوازية أو رأسمالية أو ليبرالية فات زمانها، رأت فيها أداة لإنتاج واقع سياسي مغاير للواقع الذي أرادت الثورة بناءه، يجدد تبعية المجتمعات والدول العربية، التي كانت قد نالت استقلالها، للنظام الرأسمالي. في الوقت نفسه، نشرت النهضة الثانية رؤية سياسية اختلفت عن رؤية النهضة الأولى بطابع أيديولوجي أخذ بالشق القومي والاشتراكي من مشروع التقدم الغربي، اعتقاداً منه بأنه يجبّ المشروع الأول، الذي اعتبر رأسمالي المآل برجوازي الحامل، ويلغي الحاجة إلى تحقيق ركائزه ومكوناته، باحتواء مفرداته الإيجابية في منظومتها وإدراجها في مستوى فكري أرفع يرقيها ويتيح تأسيس نسق سياسي جديد يتخطى الرأسمالية وينتمي إلى مرحلة تاريخية تالية لها. في مشروع النهضة الجديد، لم يكن هناك، في زعم أنصاره، حاجة إلى المواطنة وحقوق الإنسان، وفصل السيادة الشعبية عن السلطة الجديدة، لأنها لا تمثل فقط الجماعة الوطنية، بل هي هذه الجماعة ذاتها. لا حاجة أيضاً إلى فصل السلطات، لأن ذلك يشق الدولة إلى قطاعات متباينة الوظائف ويضعف وحدة الجماعة السياسية والمجتمعية. ليس من الضروري كذلك أن تكون الحرية رافعة النسق السياسي، فهو يحققها بوصفه حكم الضرورة والتعبير المشخص عن الحتمية التاريخية وقوانينها الموضوعية، المستقلة عن إرادة البشر، والقادرة على إلغائها في حالات كثيرة. أخيراً، لا حاجة إلى الديموقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب وللشعب، فهي متحققة حكماً في النظام الجديد، وإن كان طابعها الشعبي يجعلها هنا مختلفة عن ديموقراطية البرجوازية، حكم القلة المشوه والذاهب حتماً إلى الفوضى.
مع عجز فكر النهضة الأولى عن تحقيق منظومته في واقع السياسة، واستبعاده من مشروع النهضة الثانية، الفكري والسياسي، وقع أمران مهمان:
- لم تحقق القومية نفسها عندنا عبر تحقيق الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطن، كما فعلت قومية أوروبا، التي بلورت مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والمواطن وطبقتها وجعلتها ركيزتها وعلامتها الفارقة... بل قامت ببناء نسق سياسي معاد لها، لذلك حملت منذ ولادتها الأولى تشوها هيكليا فصلها عن منجزها وحاضنتها الطبيعية: الحرية الفردية والشخصية والمواطنة وتاليا النظام الديموقراطي، كما فصلها عن المجتمع المدني ومسائله، التي لولاها لما كان هناك شيء اسمه قومية أو أوروبا حديثة. ولدت الحركة القومية السياسية عندنا في حاضنة غير ديموقراطية، ثم معادية للديموقراطية، فوقعت في مشكلات ومعضلات هيكلية تكوينية حالت دون انبساطها وتفتحها، وقوضت فاعليتها وقيدت قدرتها على تحقيق أي تقدم في المجال العربي، وأجبرتها على إعادة إنتاج نفسها في حاضنة الدولة القطرية، التي بنت أمجادها على التعهد بالقضاء عليها في أول فرصة، ومباشرة بعد استيلائها على الحكم.
- مع تبني الاشتراكية، واندماج الفكر القومي بالفكرة الاشتراكية، برزت نظرية تجعل النهضة على مرحلتين، تحدث السلطة في أولاهما، فتحدث هي المجتمع في ثانيتهما. في هذا المنظور، قيل إن وعي التغيير سينقل إلى المجتمع من النخب المثقفة والسياسية، وإن النخبة الحاكمة ستطبق أفكار النهضة القومية/ الاشتراكية، التي ستفقدها طابعها كأقلية، وستحولها إلى طليعة يتوقف على تحديثها نجاح الرهان التحديثي، التقدمي، القومي/ الاشتراكي بأسره. هنا، كان فساد السلطة أو فشلها أو بقاؤها متأخرة وتسلطية يعني نهاية النهضة، وبداية أزمة تاريخية لا علاج لها غير تغيير يطاول النخب المثقفة والمالكة والحاكمة، وعلاقاتها بعضها مع بعض، يتم في إطار مشروع إنساني يختلف في طبيعته ومراميه عن مشروع التحديث القومي/ الاشتراكي. لا داعي للقول إن تحديث المجتمع والدولة انطلاقا من السلطة المحدثة قد انتهى إلى فشل أخذ تدريجا شكل انهيار شامل، بدأ بالنخبة الحاكمة، التي عجزت عن الخروج من حلقة مفرغة دائرتها الأولى «سلطة حديثة»، لكنها لم تحدّث شيئا غير طابعها الأمني وأجهزتها القمعية، ودائرتها الثانية «مجتمع حديث»، لكنه تفكك وتذرر وشحن بتناقضات حولته إلى عصب ما قبل مجتمعية، تتعايش بقوة سلطة لم يعد لديها ما تفعله غير إدامة ذاتها عبر انقسامات مجتمعها، وتردي أوضاعه العامة، وأجهزتها القهرية.
لم تتحول السلطة إلى قاطرة تجر وراءها مجتمعا تتولى تحديثه، بل صارت العائق الرئيس في وجه تقدمه ووحدته الداخلية والعربية، وفقدت ما يذكر بوعود ورهان النهضة، السياسية والفكرية، وانقلبت إلى ما كان ياسين الحافظ يسميه «تقليدية جديدة» و»تأخراكية»: نظام تقليدي ينتج التأخر باسم القومية والاشتراكية، تنافس مع «تأخرالية»: نظام تقليدي ينتج التأخر باسم الرأسمالية. ولم يعد لدى السلطة أي وعد تقدمه إلى المجتمع، بعد أن فقدت وظائفها التنموية والتحررية، واكتفت من السياسة بالحيلولة بين المواطن وبين وعي النسق السياسي السائد، وبينه وبين تغيير الواقع الذي يرزح تحت أعبائه. هنا أيضا، انقلب مشروع التحديث على احتجاز عملي للمجتمع، وأنتجت النخبة الحاكمة نفسها في إطار السلطة وبوسائلها، وتحول التقدم إلى محافظة ورجعية تقاوم التغيير، من أي نوع كان وعلى يد أي جهة جاء.
لئن كانت السلطة هي الحقل الذي شهد، بعد فشل النهضة السياسية الأولى، تبدلا هيكليا عميقا في بنيتها وأهدافها، اعتبر ضروريا لمنعها من إطلاق أو استئناف مشروع تحديثي يستنهض المجتمع ويخرجه من ركوده وزمنه التكراري، فإن فشل مشروع النهضة الثانية، الذي نعيش فيه، وقع على صعيدي الفكر والممارسة السياسية في آن معا، فكان فشله أكثر شمولا وحدة من فشل المشروع الأول، خاصة أنه تزامن مع تحولات هيكلية أصابت الرأسمالية والنظام الدولي، عبرت عنها ثورة جديدة هي الثورة العلمية التقنية وثورة المعلوماتية، التي عمقت كثيرا الهوة التي تفصلنا عن العالم، وضاعفت تأخرنا، فلم يعد سياسيا وفكريا وحسب، ولم يعد مقتصرا على العجز عن إنجاز ثورة صناعية، وإنما صار تكنولوجيا ومعلوماتيا أيضا، بحيث يصح القول: إننا خرجنا صفر اليدين تقريبا من العصر السابق، ونخرج اليوم من عصرنا، دون أن نتمكن من العودة إلى الزمن الذي كنا فيه قبله، مع انه يأخذنا إلى حال من الانحطاط والتدهور لا تتوقف آليات عمل النظام الدولي عن تفعيلها وتجديدها، فهي قيد يغل أيدينا ويمنعنا من إقامة أي شرط من شروط تقدمنا، بينما تنتج تشابكاته أنماطا جديدة ومتنوعة من التأخر لا قبل لنا بالتحرر منها أو بتخفيف غلوائها، إن بقينا على حالنا الراهن.
في الفشل الأول، كان اندماج السلطة في المشروع الاستعماري شرط تحولها إلى أداة محدثة للنهب والإخضاع «الوطني»، وشرط إعادة إنتاجها في إطار هذا المشروع. أما اليوم، فإن الفشل يقود إلى تهتك واهتراء جسد الأمة ذاته، كي لا يحمل من اليوم فصاعدا أو في أي يوم مشروع تحرر أو نهضة جديد، وحتى تغرق نخبها في العجز عن بلورة رؤية أو مصالح مشتركة، متقاربة أو متشابهة، وتلمس سبل يستطيع المجتمع وقف تدهوره وتفتته بمعونتها، وتحويل السلطة من أداة حكم بيد قلة تمسك بخناق الدولة وتمنعها من ممارسة وظائفها، إلى سلطة دولة هي تعبير في مستوى النسق السياسي عن مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، حيث الديموقراطية حقيقة هذا النسق، والخضوع للقانون كسيد وحيد في الدولة حقيقة الديموقراطية. إذا ما تابعنا فعل هذا الفشل في واقعنا، لوجدناه وراء أخطار ثلاثة هي:
- خطر التفكك القائم والمتنامي بسرعة بين الدول والبلدان العربية، التي تتحول أكثر فأكثر إلى بلدان متعادية/ متصارعة/ متحاربة، تفتح نخبها الحاكمة والسياسية المجال واسعا أمام القوى الإقليمية والدولية، القريبة منها والبعيدة، وتلتحق بتشكيلات دولية وإقليمية لا سلطة لها عليها ولا قرار لها فيها، مع أن العرب هم الذين سيدفعون الأثمان الفادحة لانتمائها إليها.
- خطر التفكك والعداء الداخلي القائم بين جميع نظم العرب وبين مجتمعاتها، وهو خطر يزداد تفاقما من يوم لآخر، حتى ليمكن تعريف زمننا الحالي بأنه زمن انعدام شرعية النظم العربية بسبب تناقض سياساتها وخياراتها ومصالحها مع خيارات ومصالح مجتمعاتها وشعوبها.
- أخيرا، وهذا هو الخطر الأدهى والأكثر إثارة للخوف: خطر تفكك المجتمعات ذاتها وذهابها إلى حالة ما قبل مجتمعية تصير فيها ائتلافا يضم أقليات وزمر وفرق متناحرة، تستند السلطة الحديثة على بعضها، فهي سلطة تكوينات ما قبل دولوية/ ما قبل مجتمعية، تلغي الدولة والمجتمع والشأن العام في آن معا.
بعد فشل النهضة الفكرية الثانية والسياسية الثانية، ظهر أنها لم تحقق أو تتضمن مكونات النهضة الأولى، بل أبطلتها بكل بساطة، وأن هذا سبب رئيس في فشلها. آية ذلك أن القومية لا تنجح دون المواطنة وحقوق الإنسان، وأنها ليست نقيضهما بل نتيجة من نتائج تحققهما في حاضنة الأمة، وأن الاشتراكية تنجح بالديموقراطية والمواطن الحر والمنتج والمجتمع المدني، وأن الدولة تنحط إلى مجرد سلطة، إذا لم تعبر عن هذا المجتمع، وأن السلطة، التي تضع نفسها فوق أو خارج القانون، لا تكون سلطة دولة، بل تسلط عصبوي. لقد أدى القفز عن المرحلة الديموقراطية من التطور إلى كسر عنق ما سمي «الثورة القومية/ الاشتراكية»، وغدا جليا أن النهضة المدنية لا تتوقعن عبر تضمينها في غيرها، وأن إنضاجها وتحقيقها هما مرحلة تاريخية كاملة يتوقف على إنجازها تأسيس الطور التاريخي التالي، قوميا كان أم اشتراكيا أم إنسانيا، فإن تم اختصارها وتقليصها أو قطعها، كان الفشل من نصيب من يقفز من فوقها.
لو كان المواطن العربي حرا ومجتمعه مدنيا ونظامه السياسي تمثيليا وديموقراطيا، لما فشلت النهضة السياسية الأولى ثم الثانية، ولتكفل نجاح الأولى بجعل الثانية أيسر منالا وأكثر سهولة. أما القول: إن القومية والاشتراكية هما طور تاريخي أرقى من المرحلة البرجوازية/ المدنية، فلا بد من تجاوزها بالسرعة الممكنة من أجل الشروع في تحقيقهما، فهو خطأ من ألفه إلى يائه، وقد تسبب في كارثة الإخفاق المتراكم، التي يواجهها العرب وحاولت تلمس بعض علاماتها ونتائجها.
والآن، إلى السؤال التقليدي : ما العمل؟. بادئ ذي بدء، لا مفر من استعادة مسائل وأسئلة النهضة الفكرية الأولى، دون التخلي عن مسائل وأسئلة النهضة الثانية، مع مراعاة أن عصرنا الحالي يجعل تحقيقها رهنا بقدرتنا على تدقيقها، ومواكبة ما فيه من جديد وثوري، وإلا استحال توفر الشروط اللازمة لتلازم وتراكب مهام النهضتين الفكريتين وترجمتهما السياسية، وكان من المحال انزلاقنا التدريجي إلى وضع يوقعن متطلبات النهضة الأولى، دون أن يتخلى عن الثانية، القومية/ الاشتراكية، مع أنها لم تعد مطروحة علينا اليوم.
يقف العرب أمام مهمة مزدوجة: تحقيق نهضة فكرية في واقعهم هي ثورته الأولى، من أجل إنجاز تغيير سياسي شامل هو ثورته الثانية. هل نخبنا الثقافية مستعدة لتلمس الحقيقة وقولها بصدق وتجرد ودون رياء أو نفاق أو أدلجة، لأنها الحقيقة وليس لأنها تخدم مصالح هذه الجهة أو تلك؟. وهي مستعدة لربط فكرها بالمجتمع، من أجل تعميق معرفتها بالواقع ورفع وعيه إلى مستوى عصره وحاجاته؟. هذا هو الرهان، إنه أصعب الرهانات التي واجهتها نخبنا الثقافية في أي وقت. إنه، ربما لأول مرة في تاريخنا الحديث، رهان تجاوز الانقلاب السياسي إلى التحرر الإنساني، والإقلاع عن رؤية الإنسان بدلالة السياسة والسلطة، ورؤية كل شيء بدلالته!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.