إن النقاش العمومي بين النخب السياسية والفكرية من المفروض أن يتوجه نحو نمط المجتمع الذي يريده الشعب، ومنوال التحديث والتطوير والتنمية الذي يلائم المرحلة، ويدمج من خلالها الفئات والطبقات المحرومة والمناطق المهملة في الدورة الاقتصادية، ويحقق الاعتراف المتبادل والمساواة بين الفئات والشرائح والأجيال، ويعيد إقرار المساواة والعدالة الاجتماعية، ويوزع عائد الخيرات العمومية والثروات بشكل عادل ومتكافئ. إن ما ينتظر الطبقة السياسية بعد مسلسل الإصلاحات والتغييرات الثورية الجارية على امتداد الوطن العربي هو صياغة عقد اجتماعي سياسي شرعي وعصري للدولة الديمقراطية والمدنية، يقطع مع نموذج السلطوية الشمولية وهيمنة القلة، ويقر الحريات ويحترم الحرمات، ويضمن حقوق الأقليات والفئات، ويغير نظام توزيع الخيرات والمنافع، ويفتح نقاشا وطنيا حول مشاكل الأمن والتفكك الأسري.
منطق الخطاب السياسي إن من أوليات الخطاب السياسي الديمقراطي الإصلاحي الناضج انبناؤه على القيم الجامعة وتطوير المشترك الإنساني والديمقراطي الموحد لجدول الأعمال المبني على المطالب ذات الأولوية، والمتمثلة في دمقرطة الدولة والمجتمع، بحيث لا يجب أن ينزلق إلى تناقضات ثانوية تجعل الفكر اليومي يشتمل على تبادل الشتائم والتشويهات، وهتك الحرمات والتعرض للحياة الشخصية للناس بالتحريض والمغالطة، ولا يجنح نحو الخطية والتمركز على الذات وادعاء النقاء وامتلاك الحقيقة المطلقة، ولا يسقط في الانتهازية التسلطية والبرغماتية الفجة، والتعويل على الإقصاء والاتهام ومنطق القوة الفيزيائية المباشرة والاستعراضية، وإنما هو فرصة لتجسير الهوة بين الأنا والآخر، وتقريب المسافات بين الفرقاء السياسيين والخصوم الفكريين المتزاحمين، وتدبير شؤون الناس باللين والمحاورة في كنف السلم الأهلي، والتعايش والتقليل من دائرة الأعداء وكسب المزيد من الأصدقاء والحلفاء، والارتقاء باللغة المستعملة نحو الدرجة المقبولة من الأخلاق والتربية والعقلانية، ونبذ العنف اللفظي وأساليب الحرب الإيديولوجية الباردة المستعرة. إن السياسة ليست فقط حلبة صراع ومجالا للتطاحن وتبادل الكراهية، وإنما هي فرصة للتحاور والصراع المدني حول المشاريع السياسية والمجتمعية والبرامج والرؤى المتخالفة، وهي أيضا موطن للتلاقي وتجسير الصداقات وبناء التحالفات والتشاورات، وفضاء للتعارف والتدافع والتوافق. كما لا يجب أن تتحكم في العملية السياسية، في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، بنية عقائدية دغمائية راسخة، ولا تخضع لخلفية إيديولوجية ثابتة، وإنما من المفروض أن تظل مجالا عموميا مفتوحا أمام كل القوى الحية والتيارات الفكرية والسياسية المدنية بمنهجية الجدل المتواصل، تسكنه وتؤسس له قيم ومعايير مختلفة وجامعة تعقلن الصراع السياسي حول موارد السلطة والثروة وتمأسسه حتى تجنب الاجتماع السياسي والمدني للجماعة الوطنية أزمات وتراجعات وانشقاقات، وتؤسس لتفاهمات وتوازنات وتعاقدات كبرى حول المشترك السياسي الديمقراطي الذي رهانه في المرحلة تفكيك بنى الاستبداد وإقرار العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتنمية الشاملة. إن عقدة المشكل السياسي في المرحلة هي جعل الدولة تُكوّن الإرادة العامة، والمواطنة يجب أن تأتي إلى التاريخ وتندرج فيه بواسطة الشرعية السياسية والإنجاز التراكمي لبرنامج الإصلاح والتغيير الشامل للدولة والمجتمع معا. وهذا يلقي بثقل المسؤولية على النخبة التي من واجبها في المرحلة أن تبحث عن سبل صناعة الخير المشترك، وتجعل الحق ينتصر على الزيف، والعقل على النزوة، وتوفر الفرصة الكاملة لتساهم في اتخاذ القرارات الحاسمة والمناسبة بشأن المستقبل. تقتضي المرحلة القادمة تهذيب القاموس السياسي المتداول للنخبة القائدة، والابتعاد عن لهجة التهديد والوعيد، والكف عن تسخين الأجواء وتجييش الحشود، والاقتصار على التعقل والحلم والتهدئة، والتوجه نحو تطبيق البرامج والوفاء بالتعهدات والشروع في العمل وتحمّل المسؤولية على أحسن وجه، والتركيز على الوحدة الوطنية والتعويل على الكفاءات وذوي الخبرة وأهل الدراية. بين قيم الغلبة والغنيمة إنه من المفيد تفادي النظر إلى اللعبة السياسية كغنيمة، نتيجة غلبة منطق القوى والغرائز والجاه. ومن المغالطة تقييم الصراع السياسي بين القوى المطالبة بالإصلاح، والتي لها المصلحة فيه، والقوى المناهضة والمعاكسة للتغيير، والتي من مصلحتها الإبقاء على جمود الأوضاع والمحافظة على استقرارها، على أنه صراع ظرفي عابر، وليس بنيويا متحكما. وهذا ما يجعلنا نراجع أسلوب الصراع السياسي ومنطقه وآلياته بالنظر إليه وتكييفه من زاوية التنافس المركانتيلي والتجاري في السوق الاقتصادي، والحقل الذي يتم فيه تبادل المنافع بين عارضي السلع الرمزية (السياسية والإيديولوجية) وطالبيها، وذلك لكون الفعل السياسي الحصيف والعقلاني يقوم على الخدمة العمومية للناس وفداء الوطن، والتضحية بالمصلحة النفعية والمكيافيلية الشخصية من أجل توطيد بنيات المواطنة كانتماء مبني على استدعاء قيم المصلحة العامة. بينما في الواقع السياسي المتداعي، العملة المتداولة في السوق السياسي والإيديولوجي تصعد قيمتها وتهبط بارتفاع حرارة الاحتكار والجشع وحب الذات والحيلة والمكر والنرجسية، والمغالاة في استدعاء منطق القبيلة والغنيمة لبناء المجال السياسي وتأثيث الفضاء العمومي. إن المطلوب اليوم هو القيام بواجب مضاعف، وذلك بالمحافظة على قيم التغيير والإصلاح، والعمل على تصحيح مساراتها من أجل القطع مع الماضي التسلطي الشمولي، من جهة، وحماية العملية الديمقراطية من الانزياح والسهر على الانتقال الديمقراطي الناجز والتام، من جهة أخرى، وذلك عبر اقتسام السلطة بطريقة سلمية، واحترام نتائج الانتخابات الشفافة، وأيضا عبر اقتسام الثروة. إن العقلية الديمقراطية الحقيقية تقتضي أن يحترم المنافس وأن يعامل بندية، وأن تجد المعارضة (المؤسساتية الرسمية وغير المؤسساتية الجذرية) الفضاءات الكافية للتعبير عن وجهات نظرها، وأن تعطى للنظام الديمقراطي المدني فرصة للتشكل وممارسة الحكم، وأن تكون العلاقة بينهما محكومة بالتوازن والرقابة والإصغاء المتبادل، وذلك لأن الجميع يركبون نفس السفينة ويتقاسمون نفس المشاغل ويواجهون نفس التحديات وتزول بينهم الفوارق والاختلافات، خاصة في ظل وجود تيار مدني وسطي معتدل داخل دائرة تيارات الإسلام السياسي المشارك في العملية الديمقراطية، ونمو تيار وطني ليبرالي ويساري يجذر نفسه في الجانب النير من التراث العربي الإسلامي. الحرية نبع أبدي إن الديمقراطية أكبر من مجرد فضاء للاحتفاء بالاختلاف ورعاية التعدد والتنوع في إطار الوطنية الجامعة، فهي قيم تكرس ذلك الانتماء إلى المواطنة والتعدد والاختلاف وضمان التنوع، بل أكثر من ذلك، فهي تمضي في اتجاه بناء نظام سياسي يقوم على الفصل بين السلط، وإقرار الاعتماد المتبادل بين الدولة والمجتمع، يتشكل نسيجه على أساس من الثقة المتبادلة والالتزامات الأخلاقية والتعاقدية المشتركة.. هكذا يصنع تاريخ التحولات والانتقالات الديمقراطية الفاصلة في تاريخ الأمم، وهكذا نطقت خبرة الديمقراطيات العريقة في الدول التي حسمت مع الحكم الطغياني التسلطي المكرس لشخصنة الدولة لا مأسستها، سواء تجلى ذلك في حكم الفرد أو القلة أو الطبقة أو الدين. لكن كيف يجمع رجل السياسة اليوم وغدا بين أخلاق المسؤولية ونجاعة الخبراء، وبين شجاعة المحاربين المناضلين ووظيفية الإداريين، وبين عضوية المثقفين وحذر القانونيين؟ وهل نستطيع القول إن الفضاء العمومي ليس له أمل في الاتساع والبقاء إلا من خلال السرديات التاريخية أو المثل المغرقة في التجريد والرومانسية؟ ومتى يكف الاختلاف عن أن يكون خلافا، ويتحول التعدد إلى تصميم على مواجهة الظلم وعزم على البناء؟ عضو المجلس الوطني للعدالة والتنمية وعضو اللجنة السياسية