هل يتم تمثل الماضي، لأنه جزء خاص من معرفتنا بالتاريخ، أم أن ما يمنحه هذا التعلم، يحرض على امتلاك مقدرات جديدة وواعية بالحاضر، وفقا لما يثيره إدراكنا بداهة من خيارات وبدائل راهنية تستقرئ الوضعيات والدوافع والمحطات القادمة. هو تماما ما يستحضره مفهوم "فلسفة التاريخ"، كفكر وحاضنة للمعنى وقيم العيش. أعترف مسبقا، أني وجدت صعوبة فائقة في فهم السياقات العامة التي تقوم عليها فجوات "الماضي". وسبب ذلك، يرجع إلى التصنيفات المعيبة التي أضحى العديد ممن ينسبون خطأ للسوسيولوجيا النقدية، كفضاء استدلالي دقيق يفرض آليات دقيقة للإدراك المعرفي والاتزان المنطقي، يغطون بها تهيجاتهم وأسئلتهم حول فضاء الماضي، وتوازياته في الصيرورة ومنطق التداعي وفجوات التحول وجاذبيته، وتقسيماته وانتظاراته الآنية والمستقبلية.. يستدعي هذا الطرح، ما يعكسه المؤمنون بنظرية تدعيم "هيستريا الماضي"، وتأبين معتنقيه، وتحنيطهم، ومن ثمة إبعادهم عن الحياة الدنيا. هؤلاء يرون أن الاقتداء بالماضي، هو موت زؤام ومنطق أعرج، لا يماثل العقل المفكر، ولا يستدعي نقد الآفاق والمعيش اليومي والسرعة الزمنية المتدفقة. يشبهون "القدوة" على أنها تتأسس على مبدا امتلاء الذات وتحجيم الجماعة والاستبراء من قيم المكتسبات، لا لشيء إلا لأنها منحوتة من جدار الماضي، ومبثوثة بثقافة مسلكية تقليدية، دون ماكياج أو تصريفات حديثة. لكن الخطر السافر في هذا التوجه، أن أغلبهم يقتحمون هذه النقدية السوسيولوجية من باب الماضي الفلسفي الغربي، يؤولونه بمزاجية غريبة، ويجتزئون القراءة من منطق محصور وغير منصف. وأكثر ما يستهلك في تينك الرؤية، أن يستعسر أحدهم نظر المتصوفة الجدد، واجتهاداتهم في مضمار تفكيك جدلية الزمن والإنسان، فلا يبرؤون ذلك، إلا بما يحقر طريقتهم في التعبير عن دلائلهم وأصواتهم، باعتبارهم "يخضعون للآباء" وتيمنطقون "بالفردية والهيمنة على الجماهير"؟. لا أحد يمكنه استهداف الماضي وتخوينه، ولا يمكن تحييد ثقافته وذاكرته، دون استنتاج مدارية التجريب فيه واستيعابه وإعادة التحقق فيه. إنه ماض متجدد وأثر على عين في الحاضر المنظور والغد المستبصر. كما أن هذا الماضي، تاريخ مواكب لما ننظر إليه باسم القابلية على التحول واسترداد السيطرة على الزمان. فكيف يمكن فهم "تنميط الماضي" خارج هذه العملية القرائية المجحفة ؟ وما الذي يجعل من قوارب الماضي، مهاجر داعرة للهروب والانفكاك والتواري؟ أهو الخوف من زمنيته القيمية، ذات المنسوج الحضاري والتراثي المتمكن من الجذور والإحفازات الملهمة؟ أم التكشف على ثقافات مغايرة، تروم إلى انتهاج سبل الالتفاف والتحجج بالعصرنة والتجديف خارج التيار؟. بين هذا وذاك، تسكن الأمراض النفسية في ذوات بعض الناسجين على أخيلة آخر الأسئلة المقدمة آنفا. لكنهم، هذه المرة، يحاولون إسكات تبعات الماضي، حتى في أجلى استحقاقاته القطعية. فيسمون من يؤانس الماضي ويلتفت إليه، مصابون باضطرابات القلق العصابي (الهيستيريا). وما أقساه من نعث، يخالف أبسط قياسات العقل ومنطقه. وعلى حد علمي، فالهيستيريا ليست أفقا للتفكير، كما هو الحال بالنسبة، لتقدير قيمة وأخلاق الماضي، بل ما أبعدها أن تكون قيمة مثالية للأخلاق والعفة والتشبث بالقدوة. وكأني بمحاربي الماضي، يفاقمون نوع الصراع الذي يفصلونه بالملمتر على مقاس نظرية فرويد، بل إنهم يقعرون جزءا من مسلماته الأساسية الأصيلة، ليوهمونا أنهم يحاولون تمثل مشمولات ذلك الصراع، وتأهيله ليصير قوة دافعة في بناءات الشخصية الفرويدية داخل شبكة ثلاثية (الهوى والأنا والأنا العليا)، ما يسهم في تمزيق الشعرة الرابطة بين الواقع والمجتمع، أو بين الجنس والعدوان. إنهم لا يكادون يقرأون هنا، غير الوازع الشعوري في مقاربة عناصر الاستيهام والتذكر وإرواء الذاكرة، أما ما عدا ذلك، فوهم والتباس و"هيستيريا"؟. (*) إعلامي وأكاديمي مغربي