يستلهم هذا العنوان معنى عميقا ورد في نص جميل لإلياس خوري: رسالة إلى أصدقائي في المغرب (القدس العربي 11 شتنبر)، بعد فاجعة زلزال الحوز، حيث يقول في مطلعه: "وسط هذا الخراب الرهيب الذي ضرب مناطق عزيزة في المغرب ليلة السبت 9 / 9/ 2023 لا أملك الكلمات، لا لأنها تنقصني بل لأنني أنا الذي ينقصها". نحن أيضا نقول أمام ما يحدث في غزة من تدمير وتخريب وإبادة جماعية: "لا تنقصنا الكلمات بل نحن الذين ننقصها". فمشاهد القصف والتقتيل النسقي الجماعي، الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني حاليا، وتتعرض له غزة، يفضح الخدعة التي يتمسح بها المجتمع الدولي: فلا يمكن أن يكون هذا المخزون من العنف والتقتيل والتدمير، مجرد رد فعل على واقعة 7 أكتوبر، بل هي وحشية دفينة، خلية في حالة ترقب وتأهب وغير نائمة، متلهفة للانفلات من العقال. إنها كراهية لمقاومة الاحتلال، إبادة للوجود الفلسطيني، استئصال للقضية. إن ضرب غزة بهذه الوحشية، وأمر الساكنة بالإخلاء والتهجير، واستهداف المستشفى، يسقط عن الاحتلال الإسرائيلي قناع الضحية التي يتلذذ بتقمصها، فهو بذلك لم يقم برد فعل تجاه ما تعرض له من طرف حماس، بل أفصح عن فعل عدواني مقيت، يحمل فيه الشعب الفلسطيني مسؤولية الانتماء والوجود. إن الاحتلال لا يريد فقط القيام برد على عنف بعنف مضاد، لا يريد فقط الانتقام، بل لا يكتفي بقتل الفلسطينيين، بل يريد أن يوقف نبض الحياة، حيث عمد إلى حرمان الساكنة من الكهرباء والماء والغذاء، وهو يجهل "هذه العلاقة بين الأرض والنبض" كما قال إلياس خوري، إنه يجهل أن الأرض هي نبض الحياة، هي ما يجعل من كل شيء حيا، هي ما تجعل الموت شهادة حياة. يعلن الاحتلال الحرب على الشعب الفلسطيني، يقصف البنيات التحتية والمباني، وبما فيها المستشفيات، يتقصد المدنيين، ويقوم بتطهير عرقي، وبالتالي يقوم بكل ما يدخل ضمن جرائم الحرب، ويتجاوزها بكثير، بل إننا أمام جرائم ضد الإنسانية، تقتضي الإدانة. من بشاعة الخراب اللاإنساني الرهيب، ومن فظاعة الاستبداد الصهيوني تولد إرادة الحياة والمقاومة، وهذا ما يبرر جنون التوحّش الإسرائيلي المتعطش للقتل اللامشروط في غزة، فهو متأكد من أنه مسنود من طرف قوى الشر في العالم، ويعرف أن الجميع من يعيشون خارج الاحتلال قد طووا صفحة فلسطين، ولم يعودوا يعتبرونها قضيتهم، بل لم يعودوا ينعتونها بالقضية، لكن ما يستفز جنون التوحش والقتل المجاني، هو من يرون في المحتل عدوا، ومن يجعلون حياتهم غير قابلة لمساومة المحتل، وبالتالي من يعتبرون الموت الحقيقي هو واقع الاحتلال، والحياة الجديرة بالحياة هي المقاومة، واعتبار المحتل محتلا وليس جارا، عدوا وليس صديقا... إن ما يقع الآن يدين المجتمع الدولي، الذي يرى أن صمته ضد اللاإنسانية لا يمس إنسانيته، بهذا المعنى تتوسع دائرة "تفاهة الشر"، المفهوم الذي نحتته حنا آراندت لكي تصف لا فقط طبيعة الشر ومن يقومون بذلك، بل لكي تنعت المتعاونين والمتواطئين، فما يحدث داخل غزة ليس تافها، بل شر مرعب، ولكنه شر جذري، لأنه يدمر الشرط الإنساني، لكن التفاهة هي هذا الموقف اللامبرر الذي تتسربل به الدول في دعم هذا الشر الجذري. إنها تضع موضع شك كل المفاهيم التي تم إرساؤها في حاضرنا: الديمقراطية، العدالة، حقوق الإنسان... فالانتصار إلى تفاهة الشر، عوض محاصرة الشر، يعني توسيع دائرة الشر وتعميم اللجوء إليه، بل وتعميق تفاهته، وهذا ما يمكن أن تكون له تداعيات غير محسوبة العواقب... إن ما يحدث في غزة، فصل مرعب داخل رواية عالم يخلط الآن بشكل مقصود بين الضحية والجلاد، بين الظلم والعدالة، عالم يعرف تعددية صراعية للقيم. يبدو أننا لسنا في حاجة الآن إلى عالم موحد بشكل زائف، بل في حاجة إلى فكر يضعنا في صلب أزمة رواية العالم: أزمة العالم الذي لم يستطع بعد أن يكون عالما، وأزمة الإنسان الذي لم يعد قادرا على أن يكون إنسانا، وبالتالي أزمة الإنسانية التي فقدت إمكانية تجسيدها شكل إنسانية حقة. لذا فنحن في حاجة أكثر إلى خطاب الإدانة، في حاجة أكثر إلى التعبير عن إنسانيتنا، وعلينا أن نختار بين الإنسانية واللاإنسانية، فالانتصار للإنسانية هو ما يجعلنا ندين ما تتعرض له غزة كعقاب عام للشعب الفلسطيني ككل... وختاما وحده من يعيش في ظل الاحتلال، تسعفه الكلمات لكي يقول كما قال إلياس خوري: "أنا العربي الذي يعيش في المشرق وسط خراب مادي وروحي هائل، من مخيم عين الحلوة، إلى بيروت المدمرة، إلى دمشق المحطّمة، أنا الذي يعيش وسط حطام صنعه فشلنا، وأكده الاستبداد الذي سحقَنا". حقا غزة كم ننقص نحن الكلمات...