بشاعة الجريمة والدوس على قرينة البراءة لا أدري كيف هو شعور وزير العدل بعد أن أصدرت غرفة الجنايات الاستئنافية بالرباط حكمها برفع عقوبة متهم في ملف "فتاة تيفلت"، إلى 20 سنة ورفع عقوبة من معه إلى 10 سنوات لكل واحد منهما، مع الغرامة والتعويضات المدنية، فالوزير لم يعبر عن شعوره مثلما فعل فور صدور حكم غرفة الجنايات الابتدائية، حين قال معاليه إن الحكم الجنائي الابتدائي "صعقه" قالها وهو وزير للعدل وممثل للسلطة التنفيذية التي أوجب عليها الدستور أن توقر السلطة القضائية في إطار فصل السلط، ثم قامت القيامة ضد الحكم الجنائي الابتدائي وتحركت جحافل هواة الركوب على المآسي، وانبرى الباحثون عن "البوز القانوني" للاستدفاء بأضواء كاميرات الإعلام، وتحول الكل إلى مستشارين في المحكمة الأعلى درجة... أن يقدم أو يتهم ثلاثة شبان بهتك عرض طفلة تبلغ من العمر 12 سنة بالعنف، وينتج عن ذلك حمل الطفلة، فهذه جريمة بشعة وهمجية وبدائية ومقرفة ومقززة وفظيعة وهلم جرا من الأوصاف القبيحة والمستهجنة، لكن هل بشاعة الجرائم على مختلفها تبيح الدوس على قرينة البراءة، وخرق قواعد المحاكمة العادلة؟ إن قياس الجرائم بمقياس المشاعر والأحاسيس يورطنا في الرغبة في الانتقام من الجاني، ولعنه وطحنه ثم حرقه، لكن فلسفة العقاب تقوم على فرضية أن الجاني أخطأ في حق المجتمع وفي حق ضحيته، وتقتضي تبصرا وموضوعية وحيادا لإصلاح العطب الحاصل في سلوك هذا الجاني من أجل تهذيبه وإعادة إدماجه في المجتمع من جديد، فالعقاب هو أداة إصلاح، وليس وسيلة انتقام، لذلك نجد كل القوانين تجمع على استبعاد القضاة من البت والنظر في ملفات ذويهم وأصهارهم وأقاربهم، كل ذلك لفصل العاطفة عن العدالة. إن القضاة كغيرهم من خلق الله يصيبون ويخطئون رغم حساسية منصبهم، وإن محاكمة أحكامهم ووزنها يجب أن تكون بالموازين القانونية التي تنطلق من وثائق الملف، وتعرج على شخصية المتهم وظروف اقتراف الفعل، ووجود أدلة أو قرائن من عدمها، ثم أخيرا قناعة القاضي التي لا تجادله فيها أي سلطة أو محكمة، كل ذلك محكوم بتعليل يستند للقانون ولما جرى عليه العمل القضائي لا سيما قرارات محكمة النقض، وعليه كان الحكم عنوانا للحقيقة التي تجلت للقاضي أو للهيئة القضائية من بين ثنايا الملف، وكان الحكم كلما صار باتا قطعيا حائزا لقوة الشيء المقضي به منتجا لآثاره ولو كان "صاعقا" للبعض، فالأحكام لا تصدر لتروق هذا أو تغضب ذاك، ولا تصدر محاباة لهذا أو انتقاما من ذاك، بل تصدر لأن عمل القاضي اليومي هو إصدارها طبقا للقانون ولقناعته ووجدانه، ولا أحد يمكنه محاسبة القاضي على ما أصدره من الأحكام شريطة احترام المساطر والالتزام بروح القانون. لذلك فإن التعامل مع الأحكام القضائية بانتقادها وكيلها بالمكيال الخطأ، بمنطق التصريحات الحكومية الرافضة، وبمنطق الوقفات الاحتجاجية الغاضبة، وبمنطق البلاغات وبمنطق المنشورات والتدوينات، وهو منطق يدفع في اتجاه الضغط على القضاة والتحرش باستقلالهم والخدش في الاحترام الواجب لما يصدر عنهم من أحكام، ما دام الدستور والقانون بوأهم منزلة إصدارها، فدعوا القضاة يحكمون ملفاتهم بعيدا عن كل تشويش وضغط وإكراه، طبعا هذا لا يعني التسليم بتلك الأحكام وتقديسها... حتى أننا تهنا بين منطوق الحكمين، أيهما استجاب للقانون؟ وأيهما أخمد الزوبعة؟ في المحصلة لا الفرق بين الجريمة البشعة التي يرتكبها الجاني، وبين الرغبة في الانتقام من الجاني، فكلا الفعلين مذمومين، فالبطولة هي أن تكون صدور العقلاء رحبة في تمتيع الجناة بحقوقهم التي أفردها لهم القانون والدستور، بغض النظر عن بشاعة ما نُسب إليهم. بقي فقط أن أشير وقبل الختام، إلى أن عقوبات غزيرة كثيرة تكتفي بعقوبات موقوفة التنفيذ، تصدر في حق متهمين باختلاس الملايير من المال العام، كانت على وزير العدل بردا وسلاما، ولم تشكل لا له ولا لغيره "صعقة" أو "صدمة".