أجمع فقهاء القانون أن التمتع بقرينة البراءة هم حق ويدخل ضمن أحد أهم ضمانات الحرية الشخصية للمتهم، ومن تم إن كل مشتبه فيه أو متهم بجريمة مهما بلغت جسامتها، يجب معاملته بوصفه بريئا حتى تثبت إدانته بحكم قضائي. في هذه الحلقة، والحلقة الموالية، سنسلط الضوء على موضوع قرينة البراءة من خلال بحث للأستاذ حسن بويباون، منشور في موقع الكتروني من إعداد محمد توفيق التريدي. في بداية هذا البحث، تم التأكيد على أن موضوع البراءة يحتل أهمية قصوى، كما يشكل احد المواضيع المحورية التي تدور حولها اغلب الملفات التي تعرض على المحاكم في المجال الجنحي و الجنائي، كما أن هذا الموضوع يشغل اهتمام جميع الفاعلين في مجال حقوق الإنسان و في مجال العدالة... لذا فان الحديث عن العدالة الجنائية هو حديث كل العصور، إذ ظلت الإنسانية منذ وجدت تنشد العدالة الجنائية وتسعى نحو تحقيقها، وقد افرز هذا السعي تراثا ضخما غنيا وممتدا في الزمان والمكان بمدارسه الفكرية ونظرياته الفقهية وعلومه الجنائية وتشريعاته التطبيقية، وفي نفس السياق سارت كافة الشرائع السماوية سعيا مهما نحو تحقيق عدالة إنسانية. في هذا الصدد، ذكر البحث أن الشريعة الإسلامية اتجهت نحو تكريم الإنسان ككائن اجتماعي، وذلك حفاظا أيضا على كل القيم الاجتماعية التي يومن بها والتي قد تضمن الاستقرار المجتمعي، فعن رسول الله (ص) انه قال «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه». وقال أيضا «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا عن سبيله فلئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». وعن عمر بن الخطاب رضي الله عن قال «لئن أعطل حد بالشبهات أحب إلي من أن أقيم حدا بالشبهات». وعلى نفس النهج، يضيف البحث، سار فلاسفة الأنوار الذين أصلوا لفكر إنساني تقدمي يحفظ للإنسان أدميته إذ أنهم دافعوا وباستماتة على اعتبار البراءة هي الأصل في الإنسان إلى أن تثبت إدانته بناء على محاكمة عادلة. ولعل أن هذا الفكر الذي سطع نجمه في فرنسا سيكتسح باقي القارة الأوروبية التي ستؤسس لميلاد موجات الدساتير المكتوبة. إلا أن الأحداث الدامية والماسي الإنسانية التي شهدها العالم خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ستتوج مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتاريخ 10/12/1948 والذي صادقت عليه الأممالمتحدة عقب صدوره، والذي نص على مجموعة مبادىء تتجه أكثر نحو بناء عدالة جنائية واهتمام متزايد بالإنسان وبحقوقه باعتباره محور الكون، وتضمن للإنسان براءته إذ نص الإعلان في مادته 11 على أن «كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت ادانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها كافة الضمانات الضرورية للدفاع عنه». كما نصت المادة 5 من مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي على ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته بحكم قضائي صادر عن محكمة مختصة. بالنسبة للمغرب، يقول البحث أنه بالإضافة إلى النص صراحة على قرينة البراءة في نص الدستور فان قانون المسطرة الجنائية قد أحاطها بعدة تدابير عملية لتعزيزها وتقويتها، إذ نص في الفصل 288 ق.م.م القديم على انه على القاضي أن يقرر عدم إدانة الشخص المتهم ويحكم ببراءته كلما رأى أن الإثبات غير قائم، إلا انه ومع التطورات الأخيرة التي عرفتها البلاد سيقع التنصيص صراحة ولأول مرة بقانون المسطرة الجنائية على أصل البراءة في الإنسان. وعن سؤال إلى أي حد استطاع المشرع المغربي صيانة مبدأ البراءة كما كرسته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان؟ يعتبر البحث أن الغور في واقع قرينة البراءة تضطرنا للبحث في جميع المراحل التي تمر منها الدعوى حتى تصبح جاهزة للنطق بالحكم فيها، وذلك للوقوف عند واقع قرينة البراءة، وهي تصطدم مع عمل المكلفين بصونها وتقريرها، وذلك عبر المراحل التي يمر منها الظنين أو المتهم حتى ينطق بالحكم في حقه إما بالإدانة أو البراءة. وسنتوقف خلال هذه الحلقة على وضع قرينة البراءة في مراحل الضابطة القضائية وأمام القضاء والنيابة العامة. الضابطة القضائية وقرينة البراءة: لقد أسند المشرع المغربي للضابطة القضائية مهمة التثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها، وذلك في إطار تنفيذ إنابات قضاء التحقيق وأوامر النيابة العامة، مما يجعل هذه المرحلة الأكثر اصطداما مع قرينة البراءة، يوضح البحث. فخلال هذه المرحلة إن الضباط يتلقون الشكايات والوشايات ويجرون البحث التمهيدي تحت مجموعة من الضمانات القانونية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية والتي سبقت الإشارة إليها. والظنين في هذه الحالة هو الشخص الذي يشك فيه على أنه ارتكب الفعل الجرمي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تسميته بالمتهم أو الفاعل أو المجرم رغم وجود أدلة قاطعة ضده، من شأنها تبرير إدانته، ذلك أن مثل هذه التسميات خاصة بمراحل أخرى من مراحل التحقيق. ويعتبر الظنين الشاهد الثاني في القضية بعد الضحية فهو يكون حاضرا أثناء ارتكاب الفعل، ولهذا فشهادته لها أهمية بالغة، مما يحتم على ضابط الشرطة القضائية الاستماع إليه بكل دقة وحذر، فهو يستمع إليه بالطريقة التي يستمع فيها إلى الشهود. البحث استحضر، أيضا، ما يشوب هذه المرحلة من تجاوزات في مجموعة من الحالات، كاعتقال المتهم دون وجه حق واقتياده إلى مراكز الدرك أو الأمن، ونزع اعترافاته بالقوة والعنف في أبشع الصور، مما يؤثر على حسن سير العدالة... فالظنين لا يتوفر على أية ضمانات في مرحلة البحث أمام الضابطة القضائية، وذلك في البلدان التي لا يسمح فيها للمحامي بمؤازرة موكله أمام الشرطة القضائية. ...وفيما يتعلق بجزاء عدم احترام إجراءات الحراسة النظرية، لاحظ البحث اختلاف المحاكم بما في ذلك مع المجلس الأعلى حول هذا الجزاء، فمنها من رتبت البطلان كلما وقفت عند أي خرق للمقتضيات المتعلقة بالحراسة النظرية ومنها من اعتبرتها مقتضيات لا يترتب على خرقها أي جزاء. ولتجاوز مخلفات المرحلة السابقة، يضيف البحث، فإنه يتحتم علينا تفعيل النص الجديد وذلك بتعبئة جميع الفاعلين وخاصة أمام الضابطة القضائية وذلك بتدعيم المراقبة القضائية لعملها مع إشاعة ثقافة الضمير المهني الذي ينتقي لدى البعض من عناصرها، ممن يضمنون المحاضر اعترافات الأظناء حيث يكفيهم ذلك عن جمع الأدلة وتقييم ملاحظات رؤسائهم ... قرينة البراءة أمام القضاء والنيابة العامة: ...يرى البحث أنه إذا كان منطلق افتراض البراءة هو بداية الاشتباه أو توجيه التهمة فإن هذه القرينة تظل ملازمة للشخص خلال مراحل محاكمته، ومنذ اللحظة الأولى للبحث التمهيدي مرورا بمرحلة النيابة العامة والمحاكمة بدرجاتها إلى أن يصبح الحكم بالإدانة حائزا لقوة الشيء المقضي به. بالنسبة للنيابة العامة، تتولى هذه الأخيرة،يوضح البحث، إقامة و ممارسة الدعوى العمومية ومراقبتها وتطالب بتطبيق القانون، ولها الحق كذلك في تلقي الشكايات والوشايات والتي من حقها اتخاذ ما تراه ملائما اعتبارا لسلطة الملائمة. بخصوص الإثبات،استحضر البحث التعريف الذي جاء به الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني على انه «إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتب أثارها»، وجاء في إحدى اجتهادات المجلس الأعلى على انه «يمكن اتباث الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا الأحوال التي يقضي فيها القانون بخلاف ذلك». من هنا تعد تصريحات الطرفين التي نوقشت أمام المحكمة حججا، وأن قبول المحكمة لتصريحات الضحية ورفضها لتصريحات المتهم يدخل في عداد سلطتها التقديرية للحجة ولا تخضع في ذلك لرقابة المجلس الأعلى قرار 890 صادر بتاريخ 29/11/1982. وتطبيقا كذلك للقاعدة العامة،يفسر البحث، فان عبء الاتباث يقع على عاتق النيابة العامة يساعدها في ذلك الضحية، وتبعا لذلك فان الشخص يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته، وقد كرس هذه القاعدة الفصل 286 ق.م.ج. غير أن عبء الاتباث قد يقع أحيانا على عاتق المتهم كما هو الشأن مثلا في إثبات الوسائل المبررة المنصوص عليها في الفصل 124 ق.ج. غير أن هذه القاعدة ،في نظر الأستاذ بويباون، تعرف تطبيقات معكوسة. فالشخص المتهم يخضع أحيانا قبل صدور الحكم ضده لإجراءات قاسية كالوضع تحت الحراسة النظرية و الاعتقال الاحتياطي رغم الضمانات القانونية الكافية التي يتوفر عليها، ناهيك عن تلك العبارة التي ألف لسان النيابة العامة النطق بها في ملتمساتها تجاه الأظناء وهي: «الإدانة»، دون أن ننسى ما دأب عليه الإجتهاد القضائي فيما يتعلق بتقديم شهود الإثبات على شهود النفي، وهو ما يعتبره البحث تجسيدا ل»طغيان منطق الإدانة وتطاوله على قرينة البراءة». في الحلقة القادمة سنتناول كيف يتعامل قضاة التحقيق مع المتهم الخاضع لإجراءاتهم من خلال البحث المذكور.