تشكل متابعة الصحافي المتميز رشيد نيني -وإني لأدعو الله أن يفك أسره بحكم بالبراءة- محطة حقوقية وقانونية بامتياز، اشرأبت لها الأعناق ولازالت مشرئبة وشخصت لها الأبصار في انتظار ما ستسفر عنه محاكمته، وإني ولئن كنت من بين المشرئبة أعناقهم والشاخصة أبصارهم فإن متابعته في حالة اعتقال استفزت حسي القانوني، ولئن كانت المناسبة شرطا فإن هذه المناسبة شكلت باعثا لي على البحث في السند القانوني الذي بموجبه تحق لوكيل الملك أو أحد نوابه متابعة الأبرياء في حالة اعتقال، خاصة في غياب حالة من حالات التلبس. ولا أود هنا الدخول في مدى شرعية وقانونية متابعة الصحافي المحترم في حالة اعتقال، فالأمر معروض على أنظار المحكمة التي لا سلطان عليها إلا للقانون، بل أود أن أفتح لنقاش قانوني بابا تكون له الأقلام ركابا وتتقارع الحجج له غلابا. بداية، حري بنا الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية، ألا وهي أن الأصل في الإنسان البراءة، ومؤدى هذه القرينة أن الأصلَ بقاءُ ما كان على ما كان عليه، ولما كانت الجريمة عدما فإن جهة المتابعة تبعا لقرينة البراءة هذه هي من يلقى على عاتقها إثبات ارتكاب الجريمة من طرف المتهم ولا يلزم هذا الأخير بإثبات براءته. ولما كنا مندوبين لأن نحسن الظن بالناس، حيث إن الأصل هو حسن النية وصدق الطوية، أي أن الإنسان يبقى مستصحبا للأصل الذي هو البراءة، وذلك طيلة مراحل وأشواط الخصومة الجنائية ما لم يصدر مقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به يقضي بإدانته، وتبعا لما ذكر واستحضارا للبراءة تنبغي معاملة المتهم بوصفه بريئا، أي ألا يتخذ في حقه أي إجراء قسري. ولعل من أخطر الإجراءات قسرا وأشدها قسوة الوضع تحت الحراسة النظرية أو الاعتقال الاحتياطي أو المتابعة في حالة اعتقال، وما أدرانا ما الاعتقال وسلوا المعتقلين عن الاعتقال فلا ينبئنا مثل خبير، حيث تتجلى خطورته في أنه يمس قرينة البراءة في الصميم، ذلك أن الإنسان يعتقل وهو لا زال بريئا، يقضي عقوبة قبلية بدون حكم قضائي، وقد تنتهي المحاكمة بتبرئته، وما قيمة قرينة البراءة بعدما قضى البريء في غياهب السجن أياما وليالي؟ ولئن كان سلب الإنسان حريته من الخطورة بمكان، فإنه يتعين والحالة هذه إحاطته بسياج ضمانات وطوق أمني مصدره القانون الذي يؤمن عدم سلب الحرية إلا في أشد الحدود ضيقا، خاصة في المراحل السابقة على المحاكمة. ولما كان دور رجل القانون غير منحصر في الإلمام بالنصوص القانونية أو المقررات القضائية فقط، بل يتعداه إلى قراءة القانون قراءة نقدية بناءة هادفة إلى الإشارة بالبنان وإثارة انتباه المشرع والقاضي إلى مكامن الخلل ومواطن الزلل، إن في القاعدة القانونية أو الممارسة العملية، فإنني آثرت إجراء تقييم للنصوص القانونية التي تسمح لوكيل الملك أو نائبه باعتقال الأبرياء. تجدر الإشارة إلى أن قرينة البراءة قد احتضنها المشرع في بلدنا الحبيب في كنف مادة فريدة وخصها وحدها ودونا عن باقي المواد الأخرى بباب لها وحدها، وهو الباب الأول من الكتاب التمهيدي، إنها المادة الأولى من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية التي جاء فيها: «كل متهم أو مشتبه فيه بارتكاب جريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمقرر مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية. يفسر الشك لفائدة المتهم». كيف لا تكون هذه المادة كذلك وهي الابن الشرعي لقانون ينعت، وعن حق، بكونه قانون الأبرياء وقانون الشرفاء، ألا وهو قانون المسطرة الجنائية. كما سبقت الإشارة، فإن سلب الحرية قبل المحاكمة ينبغي أن يمارس في أشد الحدود ضيقا، فقوام الحياة الإنسانية وملاذها الحرية. ولعل هذا ما تنبه إليه المشرع، حيث نص في المادة 159 من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية على أن «الوضع تحت المراقبة القضائية والاعتقال الاحتياطي تدبيران استثنائيان، يعمل بهما في الجنايات أو في الجنح المعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية»، أي أن المشرع نفسه تنبه وآثر أن ينبه إلى الطابع الاستثنائي لهذين التدبيرين. ولما كانا استثنائيين، فإنه طبقا لأسمى تعبير عن إرادة الأمة والذي يجب على الجميع الامتثال له، ألا وهو القانون، واحتراما للقانون، يتعين أن يظل التدبيران المذكوران كما أريد لهما، ألا يكونا قاعدة بل استثناء، أي أنه كلما أمكنت الاستعاضة عنهما وإهمالهما وعدم إعمالهما إلا وتعين ذلك. وعودا على بدء ووصلا بالعنوان الوارد أعلاه، يحق لنا أن نطرح السؤال الآتي الذي نعتبره مشروعا: ما السند القانوني للنيابة العامة في متابعة الشخص في حالة اعتقال؟ إن المادة القانونية التي تعطي الحق -في غير حالة من حالات التلبس بجنحة- لوكيل الملك في أن يصدر أمرا بالإيداع في السجن لهي فقرة وحيدة من مادة وحيدة، إنها الفقرة الأخيرة من المادة 47 من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية، والتي جاء فيها: «يمكن لوكيل الملك، في غير حالة التلبس بجنحة، أن يطبق المسطرة المنصوص عليها في الفقرتين الأولى والثانية أعلاه في حق المشتبه فيه الذي اعترف بالأفعال المكونة لجريمة يعاقب عليها بالحبس أو ظهرت معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها، والذي لا تتوفر فيه ضمانات الحضور أو ظهر أنه خطير على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال، وفي هذه الحالة يعلل وكيل الملك قراره». إن المادة المذكورة حددت لإصدار الأمر بالاعتقال من طرف وكيل الملك في غير حالة من حالات التلبس شروطا، وزادت على هذه الشروط ضمانة، فأما هذه الشروط فهي كالآتي: أولا: الاعتراف بالأفعال المكونة لجريمة معاقب عليها بالحبس أو ظهور معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها. ثانيا: عدم توافر ضمانات الحضور أو كون الشخص خطيرا على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال. وأما الضمانة فهي تعليل وكيل الملك لقراره. إن المتأمل بروية وأناة للمادة المذكورة لا شك أنه سيلحظ أنه حتى يمكن إصدار أمر بالاعتقال من وكيل الملك، فإنه يتعين إما الاعتراف أو ظهور معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها، واستعمال المشرع للحرف «أو» يعني إما الاعتراف وإما ظهور معالم أو أدلة قوية على ارتكابه لها، أي أن المشرع لا يتطلب الأمرين معا، فأحدهما كاف ويجعل الشرط الأول لإصدار أمر بالاعتقال متوفرا. وبالنسبة إلى الشرط الثاني، وتجدر الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بتخيير ملكه المشرع لوكيل الملك، حيث نص على «والذي لا تتوفر...» بل إضافة إلى الشرط الأول المذكور ونتيجة لاستعمال المشرع واو العطف فإنه يتعين انعدام ضمانات الحضور أو كون الشخص خطيرا على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال. إن الشق المتعلق بضمانات الحضور لربما لا يستعصي تحليله، حيث إن الشخص -في اعتقادنا- ذو محل إقامة قار ومعروف وذو عمل قار كذلك، لا شك أن ضمانات الحضور متوافرة فيه، وبالتالي لا نعتقد أن لوكيل الملك الحق في إصدار أمر باعتقاله ما لم يكن الشخص خطيرا على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال. إن الشق المتعلق بالخطورة على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال لهو من الخطورة بمكان، خاصة في جزئه المتعلق بالخطورة على النظام العام، فهذا النظام العام مفهوم مستعص الإلمام به ووضع تعريف له، فهو مفهوم يتسع ليشمل كل شيء، وقد يضيق في نفس الوقت ولا يشمل أي شيء. ولعل الأخطر من هذا وذاك بغض النظر عن الخطورة على النظام العام أو سلامة الأشخاص أو الأموال لهو تعليل وكيل الملك، وغالبا ما دأب بعض قضاة النيابة العامة على التعليل بالقول «لخطورة الفعل، قررنا اعتقاله». ورب قائل يقول إن خطورة الجريمة وخطورة الشخص وجهان لعملة واحدة، فكل جريمة خطيرة إلا ومرتكبها خطير. إن المشرع لا يتحدث عن خطورة الفعل أو الجريمة بل يتحدث عن خطورة الشخص. وفي اعتقادنا، لو كان المشرع -ورغم وضوح النص، نضرب مثلا- يقصد خطورة الجريمة لكان لجأ إلى الاعتقال بكيفية آلية في ما يتعلق بالجنايات، حيث تبقى هذه الأخيرة أخطر أنواع الجرائم، فإن المشرع وطبقا للمادة 73 من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية تحدث عن الكفالة الشخصية أو المالية مقابل إطلاق سراح المتهم حتى ولو كان متلبسا بجناية، وأحال على المقتضيات المتعلقة بالكفالة المنصوص عليها في المادة 74 التي تحيل على المواد من 185 إلى 188 من نفس القانون. انطلاقا من كل ما ذكر سلفا، أعتقد أنه في حالة توافر ضمانات الحضور وكون الشخص ليس بخطير على النظام العام أو سلامة الأشخاص أو الأموال، فإنه ومهما بلغت الجريمة من خطورة فليس للسادة قضاة النيابة العامة أن يصدروا أمرا مفاده أنه: بناء على خطورة الفعل، قررنا اعتقاله. حاصل على دبلوم الماستر في العلوم الجنائية