أصدرت المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية (REMALD)، العدد 118 من سسلسلتها مواضيع الساعة، تحت عنوان المبادئ الدستورية والقانونية المؤطرة للجهوية المتقدمة، للدكتور عادل تاميم، والذي جاء نتيجة مرحلة طويلة من الإصلاحات القانونية والمؤسساتية وكذلك التجارب والممارسة التي راكمها المغرب، الانتقال إلى مرحلة جديدة للامركزية والديمقراطية المحلية والتي تتمثل في دعم استقلالية الجماعات الترابية إداريا وماليا. وقد منح دستور 2011 دفعة قوية لهذا المسار، عبر وضع أسس وركائز للحكامة الترابية. وتمثلت أفاق هذه الحكامة الترابية وتجسيداتها في مجموعة من المقتضيات، أهمها وأولها الإقرار الدستوري بأن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة، وأن الجهة كمستوى ترابي يحتل مكانة الصدارة على باقي المستويات الترابية الأخرى في الفعل التنموي. وهاته المكانة الدستورية للجهوية كان لا يمكن تعزيزها وحمايتها إلا بدسترة مجموعة من المبادئ والضوابط الدستورية لتطوير الجهوية، والتي أوصت بها اللجنة الاستشارية للجهوية. وقد شكلت هاته المقتضيات الدستورية مرجعية أساسية لإعطاء الجهة مكانة تتجاوز مجرد الاعتراف بها كجماعة ترابية إلى شريك وفاعل أساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتتويجا للإصلاح الدستوري، تم إصدار القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات بتاريخ 7 يوليو 2015، ليستجيب للمقتضيات الدستورية المتعلقة بالجهوية المتقدمة، ويشكل أرضية قانونية قادرة على تحقيق التنمية الجهوية، عبر اختصاصات متقدمة ومهمة. ومن أهم المبادئ والأسس الدستورية والتنظيمية المؤطرة للجهوية المتقدمة، التي تعتبر مدخلات جديدة من شأنها أن تعمل على إعادة رسم العلاقة بين الجهة والدولة، نجد، مكانة الصدارة، مبدأ التدبير الحر، التفريع، الشراكة، مبدأ التعاون، التضامن، التعاقد، الاستقلال المالي، التدرج والتمايز، التنسيق... إلى جانب هذه المبادئ، هناك دعائم تنظيمية تساهم بدورها في تحديد العلاقة بين الجهة والدولة من زاوية الاختصاصات كأسلوب توزيع الصلاحيات، والهندسة التنظيمية لهذا التوزيع، بالإضافة إلى دعائم أخرى تسهر على ضمان وعدم اختلال هذه العلاقة، كالعنصر البشري من منتخبين وموظفين قادرين على مواكبة المستجدات الدستورية والقانونية التي تعرفها مؤسسة الجهة، وكذا دور القضاء الذي من شأنه أن يشكل ركيزة مهمة من خلال فض النزاعات التي يمكن أن تثار في الممارسة العملية، كتداخل وتنازع الاختصاص بين الجهة والدولة أو بين باقي المستويات الترابية الأخرى. وقد تختلف درجة الأخذ بالجهوية كتنظيم ترابي من دولة إلى أخرى، بناء على الخصوصيات السياسية والتاريخية... لكل بلد، وبمدى ما تود السلطة المركزية منحه للجهات من استقلالية في تدبير شؤونها، ليصبح معه نوع وحجم الاختصاصات المخولة للجهة وكيفية تحديدها، من أهم محددات العلاقة بينها وبين الدولة، ومعيارا تقاس به درجة تطور التنظيم الجهوي في أي دولة تأخذ بنظم اللامركزية الترابية. وهذا الاختلاف بدوره يؤدي إلى تنوع في أساليب توزيع وتحديد الاختصاصات بين المستوى المركزي (الدولة) والمستوى المحلي (الجماعات الترابية)، غير أن التوجهين الفرنكفوني والأنكلوساكسوني، يبقيا البارزين في هذا المجال، حيث يعتمد الأسلوب الأول على المبدأ العام في الاختصاصla clause général des compétences، فيما يرتكز الأسلوب الثاني Ultra vires، على تحديد الاختصاصات على سبيل الحصر. وبالنسبة للمغرب فقد أخذ بالأسلوب الفرنكفوني، حيث إن التشريعات المنظمة للجماعات الترابية بما فيها القانون المنظم للجهات، اعتمدت الأسلوب العام في تحديد الاختصاصات، مع تقديم بعض الأمثلة في مقتضيات عامة، وهو ما نتج عنه ضبابية وتداخل في الصلاحيات والمهام، لتبقى الدولة الطرف الأكبر في المعادلة من حيث حجم الاختصاصات ونوعها. فتوزيع الاختصاصات بين الجهة والدولة، ظل محكوما بهاجس أمني يهدف إلى تعزيز وتقوية المركز، بعيدا عن أي شكل من أشكال المنافسة، بحيث احتفظت السلطة المركزية لنفسها في هذا النظام، بمكان محوري سمح لها باحتكار السلطة التقريرية في مجالات تعد من المجالات الطبيعية لممارسة المجلس الجهوي مهامه فيها. وهذا ما جعل الجهوية بالمغرب تعاني من عدة إكراهات، ابتداء من أول تجربة بعد الاستقلال في إطار ظهير 16 يونيو 1971 المتعلق بإحداث المناطق الاقتصادية، والتي لم تتمتع فيها الجهة بالشخصية المعنوية، ولا على الوسائل المالية الخاصة بها، حيث بقيت مهمتها استشارية محضة تتجلى بالخصوص في التحضير لتصاميم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي ظل الإصلاحات السياسية والإدارية التي عرفها المغرب منذ بداية التسعينيات، جاء قانون (96-47) ليمنح للجهات الشخصية المعنوية وينيطها باختصاصات متعددة تهم عدة مجالات تنموية، بعدما تم الارتقاء بها في دستور 1992 إلى مستوى الجماعة المحلية، وتعزيز ذلك في دستور 1996. وبالرغم من هذه الإصلاحات الدستورية والقانونية التي همت التقعيد القانوني والمؤسساتي للجهوية، فإن هذه الأخيرة بقي ضعف اختصاصاتها من السمات البارزة، والذي يزداد حدته جراء اختلال التوازنات في إطار علاقتها بالدولة، حيث إن السلطة التقريرية للمجلس الجهوي تعتبر محدودة بقوة تدخل السلطة المركزية، وما تمتلكه الدولة من وسائل رقابية وتدخلية، تجعل الجهة في وضعية تبعية واختلال دائم لتوازن الاختصاصات بينهما.