الجهوية المتقدمة.. ورش يحدد التوجه المستقبلي للمغرب منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي والعالم يشهد تغييرات استراتيجية وسياسية واقتصادية ترتكز أساسا على إنهاء سياسة الثنائية القطبية العالمية والدول القطرية في مقابل التركيز على المقاربات الترابية من خلال إيلاء الأهمية للفضاءات المحلية. لقد أضحى المستوى المحلي المكان الأمثل لطرح إشكاليات التنمية مع تنامي صعوبة التسيير المركزي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية في ظل تقلص الموارد المتاحة وطنيا وانتقائية تمويل التنمية دوليا. واقتنعت بلدان العالم، رغم تباين منطلقاتها النظرية ومرجعياتها، بأن منطلق الإقلاع الاقتصادي والتنمية المنسجمة سيمر حتما عبر التنمية الجهوية. وانخرط المغرب من جهته في هذا المسار الذي يهدف إلى تبني الجهوية بمفهومها الحديث، والذي يعني خلق مجموعة متناسقة تهدف إلى بناء تكامل اقتصادي إداري تنموي من أجل النهوض بالمؤهلات الجهوية وتسخير إمكانياتها البشرية والطبيعية والمادية في إطار متكامل. فارتباطا بهرمية إدارية، تمثل الجهوية نظاما للتنظيم الإداري يضع جملة من الاختصاصات الهامة بيد الفاعلين المحليين والهيئات الترابية. ورغم اختلاف المعطيات الحضارية والاقتصادية لكل دولة، بالنظر إلى خصوصياتها الحضارية والسياسية والثقافية، فإن قاسما مشتركا يجمع فيما بينها، وهو السعي إلى تقليص الفوارق بين مختلف الجهات بغية تحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة والحرص على ضمان وحدة الدولة الوطنية. إن التطلع الجهوي قديم بالمغرب.. ولا مجال هنا لسرد المسار التاريخي لمفهوم الجماعة كأسلوب في الإدارة والحكم المرتكز أساسا على النظام القبلي. وخلال الثلاثة عقود الأخيرة، امتحن مدى نضج التطلع الجهوي عبر مراحل متعددة. فهو وليد تراكم تجربة 30 سنة مهدت لتبلور المشروع الجهوي الوطني، حيث بدأ الحديث عن توجه جهوي واعي ومرسوم بصدور ظهير 16 يونيو 1971 بإحداث المناطق، ثم شكلت المراجعة الدستورية لصيف 1992، تحولا في النظام الترابي المغربي الخاص بالجهات، وجاء التعديل الدستوري لسنة 1996، ليقر مفهوم الجهة كمؤسسة دستورية، ويعتبرها مؤسسة من المؤسسات الجماعية المحلية التي تعمل على تنظيم المواطنين وتمثيلهم. وفي نفس السياق، صدر القانون المنظم للجهات سنة 1997 ليؤكد أن المغرب حقق بالفعل تراكمات وتجارب تؤهله لولوج مرحلة متقدمة في مسار الديمقراطية المحلية. وجاء الخطاب الملكي في 3 يناير 2010 ليعطي انطلاقة حقيقية للورش الجهوي الذي يهدف إلى تفعيل الجهوية الموسعة وتشكيل لجنة استشارية من أجل الوصول إلى بلورة تصور واضح الملامح للنموذج المغربي للجهوية الموسعة. وأخيرا، تم تعزيز الجهوية بعد إقرار الدستور الجديد لسنة 2011 حيث تم تخصيص الباب التاسع منه للجهات والجماعات الترابية الأخرى. كما نص الفصل الأول من باب الأحكام العامة على أن «التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة. «وهو تأكيد على إرادة المشرع الارتقاء بالمنظومة الجهوية وجعلها ركيزة أساسية للنظام اللامركزي. والمأمول من الجهوية المتقدمة في شكلها المغربي أن تشكل إطارا للإنعاش وتنمية وسائل وآليات جديدة للاتمركز الإداري، وتكون فاعلا تنمويا أساسيا لإنجاح السياسات العمومية التنموية. إن إشكاليات عديدة تطرح نفسها بقوة، وهي ضرورية لفهم السياق العام للجهوية وتساهم في وضع الجهوية المتقدمة في قلب التجربة التنموية بالمغرب: - إن الجهوية مسار متطور ومتجدد باستمرار، لارتكاز منطلقاته على اعتبارات اقتصادية واجتماعية ولغوية وتشريعية متحركة، مما يستدعي مقاربات عديدة وتنظيما لينا وغير صارم مع صلاحيات واضحة ومدققة معززة بحرية مبادرة واسعة. - إن المرجعيات القانونية التي تستمد منها الجهوية وجودها تحيلنا أولا على الجهوية الوظيفية التي تعتبر الجهة فضاء ترابيا لتدبير إحدى مهام الدولة دون أن يوازي ذلك تمتيعها بالاستقلالية الذاتية وبالشخصية المعنوية، ثم ثانيا على الجهوية الإدارية التي تجعل من الجهة في التراتبية الإدارية إدارة جهوية خاضعة لمؤسسة مركزية. فثالثا على الجهوية السياسية التي تتقاسم بموجبها الجهة مع السلطة المركزية للدولة وظائف سياسية (تنظيمية وتشريعية) يؤطرها النص الدستوري. - ومن المنظور الاقتصادي، فالجهوية تعني تحقيق التوازن في النمو الاقتصادي الجهوي وتقليص الفوارق وتصحيح الاختلالات المجالية. - ومن وجهة نظر اجتماعية، تحيلنا الجهوية على اختيار تدبيري حداثي يؤمن مبادئ تكافئ الفرص وتطوير مفاهيم الديمقراطية التشاركية. إن كل هذه الزوايا والمرجعيات القانونية تحيلنا على الإمكانيات المتاحة للجهوية المتقدمة في ظل الدستور الجديد. إن مقاربة الجهوية المتقدمة - كما جاء في تقرير اللجنة الاستشارية الجهوية - كمدخل «لإصلاح عميق يمس هياكل الدولة من خلال السير الحثيث المتدرج على درب اللامركزية واللاتمركز الفعليين النافذين، والديمقراطية المعمقة، والتحديث الاجتماعي والسياسي والإداري للبلاد والحكامة الجيدة» تتوخى تكريس التنمية المستدامة وتحقيق الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي. وهذا الطموح يوازيه دستوريا الاستجابة لمطلبين أساسيين، وهما مطلبا تعزيز موقع الجهوية وتقوية اللاتركيز الإداري. إن مطلب تعزيز موقع الجهوية يتجسد من منطلق أن الجهة «تتبوأ، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابية» (الفصل 143 من الباب التاسع – الجهات والجماعات الترابية). ويتجسد تحقيق مطلب تعزيز موقع الجهوية كذلك من خلال «إشراك المواطنين في تسيير شؤونهم وذلك عن طريق انتخاب ممثليهم في المجالس الجهوية بصفة مباشرة عن طريق تبني نمط الاقتراع العام المباشر (الفصل 135 من الدستور) كما «تضع مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها» (الفصل 139). كما يُمكن في ذات الوقت «للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله» (الفقرة الأخيرة-الفصل 139). إن مطلب تقوية اللاتركيز الإداري من جهة ثانية يتوخى أساسا تركيز المقومات الأساسية للجهة على إشراك الكفاءات في تدبير شؤونها على أسس أكثر استقلالية أي ابتكار جهوية مغربية موسعة تعنى في جوهرها بالإنسان المغربي (متعدد الثقافات والموحد في كيانه الوطني). ويهدف إلى القطع مع نظام كثير التمركز، يعتمد أكثر من 95% من قراراته على مستويات مركزية. ويقوم اللاتركيز الإداري عمليا على تعزيز صلاحيات ممثلي السلطة المركزية وتغيير الوضع الاعتباري العام للولاة والعمال، من خلال محافظة الدستور الجديد للولاة والعمال على أدوارهم ومهامهم مضيفا إليها دور «تمثيل السلطة المركزية» بدل «تمثيل الدولة» سابقا. وهو تغيير ينسجم مع تعزيز موقع الجماعات الترابية ونقل العلاقة مع المجالس المنتخبة من «الوصاية» إلى «المساعدة» حيث حصرت المادة 145 مهام العمال والولاة في تمثيل السلطة المركزية في الجماعات الترابية والعمل، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها وممارسة الرقابة الإدارية ومساعدة الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية. كل هذا بجانب القيام، تحت سلطة الوزراء المعنيين، بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية والسهر على حسن سيرها. وهذا ما يقوي من وضع مصالح الإدارة المركزية على المستوى المحلي، حيث أخذت موقعها ك «مصالح لا ممركزة للإدارة المركزية» بدل «المصالح الخارجية» سابقا. إن كل هذه التغييرات في موقع الجهوية وفي وضع اللاتركيز الإداري تحيلنا على سؤال محوري حول الآفاق الاستشرافية المتاحة للجهوية المتقدمة على ضوء الدستور الجديد. فكيف للجهوية أن تتجاوز ضعف سياسة اللاتمركز وانحسارات مسلسل اللامركزية وضعف المنطلق العام للحكامة؟ إن نظام الجهوية كمكسب وكخيار تنظيمي وإداري أصبح اليوم في حاجة إلى أن تقوى آلياته وميكانيزماته الأساسية، وخصوصا على مستوى آليات مباشرة تدبير الشأن العام المحلي. وهذا يقتضي بالأساس: من منطلق سياسي - التخلي عن كل مقاربة أمنية ضيقة أو احتوائية أو تركيزية وممركزة أو تذويب مطلبي الرقي بالجهوية وتحقيق اللاتمركز الإداري داخل قالب العموميات، مع الحرص الجاد على إعطاء الحرية للديناميكية التي تراكمت وتبلورت جراء تجربة 30 سنة الماضية، والتي أبانت على قدرة النخب المحلية على قيادة وترسيخ نظام جهوي متقدم ومتكامل داخل بنية قطرية وطنية قوية. - تقوية التمثيلية والمشروعية الديمقراطية للمجالس الجهوية واعتماد مقاربة النوع، لتشجيع النساء على ولوج الوظائف التمثيلية والمشاركة في تدبير شؤون الجهة، وكذا تنظيم مشاركة المواطنين والمجتمع المدني في النقاش العمومي حول قضايا الجهة وكيفية تدبيرها على الوجه الأحسن. ولأجل ذلك يتعين: - الخروج عمليا من منطق التعميم وتدقيق الصلاحيات وحصرها بوضوح وتبيان تداخلها، لأن الحاجة أكيدة إلى صلاحيات مدققة وواضحة ومضبوطة لكل من الهيئات الترابية كل حسب طبيعتها وقدراتها (المجلس الجهوي، المجلس الإقليمي، المجالس المحلية) - إعطاء الجهات أكبر قدر من الصلاحيات في تفاعل مع المجالس الأخرى وخصوصا في مجال التربية والتعليم والثقافة والسكن وغيرها... - إعطاء الجهات صلاحيات واسعة تمكنها من تفعيل مؤهلاتها البشرية والطبيعية في إطار عدالة جهوية متكاملة. من منطلق قانوني وتشريعي إن تبوأ الجهات مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات (الفصل 143 من الدستور) بجانب تحقيق مطلب تقوية اللاتركيز الإداري كخيار ديمقراطي لصالح التنظيم الإداري بالمغرب هو مكسب دستوري هام. لكنه أصبح في حاجة إلى أن يتوفر على سبل عملية ودقيقة لتقوية الآليات والميكانيزمات الأساسية والجوهرية، وخاصة على مستوى آليات الحكامة الترابية وتدبير الشأن العام المحلي. وهو ما يقتضي – وباستعجال- من المؤسسة التشريعية.. في سياق تنزيل ومواكبة مقتضيات الدستور الجديد: إصدار القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية، وتهم بالأساس: -1شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة (الفصل 146). 2 - شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس ومقرراتها، طبقا للفصل 138. -3شروط تقديم العرائض المنصوص عليها في الفصل139، من قبل المواطنات والمواطنين والجمعيات. -4الاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى، والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140. -5 النظام المالي للجهات والجماعات الترابية الأخرى. -6 مصدر الموارد المالية للجهات وللجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل 141. -7موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليها في الفصل 142. -8شروط وكيفيات تأسيس المجموعات المشار إليها في الفصل 144. -9المقتضيات الهادفة إلى تشجيع تنمية التعاون بين الجماعات، وكذا الآليات الرامية إلى ضمان تكييف تطور التنظيم الترابي في هذا الاتجاه. -10قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدإ التدبير الحر، وكذا مراقبة تدبير الصناديق والبرامج وتقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة. وفي نفس السياق، وعلى مستوى الغرفة الثانية للبرلمان، يجب تدقيق وضبط مساهمة الجهات والجماعات الترابية الأخرى في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين (الفصل 137). من منطلق إداري وتدبيري من هذا المنطلق، وتدعيما للمنطلقات السياسية والتشريعية سابقة الذكر، يتعين على الحكومة اعتماد المنهجية التشاركية والتعاقدية في تدبير المستويين المركزي والترابي.. وذلك بوضع ميثاق وطني للاتمركز الإداري، تنفيذا للنداء الملكي في خطاب العرش لسنة 2009 حيث حث جلالته الحكومة على الإسراع بإعداد ميثاق للاتمركز الإداري.. معتبرا جلالته أن لا جهوية ناجعة بدونه. وذلك بما يقتضيه الأمر من تجاوز للعقليات المركزية المتحجرة. إن الجهوية المتقدمة واللاتمركز الواسع، محك حقيقي للمضي قدما في إصلاح وتحديث هياكل الدولة. ومن شأن وضع الميثاق الوطني للاتمركز الإداري أن يمنح الجماعات الترابية، وفي مقدمتها المجالس الجهوية، أجهزة إدارية متحررة من العقلية المركزية على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي.. وقادرة على تطبيق مبدإ التدبير الحر.. ومعززة بسلطات تقريرية فعلية وبهامش واسع من المبادرة والخلق والفعل.. في تناسق وانسجام مع المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية ومع ممثلي السلطة المركزية من ولاة وعمال. إن التفكير في إحداث «هيئة عليا» على شكل مجلس يتكون من ممثلي مختلف مستويات الجماعات الترابية للمملكة (الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات المحلية) التي تتنظم في جمعيات وتكون في علاقة مباشرة مع الحكومة، وتستشار في كل مشروع إصلاح يهم الجماعات الترابية ويكون له تأثير على ممارسة صلاحيات الجماعات المحلية.. أصبح أمرا ملحا. وسيكون لمجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان) وظائف هامة في هذه البنية المحدثة، لتسهيل التواصل بين مختلف المتدخلين. وأخيرا، تشير التجربة إلى أن تطور الجهوية في الدول الديمقراطية قد لا يرتبط بشكلها السياسي وإنما بدرجة ومستوى وتجدر الممارسة الديمقراطية فيها، كما أن هذا التطور يتوقف على صدق الإرادة السياسية للمشرع ورغبته الراسخة في إعطاء الجهة مكانة سياسية متميزة داخل التنظيم السياسي والإداري.. وهذا رهين أساسا بما رصد لها من موارد مالية وبما جند لها من إمكانيات مادية وبشرية في مستوى التطلعات.. بحيث أن هذين العنصرين هما اللذان يحددان الطبيعة الحقيقية للجهوية ومستوى تطورها ونموها الصحيح. فالنظام المالي يعتبر المفصل في نجاح التجربة الجهوية أو فشلها. وهنا نذكر بالمادة 141 من الدستور التي تنص على أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تتوفر على موارد مالية ذاتية، وموارد مالية مرصودة من قبل الدولة. وبما أن التمويل عصب التنمية.. فيجب الالتزام بتحويل الموارد المالية المطابقة لكل نقل لاختصاص معين من الدولة إلى الجهات والجماعات الترابية الأخرى حسب ما نص عليه الدستور في الفقرة الأخيرة من الفصل 141. خاتمة إن تنزيل ومواكبة مقتضيات الدستور الجديد الذي وسع من صلاحيات الجهات بمنحها موقع الصدارة على مستوى الجماعات الترابية يفرض على المغرب التوفر على نظام لا ممركز ذي مهام محددة ومضبوطة بقوانين تنظيمية خاصة بالجماعات الترابية، ومعززة بميثاق وطني للاتمركز الإداري يحقق للإدارة المركزية تأمين استمرارية أنشطة مصالحها غير الممركزة دون تداخل وتضاد وتنافر للاختصاصات بين مختلف الجماعات المحليَّة والسلطات والمؤسسات. وفي نطاق حكامة ترابية ناجعة. وينبغي أن يتوفر هذا النظام على سلطات لا مركزية على جميع المستويات، الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية مع الأخذ بعين الاعتبار الخصائص الجهوية. فالمغرب متعدد، وكل جهة لها خصوصياتها. فالأقاليم الصحراوية ليست هي الريف، وسوس ليست هي الغرب... إلخ... لذا، فالنموذج المغربي المغربي يكمن بالضبط في حقيقة إدراج هذا المعطى، من أجل تسليط الضوء على المؤهلات الجهوية وإبراز التنوع في بلدنا. وهذا يتطلب ذكاء جماعيا لابتكار نموذج لديه القدرة على احتواء وتعبئة كل مكونات المجتمع المغربي. وابتكار نموذج مغربي للجهوية المتقدمة يجب أن يقوم على طريقة التنبؤ وتوقع التشريعات الجهوية في مجالات معينة تدمج خصوصيات كل جهة في أفق إعطاء دفعة قوية وزخم حقيقي لدينامية اللامركزية واللاتمركز الإداري. لهذا، يجب أن تكون الجهة معززة بكفاءات من الإدارة المحلية ويكون لها هامش التحرك لاختيار القرار المناسب وفي الوقت الملائم. فإذا كان المغرب قد شرع بالفعل في مسلسل تغيير ديمقراطي هادئ من داخل المؤسسات، فالأمر يتعلق اليوم بالتفعيل الفعلي والصريح لمضامين الدستور الجديد وتنزيله بالشكل الصحيح حفاظا للمؤسسات الدستورية على انسجامها وتجانسها، باعتبار الجهوية في قلب الإصلاح البنيوي للدولة ولطرق اشتغال المؤسسات وعلاقة السلط ببعضها. ولقد مهد الدستور الجديد، من خلال أحكامه المتقدمة التي تعيد تنظيم الاختصاصات بين مختلف المؤسسات الدستورية، الطريق أمام إعادة تنظيم ديمقراطي للاختصاصات بين الدولة والجهات، مع تكريس المبادئ الأساسية للجهوية المغربية، والمتمثلة في الوحدة الوطنية والترابية، والتوازن والتضامن والممارسة الديمقراطية، وانتخاب مجالس الجهات عبر الاقتراع المباشر ونقل السلطات التنفيذية لهذه المجالس إلى رؤسائها.