نص البرنامج الحكومي على أن إرساء الجهوية المتقدمة وتعزيز اللامركزية واللاتمركز يمثلان “ورشا حيويا لتعزيز الديمقراطية، وتطوير وتحديث هياكل الدولة، والنهوض بالتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا و بيئيا، وتعزيز سياسة القرب.” وهو ما يعكس الوعي التام بالرهان الذي يشكله هذان الورشان مع ما يتطلبه ذلك من عمل من أجل تفعيلهما، خاصة وأن المغرب قد قطع خطوات معتبرة في هذا المجال. دون أن ينفي ذلك أن معوقات كبيرة ما زالت تحول دون تطويرهما بالشكل المأمول. كما تجدر الإشارة إلى أن ما جاء به الدستور الجديد من جهة وما سطره البرنامج الحكومي من جهة أخرى يضعان السقف عاليا في هذا المجال ويتطلبان تعبئة وبرنامجا ممتدا في الزمن. ومن الناحية المنهجية، وباعتبارهما ورشين مؤسسين ومهيكلين، فهما يتطلبان توسيع المساهمة وإشراك مجمل الفاعلين السياسيين والمجتمعيين المعنيين. و في هذا الصدد وجب التذكير بما ورد في مقدمة البرنامج الحكومي من أنه يقوم على ثلاث مرتكزات سواء في وضع السياسات أو تنفيذها وهي، أولا؛ العمل المندمج والمتكامل، ثانيا؛ المقاربة التشاركية، ثالثا؛ ربط المسؤولية بالمحاسبة. ومن تنصيص ذلك البرنامج على أن تنزيل مقتضيات الدستور تكتسي أبعادا متعددة تقتضى تدبيرا تشاركيا في صياغة وبلورة استحقاقاته، يجمع الأغلبية والمعارضة وعموم مكونات المجتمع في إطار تفاعلي مشترك، والارتكاز على تأويل ديموقراطي، واعتماد توقع زمني وفق أولويات واضحة على مدى السنوات الخمس المقبلة. مقتضيات إصلاح نظامي اللامركزية واللاتمركز الواردة في البرنامج الحكومي لقد نص البرنامج الحكومي في النقطة المتعلقة بترسيخ دولة القانون والجهوية المتقدمة والحكامة الرشيدة الضامنة للكرامة والحقوق والحريات والأمن والقائمة على المواطنة الحقة وربط المسؤولية بالمحاسبة والحقوق بالواجبات على محور أساسي يتمثل في “إرساء الجهوية المتقدمة وتعزيز اللامركزية واللاتمركز” وذلك عبر ثلاثة محاور هي: - إرساء الجهوية المتقدمة وتعميق مسلسل اللامركزية - اعتماد مشروع طموح للاتمركز الإداري يواكب الجهوية المتقدمة واللامركزية - اعتماد المقاربة المجالية في وضع وتنزيل المشاريع في إطار سياسة شمولية لتأهيل المجال. وفي مايلي الإجراءات الواردة في البرنامج الحكومي بخصوص هذه المحاور، حيث تتبين ضخامة البرنامج المطروح: أ إرساء الجهوية المتقدمة وتعميق مسلسل اللامركزية وذلك من خلال : 1 - إصدار قانون تنظيمي للجهات والجماعات الترابية الأخرى يضمن إفراز مؤسسات جهوية منتخبة وقوية وذات اختصاصات فعلية، 2 - اعتماد تقطيع جهوي يوفر مؤهلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لكل جهة. 3 - تمكين الجهات من جهاز تنفيذي قوي قادر على القيام بمهامه ويتمتع بالاختصاصات و الموارد اللازمة، 4 - تمكينها من الوسائل البشرية والمالية اللازمة لتساهم بشكل فعال في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وفي الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد 5 - وضع برنامج للرفع من القدرات التدبيرية للجهات والجماعات الترابية الأخرى. 6 - إحداث نظام جهوي للمعلومات الإحصائية 7 - تنظيم العلاقات بين الدولة والجهة عن طريق التعاقد 8 - إعادة النظر في توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية وفي مابين هذه الجماعات بما يضمن تناسق ونجاعة الفعل العمومي على المستوى المحلي 9 - تفعيل دور الجهات في مجال التنمية 10 - تأهيلها لتدارك الخصاص على مستوى البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية 11 - العمل على ضمان الانسجام الضروري بين السياسات العمومية والقطاعية والاستراتيجيات التنموية الجهوية 12 - تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص 13 - مشاركة مختلف الفاعلين المحليين والقطاع الخاص في تطوير وإنجاز المشاريع المهيكلة الكبرى وتقوية جاذبية الجهات. 14 - تفعيل التضامن بينها بهدف التوزيع العادل لثمار النمو والثروات 15 - إرساء صندوق التأهيل الاجتماعي 16 - إرساء صندوق التضامن بين الجهات 17 - إدماج البعد الجهوي في مشروع إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية. 18 - تطوير مداخيل الجماعات الترابية بهدف تمكينها من التكفل باختصاصاتها 19 - تنظيم توزيع حصص الجماعات الترابية من الموارد المالية الوطنية بمرسوم 20 - إصلاح نظام الجبايات المحلية. 21 - إقرار نظام المواكبة والمراقبة البعدية ب اعتماد مشروع طموح للاتمركز الإداري يواكب الجهوية المتقدمة واللامركزية، وذلك من خلال: 22 - التعجيل بإصدار الميثاق الوطني للاتمركز باعتباره ورشا مهيكلا يروم تحقيق تحول نوعي في أنماط الحكامة وتوجها مهما لتطوير وتحديث هياكل الدولة 23 - إعادة تنظيم الإدارة الترابية بما يكفل تناسق عملها والاستجابة عن قرب للحاجيات المعبر عنها محليا، وذلك بتخويلها السلط والصلاحيات والإمكانيات التي من شأنها وضع نظام فعال للإدارة اللامتمركزة 24 - تجميع الإدارة اللاممركزة في بنيات لتحقيق التكامل والاندماج بين مختلف القطاعات العمومية. 25 - تبني المنهجية التعاقدية والتشاركية في التدبير والتسيير فيما بين المستويين المركزي والترابي 26 - مراعاة التنسيق والتشاور فيما بين هذه المستويات في مجالات إنجاز البرامج التنموية، تحقيقا لمبدأ الإدارة بالأهداف ومراقبة أساليب التدبير. ج اعتماد المقاربة المجالية في وضع وتنزيل المشاريع في إطار سياسة شمولية لتأهيل المجال. فتفعيل اللامركزية ليس فقط رهينا بتعزيز الصلاحيات والمواكبة بمسلسل طموح للاتمركز، ولكنه مرتبط كذلك باعتماد مقاربات تنموية ترتكز على المجال في بنائها وفي تنزيلها. من هنا تعتزم الحكومة: 27 - اعتماد المقاربة المجالية المندمجة في برمجة الميزانية العامة للدولة عوض الاكتفاء بتوزيع الاعتمادات على مختلف القطاعات الوزارية، 28 - تطوير آليات التحفيز المالي في علاقة بأولويات إعداد التراب في سياق نظرة شمولية للتنمية والتهيئة المجاليتين. من خلال ما سلف يتبين أن البرنامج الحكومي قد جاء بحوالي 28 اختيارا أو إجراءا في مجال إصلاح نظامي اللامركزية واللاتمركز، بعضها ظل مطروحا منذ سنوات دون التمكن من تفعيله، وبعضها الآخر يمثل ثورة في المقاربة كاعتماد المقاربة المجالية في وضع الميزانيات وإحداث أقطاب إدارية جهوية... مع ما يتطلبه ذلك من جهد وعمل ممتد في الزمن. كل هذا يجعل من هذا البرنامج ورشا ضخما وتحديا كبيرا يحتاج إلى إدارة خاصة لتتبعه واستراتيجية متكاملة في تنزيله. يضاف إلى ذلك أن هذا الأمر يجب أن يتم باستحضار مقتضيات الدستور الجديد والتي تؤسس لخيارات كبرى تمثل بدورها تحولا عميقا سواء في مفهوم اللامركزية أو في أدوار الإدارة والسلطة المحلية في علاقتها بالجماعات الترابية نجمل أهمها كالتالي: بعض مقتضيات إصلاح نظامي اللامركزية واللاتمركز الواردة في الدستور مبدأ التدبير الحر: لقد نص الفصل 136 من الدستور على أن “التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة”. وهو ما يلغي مفهوم الوصاية على عمل الجماعات الترابية و كل أشكال الرقابة المتعلقة باختيارات الجماعات الترابية، بحيث أن أدوار الإدارة وجب أن تقتصر على الدعم والمساعدة كما هو منصوص عليه في الفقرة الثالثة من الفصل 145 من الدستور “يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية.” وبالتالي حتى في حالة ملاحظة اختلالات في تدبير الجماعات، فوجب أن تشكل موضوع طعن لدى المحاكم الإدارية احتراما لمبدأ التدبير الحر. وقد يقال بأن الدستور في نفس الفصل 145 قد أعطى للولاة والعمال سلطة المراقبة الإدارية. في هذا السياق يمكن إبداء الملاحظتين التاليتين: - الحديث عن سلطة المراقبة في سياق الفقرة المتعلقة بدور الولاة والعمال في علاقتهم بالحكومة “ يعمل الولاة والعمال، باسم الحكومة، على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها، كما يمارسون المراقبة الإدارية.”فهذا الاختصاص يمارس باسم الحكومة، واعتمادا على مبدأ التدبير الحر فلا سلطة للحكومة عليها، ومن تم لا رقابة. كما أن الفقرة التي تتحدث عن علاقة الولاة والعمال بالجماعات هي الفقرة الموالية والتي تتحدث عن المساعدة في تنفيذ المخططات والبرامج التنموية. وتأتي الفقرة الموالية “يقوم الولاة والعمال، تحت سلطة الوزراء المعنيين بتنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية، ويسهرون على حسن سيرها.” لتوضح دورا آخر للولاة والعمال يتمثل في تنسيق أنشطة المصالح اللاممركزة، بما يمكنهم من دعم الجماعات الترابية ومساعدتها في تنزيل مشاريعها التنموية عبر تنسيق عمل المصالح الإدارية التابعة للحكومة - وحتى لو سلمنا جدلا بأن المراقبة الإدارية تتجه حتى إلى الجماعات الترابية، فالقيام بها يجب أن يتم في سياق احترام مبدأ “التدبير الحر” أي عبر الآلية القضائية. كما أن مبدأ التدبير الحر يستوجب مراجعة عميقة لمجمل النصوص القانونية المرتبطة بمجالات تدخل الجماعات الترابية لتكريس هذا المبدأ. مبدأ التفريع: لقد نص الفصل 140 من الدستور على أن للجماعات الترابية، وبناءا على مبدإ التفريع، اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة. وعلى أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تتوفر، في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها. وهو ما يعني أمرين أساسيين: أ- اعتمادا على مبدأ التفريع وجب إعادة النظر بشكل عميق في اختصاصات الجماعات الترابية لتجنب التداخل الحاصل حاليا فيما بينها بناءا على تقسيم واضح للوظائف، حيث يمكن تركيز وظائف الجهات على كل ما هو تنموي والجماعات الترابية الأخرى على ما هو خدماتي ب- نص الدستور على أن كل الجماعات الترابية وجب أن تتوفر على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها، مع ما يعنيه ذلك من حاجة إلى تنظيم هذه السلط ووضع المؤسسات الإدارية اللازمة لممارستها.