الكل متفق على أن خلاص المغرب، وتحقيق الدولة الديمقراطية الحديثة، يمر عبر دستور جديد. لكن، لكل واحد من هؤلاء دستوره. اليساريون لهم دساتيرهم التي تبدأ من تشكيل مجلس تأسيسي مهمته صياغة دستور ديمقراطي- شعبي، وتصل إلى المطالبة بدستور ديمقراطي، بغض النظر عن طريقة صياغته، أومن يشارك فيها. الإسلاميون ينادون بدستور يؤكد على إسلامية الدولة. الأحزاب التي كانت توصف بالإدارية تقول أنها مع دستور جديد لا يفرط في الفصل القديم: 19... هذا من دون أن ننسى أن عددا من السياسيين، و بعض الصحفيين لا يفرقون بين الإصلاح الدستوري، والمراجعة الدستورية، وتعديل الدستور، وهذا لا يمكن تفسيره إلا بواحدة من اثنين: 1. مدى الأمية القانونية لسياسيينا. 2. مدى لا مبالاة هؤلاء السياسيين بالمسألة الدستورية، إلى درجة أنه لما يُعطى لهم الضوء الأخضر لتمييع الحديث عن المطالب الدستورية، لا يعطى لهم معه "الكود دو لا روت"، وبالتالي يصطدمون بعنف بحقيقتهم، فيكبِّدون الشارع العام خسائر لا تقدر بثمن. وكما أنه لكل من هؤلاء السياسيين دستوره، فلكل منهم أيضا طريقته للمطالبة به. بعضهم، مثل أحزاب الكتلة، يلوحون بالإصلاحات السياسية والدستورية لجني مصالح فئوية ولحظوية، فهم لا ينكرون أنهم يتواجدون في مؤسسات شكلية ومزورة وفاسدة، لكنهم يراهنون على إصلاحها؛ من دون أن يحددوا لأنفسهم ولقواتهم الشعبية سقفا زمنيا يكون حاسما: إما تصليب عود ومصداقية هذه المؤسسات أو الانسحاب منها، وخوض أشكال وقنوات أخرى للنضال من أجل دولة المؤسسات، مادامت المؤسسات مجرد وسيلة لبلوغ غاية اسمها الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. البعض الآخر مثل الحركة الشعبية، الذي أنشئ لأجل تمييع الحياة السياسية وتبرير الخطوات السياسية "السديدة"، التي يقوم بها الملك، تجده ينطلق الآن ويقول أنه أيضا تهُمه حركة 20 فبراير، وتهمه الإصلاحات الدستورية، وأنه فقط يلتمس من صاحب الجلالة ألا يغيّر الفصل 19! هذا الفصل، لمن لا يعرفه، هو الذي ظلت الحركة الديمقراطية والحقوقية المغربية تعتبره لوحده دستورا داخل الدستور. هؤلاء جميعا مُضاف إليهم حزب العدالة والتنمية، الذي تعيش قيادته حالة نفسية ذُهانية paranoïaque ؛ تجعله خايف من جنابو، بوهم أن الكل يسعى للانقضاض عليه، كما يحس بأن من بيده حل الأمور وعقدها (المحيط الملكي) لا يثق في نواياه، الشيء الذي يجعله يقدم التنازلات تلو التنازلات، وبالتالي فهو يغلف مطالبه الأصيلة لتحقيق الدولة التيوقراطية، مع إبداء حسن السلوك للملك، وأيضا إرضاء أصواته المزعجة المطالبة بتعديلات دستورية وإقرار ملكية برلمانية، عبر القول لها وللمحيط الملكي وللخصوم السياسيين في آن، بأن الحزب مع تعديل دستوري، شريطة أن يضمن الدستور اسمرار ومركزية مؤسسة إمارة المؤمنين! لن نتحدث طبعا عن جماعة العدل والإحسان لأنها كلما تخلصت من إرث مؤسِّسِها الشيخ عبد السلام ياسين السلبي من الديمقراطية، إلا وجدت نفسها تلتقي مع غريمها التقليدي اليسار "الجذري"، فتعود إلى سباتها الأخلاقوي الدَّعوي؛ فقبل أيام قالت السيدة نادية ياسين بأن العدل والإحسان تحمل مشروعا مجتمعيا يهدف إلى التغيير الفعلي من خلال التربية. وأن الجماعة ليست حزبا سياسيا، وأن "السياسة بدلالتها الضيقة تتجلى في مشاركة صورية، في ظل انتخابات لا مصداقية لها، في مؤسسات صورية لا تملك سلطة القرار، في ظل دستور ممنوح لا يعترف للمؤسسات التشريعية بأية صلاحية" . يبقى موقف اليسار من المسألة الدستورية، وهو الذي يهمني لوضوحه من جهة، ولديمومة (لا موسمية) طرحه. وأبدأ هنا بموقف الحزب الاشتراكي الموحد الذي يطالب بوضوح ب "دستور جديد للبلاد يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة واحترام مبدأ سيادة الشعب وإقامة نظام ملكية برلمانية يسود فيه الملك ولا يحكم"، وإذا كان الحزب لا يشترط طريقة محددة للوصول إلى هذا الدستور، ويقول أن سقف مطالبه هو الملكية البرلمانية، فإن حزبي النهج الديمقراطي والطليعة يطالبان بإقرار دستور برلماني يتجاوز طابع المنح في الدستور القائم، نظرا لكون الدستور يجسد إرادة الشعب، وبالتالي ضرورة وضعه من طرف مجلس تأسيسي منتخب بشكل ديمقراطي ونزيه، أو من طرف أية هيئة مماثلة. وهذا ليس مسألة غريبة أو "لاتراعي الاستقرار الذي تشهده الإيالة الشريفة بقيادة مولانا المنصور بالله" كما تقول العبارات الإنشائية لأبواق النظام، بل إن هذا مثل هذا الأمر حدث في كل الانتقالات الديمقراطية، وهاهي تونس ومصر أمام أعيننا: الشعب مصدر السلط؛ والشعب هو الذي يختار نظامه، فإذا كانت أغلبية الشعب تريد الملكية، فإن النهج والطليعة سيصبحان ملزمين بها، وليواصلا- إن شاءا- نضالهما من أجل إقناع الشعب بغير ذلك. أما إذا كان الشعب يرى شكلا آخر للحكم فليحدده عن طريق هيآته المنتخبة، وعلى الكل أن يحترمه. من جهة أخرى، وفيما يتعلق بالأفراد والمجموعات السياسية التي لا تتفق مع النظام الملكي في المغرب، أليس من حقهم أن يعتقدوا ذلك، وأن يدعوا حتى إلى بديل جمهوري، طالما كان ذلك في إطار القانون الملائم لحقوق الإنسان، وطالما أنهم لا يدعون لا للعنف المسلح، و لا للصعود إلى الجبل؟ هذه هي عين الديمقراطية= حكم الشعب نفسه بنفسه. للي ما فيها لا لينين و لا نيني، ولا كل المسخرين لتبخيس نضالات المناضلين الصادقين، أو أولئك الكارين حنوكهم لنظام بدأت تسقط أوراق التوت عن عوراته وعن أذنابه.