عام 1978 صادق الإسبانيون على الدستور الذي يؤسس للملكية البرلمانية في جارتنا الإيبيرية. وفي نفس السنة أطلق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية– عبر البيان العام لمؤتمره الثالث- صرخته المدوية مطالباً بشكل لا يغشاه أي لبس أو غموض بالانتقال إلى نظام الملكية البرلمانية، وذلك بعد رحلة من الغموض والارتباك كانت تتعايش فيها بداخل الحزب نزعات جمهورية مضمرة، واتجاهات باحثة عن أفق تسوية مع المؤسسة الملكية بتقديرات مختلفة عن الشروط. في سنة 1975 أنجز الاتحاد الاشتراكي خطوة الحسم في طبيعة اختياره السياسي الاستراتيجي، وبعد ثلاث سنوات أنجز الخطوة الثانية في اتجاه تحديد مضمون النظام السياسي المأمول المطابق لاختيار استراتيجية النضال الديمقراطي المتبناة منذ المؤتمر الاستثنائي. وجاء بالفقرة الشهيرة التي تضمنها بيان المؤتمر الثالث والتي أزعجت دوائر السلطة، فتدخلت للحيلولة دون نشرها، تنصيص على المطالبة ب»مراجعة الدستور الحالي مراجعة شاملة تستهدف تحويل نظام الحكم في بلادنا من ملكية رئاسية مخزنية تستظل بظلها الطبقات المستغلة والفئات الانتفاعية الانتهازية للكسب والإثراء والتهرب من المراقبة الصارمة والمحاسبة الدقيقة من طرف السلطات المختصة التشريعية منها والقضائية والتنفيذية، وتحويلها إلى ملكية برلمانية دستورية ديمقراطية تتحمل فيها الحكومة وكافة أجهزة التسيير والتنفيذ مسؤوليتها كاملة أمام ممثلي الشعب الحقيقيين ويتولى فيها الملك رئاسة الدولة كحكم فوق الأحزاب والطبقات». نجحت إسبانيا في التحرر من ديكتاتورية فرانكو وبناء ملكية برلمانية وطيدة الأركان. أما المغرب فلم ينجح في الانتقال من حالة «الهامش الديمقراطي» التي لا هي بالديمقراطية ولا بالديكتاتورية، إلى حالة الديمقراطية بآلياتها الأساسية المعروفة. بعد عشرين عاما من المؤتمر الثالث للاتحاد، أبحرت سفينة التناوب في رحلة تمنى الديمقراطيون أن تصل بها إلى مرفأ الملكية البرلمانية. لكن الذي حصل بعد ذلك أن الاتحاد، وبعد عشر سنوات أخرى، عاد في مؤتمره الثامن وبعد أن أنهكته مواجهة الأمواج المتلاطمة ليعلن مجدداً أن هدف الملكية البرلمانية يجب أن يوضع في جدول المرحلة السياسية. والحاجة إلى الملكية البرلمانية بالنسبة إلى نظامنا السياسي تنطلق من قاعدتين أساسيتين نص عليهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالمادة 21 من هذا الإعلان تؤكد أولاً «أن إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم» وتؤكد ثانياً أن «هذه الإرادة يجب أن تتجلى من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام». ومعنى ذلك أن الشعوب تختار بالانتخاب الدوري من يدير شؤونها العامة نيابة عنها، أي أن القرار يفيض عن صناديق الاقتراع. وفي نظام ملكي وراثي، لا يمكن أن تحترم القاعدة المذكورة سابقا إلا عبر الملكية البرلمانية، باعتبارها صيغة الزواج الوحيدة الممكنة بين الملكية الوراثية والديمقراطية. يمكن لحزب سياسي أن يدفع بأن الوقت لم يحن بعد في المغرب لتحقيق الملكية البرلمانية، أو بأن الأحزاب السياسية عندنا غير مؤهلة حالياً لتسلم مقاليد التدبير العمومي في كل وجوهه ومجالاته، لكن هذا الحزب السياسي مثلاً لا يستطيع أن ينسب نفسه إلى شجرة الأنساب الديمقراطية، ويقول عن نفسه إنه فرع من تلك الشجرة، ثم يعلن في ذات الوقت رفضه لصيغة الملكية البرلمانية، لأنه في هذه الحالة يرفض الديمقراطية بكل بساطة. نحن إذن، نحتاج إلى إصلاح دستوري جذري وشامل لاستيعاب أسس وميكانيزمات النظام الملكي البرلماني وإقرارها، إلا أن مسار المطالبة بذلك الإصلاح لم يخضع لمنحى تراكمي بل عرف بعض المد والجزر. في مرحلة 1991-1996 ازدهرت فكرة الإصلاح الدستوري وأينعت، وبرز هذا الإصلاح كمدخل أساسي لمعالجة الأزمة العامة القائمة بمختلف تجلياتها، وهنا ظهرت لأول مرة مقترحات الأحزاب الديمقراطية مفصلة عبر مذكرات رُفعت إلى الملك، وحملت نفحة برلمانية، مع قدر مبالغ فيه ربما من الاعتدال والكياسة، وغدا الإصلاح الدستوري بمثابة خط فاصل بين القوى الديمقراطية والأحزاب التابعة. وفي مرحلة 1996-2002، استبدل مشروع الإصلاح بمشروع المشاركة الحكومية، وأصبحت هذه الأخيرة في النهاية هدفا لذاته حتى وإن لم يؤمن الشروط الدنيا للإصلاح، وتم تحنيط المطالبة بإصلاح الدستور وترديد مقولة أن النص لا يهم، ولم يقدم تصريح حكومة «التناوب» أي وعد بإصلاح الدستور وتغيير قواعد اللعب، بل أثنى ضمنياً على الفلسفة التي تتفرع عنها تلك القواعد، وعُد كل مطالب بالإصلاح الدستوري في زمرة الراديكاليين العدميين الذين يخدمون موضوعياً أعداء «التجربة» ويقصدون إلى إيذائها، وقيل وقتها أن الشعب لا يهمه الجدل الفقهي حول النصوص، بل يريد الخبز والمدرسة والمستشفى والماء والطرق والكهرباء والشغل، وأن كسر جدار عدم الثقة بين القوى الديمقراطية والملكية كفيل وحده بتوفير مفاتيح حل كل المعضلات التي تهم الحياة اليومية للمواطن. أما في مرحلة 2002-2008 فقد أطل من جديد مطلب الإصلاح الدستوري بعد سنوات من التواري والخسوف، وظهر كحل للأعطاب التي انتصبت أمام «تجربة التناوب» ولجمت تطورها وحدت من تأثيرها (محاضرة بروكسيل لعبد الرحمان اليوسفي)، وشهدت الساحة اهتماما متزايداً للمجتمع المدني بالمسألة الدستورية. إلا أن أحداث 16 ماي 2003 ستمارس تأثيراً سلبيا على الخطاب الحزبي الذي جنح في كثير من الحالات إلى إعلان طلب على الاستبداد، واعتبر أن إمارة المؤمنين بالتأويل الواسع لمدلولها وسلطاتها تمثل صمام أمان لحماية بلادنا من التطرف والإرهاب. لكن خطاب الإصلاح الدستوري استرجع بعد مدة من ذلك حضوره ووهجه، وتوج ذلك بعودة شعار الملكية البرلمانية إلى الورود على لسان الاتحاد الاشتراكي في وثائقه الرسمية، وباستقطاب قضية الإصلاح الدستوري للكثير من المؤيدين والمناصرين في صفوف النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. علماً بأن أحزاب اليسار المعارض ظلت عموماً، وفي مختلف المحطات والمراحل، متشبثة بأطروحة الإصلاح الدستوري ولم تتزحزح عنها قيد أنملة. ورغم سلامة هذا الموقف الذي يعكس درجة مبدئيتها وانسجام خطابها، فإنه لم يفض إلى تحسين وزنها الانتخابي. وإذا كان مطلب الملكية البرلمانية قد عاد إلى الظهور في خطاب حزب لعب أدواراً أساسية في تاريخ المغرب المستقل، وتحول المطلب إلى موضوع للتناظر والنقاش العلني، وأثار الكثير من التعليقات، وحرك الأمل لدى البعض في بزوغ مرحلة جديدة ينتفض فيها اليسار على نفسه ويجدد ذاته ويصحح أخطاءه، فإن هناك حاجة ماسة ربما إلى إبداء نوع من الحذر والاحتياط من أن يرتبط ترديد مقولة الملكية البرلمانية لدى بعض النخب بنوعين من السلوك الضار بجوهر الفكرة أو بأحدهما: النوع الأول يتمثل في استعمال المقولة بمعان غير متطابقة مع المضمون الصحيح للملكية البرلمانية، وبعبارة أخرى وضع علامة تجارية على سلعة أخرى لا علاقة لها بها. أي تحويل الملكية البرلمانية إلى عبارة إنشائية بلا مضمون، ومسخ المصطلح وتمييعه. ولقد بدأنا نلاحظ أن هناك اجتهادات في تأويل ذلك المصطلح تمنح لنفسها حق التصرف فيه بكل حرية وجعله مرادفاً لمستوى من الإصلاحات والأفكار التقليدية التي سبق عرضها والتي لا تنضبط للأسس الجوهرية التي تقوم عليها الملكية البرلمانية. لا يمكن أن تكون هناك ملكية مغربية تشذ عن الأساسيات والثوابت التي تمثل لب المفهوم وقاعدته. فبالنسبة إلى الوضع السياسي والمؤسسي في المغرب، لا يمكن الحديث في نظرنا عن ملكية برلمانية بدون خمسة إجراءات أساسية على الأقل: 1- تفويض أغلب سلطات الملك للوزير الأول، أي أن يمارس هذا الأخير السلطات الأساسية المتعلقة بتسيير الجهاز التنفيذي، عدا بعض الاستثناءات التي يتعين أن تظل بين يدي الملك، كسلطة إعفاء الحكومة، وإصدار الأمر بتنفيذ القانون، وحل البرلمان، والقيادة العليا للجيش، والتعيين في الوظائف العسكرية، واعتماد السفراء باقتراح من الحكومة، والعفو الخاص، وإعلان حالة الاستثناء بقيود، وإشهار الحرب بقيود، وحمل لقب أمير المؤمنين، والتمتع بحصانة مطلقة. وبالتالي فإن الوزير الأول في النظام الملكي البرلماني هو الذي يدير السياسة العامة للبلاد وهو الذي يتحمل وحده مسؤولية تطبيق برنامجه الحكومي، وهو المشرف على تدبير مختلف الملفات الكبرى داخلياً وخارجياً، وتتبع عمل الوزراء ومراقبتهم وتوجيههم. 2- تخويل كافة صلاحيات مجلس الوزراء إلى مجلس الحكومة، أو تقرير رئاسة الوزير الأول نفسه لمجلس الوزراء بصفة دائمة. 3- تعيين الوزير الأول دستورياً من بين صفوف الأغلبية البرلمانية بعد استشارة رئيس مجلس النواب وممثلي الهيئات السياسية التي تحتل صدارة النتائج الانتخابية (دسترة المنهجية الديمقراطية). 4- دسترة الدستور نفسه، أي تحويله إلى وثيقة ملزمة، وخاصة عبر تعديل الفصل التاسع عشر بما يسمح بتقييد جميع المؤسسات بنصوص الفصول الأخرى للدستور، وتحديد معنى إمارة المؤمنين كلقب يسمح للملك فقط بتمثيل سلطة إشراف رمزية على شؤون المغاربة المسلمين. 5- إقرار قواعد فصل السلطات المتعارف عليها، وتوسيع سلطات البرلمان، وتمتيع السلطة القضائية بكل وسائل الاستقلالية، وإحداث آلية مبسطة لضمان الرقابة على دستورية القوانين، وتأمين التوازن في تركيبة المجلس الدستوري. النوع الثاني من السلوك الضار بجوهر فكرة الملكية البرلمانية يتمثل في رفعها كشعار بخلفية الضغط على النظام، من أجل الحصول على مكاسب حزبية ضيقة، مع الاستعداد المستمر لطي صفحة هذا الشعار، ووضعه على الرف، عند حصول تفاهم أو تسوية، والتصدي عندئذ لكل من يواصل رفع الشعار واتهامه بالعدمية والقفز على الواقع. إن عرض هذه الفرضية لا يعني أننا هنا بصدد محاكمة النوايا، بل يعود أساساً إلى سوابق الماضي التي تحمل على الاحتراس. فقد مرت بنا وقائع تفيد الاستخدام التاكتيكي لشعار الإصلاحات الدستورية لتحسين مواقع النخب، برفعه ثارة، ثم طمره ثارة أخرى بعد تغير المواقع، وعلمتنا التجربة أن طبقتنا السياسية لا تفي بتعهداتها ولا تقيم وزنا لسابق وعودها. لهذا ورغم أن المطالبة بالملكية البرلمانية تمثل في حد ذاتها عملاً إيجابيا، فإننا نحتاج اليوم إلى نوعين من الضمانات: ضمانات بأن الحديث عن الملكية البرلمانية يعني الملكية البرلمانية فعلاً بالحق والحقيق، وضمانات بأن المطالبة بها تمثل موقفاً مبدئيا مجرداً من الحسابات النفعية الخاصة كالسعي إلى إحراج طرف أو جلب مصالح فئوية أو غير ذلك. ويبدأ تقديم «الضمانات» مثلاً، بأن يعرض من يرفع شعار الملكية البرلمانية مقترحات تعديلاته الدستورية المفصلة التي يرى أنها ستنقلنا إلى ضفة النظام الملكي البرلماني، حتى نستطيع الحكم عليها، وأن يباشر صياغة أجندة للتحرك ويدخل معه أطرافاً أخرى من المجتمع المدني والحزبي في دائرة الالتزام والمتابعة الجماعية لتنفيذ التحرك، بالإضافة ربما إلى أشياء أخرى.. المهم أن السياسة اليوم في المغرب أصبحت في حاجة إلى «عقد تأمين»!