عقد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية «الشوط الثاني» لمؤتمره الوطني الثامن، وذلك بالصخيرات أيام 7 و8 و9 نونبر 2008، وسط أجواء شديدة من الترقب. فالأمر يتعلق بسابقة حزبية أولى، حيث تجري أشغال مؤتمر واحد عبر شوطين متباعدين زمنياً، وتتعثر الأشغال في الشوط الأول إلى الحد الذي ينعدم فيه المناخ السليم للحوار والنقاش وتبادل الرأي والإنصات بين المؤتمرين. وحين التأم شمل المؤتمرين ثانية، كان هناك انشغالان رئيسيان يستبدان بأذهان الجميع: الأول متعلق بمصير إعمال المساطر الجديدة لانتخاب الأجهزة وحظوظ نجاحها، وما قد تفرزه من مفاجآت، ومدى وجود رغبة لدى كل الأطراف الداخلية لقبولها والتسليم بنتائجها. والانشغال الثاني يهم المشاركة الاتحادية في الحكومة وهل هناك ضرورة لاستمرارها في ضوء التقييم الجديد الذي قدمته القيادة الحزبية أخيراً لأوضاع البلاد. لم تكن هناك صعوبة في رصد وجود تيار قوي وسط المؤتمرين داعم لفكرة العودة إلى المعارضة، حتى كدنا نصل قبيل انطلاق أشغال شوط الصخيرات إلى اعتبار أن رجوع الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة أمر محسوم فيه مسبقاً. وقبل بدء الأشغال، كان الرأي العام يعرف الوجوه التي ستتبارى للظفر بمهمة الكاتب الأول، ويعرف أيضاً نص الأرضية السياسية التي ستطرح للتصويت، وظهر أن هناك نقطتي ضعف تشدان بخناق هذه المحطة الاتحادية: فكل الوجوه المرشحة هي رموز للتجربة السابقة، وتشترك في تحمل وزر الدفاع عن اختيار المشاركة في حكومتي 1998 و2002 وفي التبشير بفضائل وحسنات التناوب، وكلها قادت مغامرة سياسية تحمل الكثير من أوجه الجدة، لكنها لم تفض إلى التأسيس لوضع سياسي متقدم نوعياً ومحرك لميكانيزمات الانتقال وناقل إلى مرفأ الأسس المعروفة للديمقراطية. فكان أن أصيبت أوسع الجماهير الشعبية بخيبة أمل كبيرة كبر حجم الآمال العريضة التي وضعتها في تجربة المشاركة الاتحادية في الحكومة. كان المنطق السياسي السليم أمام ما آلت إليه تلك المشاركة وأمام نتائج انتخابات 2007 وما طبعها من عزوف، يقضي بأن يتراجع قادة التجربة إلى الوراء، وأن يفسحوا المجال لبروز قيادة جديدة تتحمل مهمة تسيير المرحلة الجديدة. كما أن المؤتمرين وجدوا أنفسهم أمام أرضية سياسية واحدة، بينما كان المأمول أن تنفتح بنية الحزب، وخاصة في فترة أزمة، لقبول التباري المبني على تعدد الأرضيات السياسية، كما يعمل بذلك في النماذج الحزبية الاشتراكية الديمقراطية عبر العالم. اختار الاتحاديون لأول مرة في تاريخهم كاتبهم الأول عبر صناديق الاقتراع وعبر تنافس حقيقي بين مرشحين متعددين، وكانت النتيجة لصالح الأستاذ عبد الواحد الراضي، لأنه نجح في استمالة جزء من شباب الحزب الذين وعدهم بأن ترشيحه يهم فقط مرحلة انتقالية ممهدة لتسليم المشعل للأجيال الجديدة، والتزم بتسريع وتيرة هذا الانتقال، وأكد أنه سيلتمس من الملك إعفاءه من مهمته الوزارية للتفرغ لبناء الحزب غداة فوزه في انتخابات الكاتب الأول. وهو ما اعتبره بعض شباب الحزب رسالة أخلاقية في مرحلة عزت فيها مثل هذه الرسائل، وفي ظرفية تتطلب بالضبط تضحية القادة بالمصالح المرتبطة بالمواقع الرسمية، وفي نفس الوقت نجح الأستاذ الراضي في استقطاب جزء هام من فئة «أعيان الانتخابات» التي تزايد نفوذها في الحزب. وعلى العموم، يمكن القول بأن محطة الصخيرات اتسمت بخمس إيجابيات مؤكدة: أولا– استكمال كافة أشغال المؤتمر، والنجاح في تجنب الانفجار والتصدع. هذا الهدف قد يبدو بسيطاً، ولكن بعد الذي جرى في الشوط الأول اشتد التخوف من احتمال تشتت الحزب، ولهذا اعتبر كثير من الاتحاديين أن التوصل إلى السير في أشغال المؤتمر إلى النهاية، وتنفيذ بنود جدول الأعمال يعتبر في حد ذاته انتصاراً، لقد أصبح الرهان هو الحفاظ على الحزب أولاً. ثانياً- التوافق حول المساطر والقبول بكل ما قد تفضي إليه من مفاجآت بروح رياضية وعدم الاعتراض على النتائج أو الطعن فيها. ثالثاً- اختيار الكاتب الأول بالتباري المفتوح وتمكين المتبارين من فرص قانونية متكافئة واعتماد التصويت السري والارتكان إلى حكم صناديق الاقتراع. رابعاً- إتاحة الفرصة للمرشحين لتقديم برامجهم أمام عموم المؤتمرين، كأساس للتعاقد في ضوء الخطوط الكبرى للأرضية السياسية العامة، وهو ما يمثل طريقا لإنماء روح المسؤولية، والمحاسبة على ضوء التزامات واضحة. ومع ذلك فقد لوحظ أن بعض المرشحين كانوا يدلون بتصريحات متناقضة حول هذه الالتزامات، ويتخلون عن بعضها تبعا لتطور مسار التحضير للمؤتمر، أو يعمدون إلى ركوب لغة يلابسها الغموض ويمهرها الالتواء، كإيراد تعابير وصيغ قابلة لعدة قراءات، فقد تفيد معنى الانسحاب من الحكومة وقد تفيد معنى الاستمرارية فيها. خامساً- العودة إلى طرح مطلب الملكية البرلمانية بعد أن هجره الحزب ردحاً من الزمن، ويتجلى ذلك من خلال المصادقة على بيان سياسي يؤكد «أن تجاوز اختناقات المشهد السياسي يقتضي القيام بإصلاح دستوري ومؤسسي كمدخل ضروري لتجاوز المعيقات التي تواجه مسار الانتقال الديمقراطي، وذلك بالتوجه نحو إقرار ملكية برلمانية يحقق في إطارها مبدأ فصل وتوازن السلط، بما يحفظ للمؤسسات كلها أدوارها ومكانتها ويدقق صلاحياتها ويؤهلها للاضطلاع بمهامها في هيكلة الحقل السياسي وتأهيله». إن هذا الشيء مهم بكل تأكيد، وإن كنا لا نعرف حتى الآن ما هي العناصر التي سيتم تبنيها كأساس في تحديد مضمون الملكية البرلمانية. مع التذكير بأن إرفاق شعار الملكية البرلمانية بشعار آخر يقول بأنها لا تعني تقليص هذه السلطة أو تلك بل تعني توازن السلط، يزرع بعض الإبهام في التعاطي مع مفهوم الملكية البرلمانية، فهذه الأخيرة تعني حتما وبكل جلاء تقليص سلطات الملك وارتدادها إلى المدى الذي لا يتعارض مع مبدأ ربط القرار بصناديق الاقتراع، وربط المسؤولية بالمحاسبة والجزاء، وربط ممارسة صنف من أصناف السلطة بالتخلي عن صنف مقابل من السلطة. وبصدد قضية استمرار مشاركة الاتحاد في الحكومة الحالية أو مغادرتها، يفرض البيان العام للمؤتمر على القيادة الجديدة للاتحاد «أن تشرع مع حلفائنا السياسيين في مناقشة موضوع مشاركتنا في الحكومة، بشكل يحدد بوضوح الأفق الذي لابد أن نضع هذه المشاركة في إطاره، أي أفق الإصلاح السياسي والدستوري، وأفق التحضير لانتخابات 2009 الجماعية، بما يجعل مهمة إنجاز هذه الإصلاحات الهدف الأول لاستمرار حزبنا في الحكومة. كما يضع هذه المشاركة في حالة استمرارها مرتبطة بتعاقد جديد حول طبيعتها ومضمونها ومرتبطة بإجراءات سياسية واجتماعية يعلن عنها في أقرب الآجال». إن هذه الفقرة من البيان العام، تفرض ألا يستمر الاتحاد الاشتراكي في الحكومة إلا بتحقيق أربعة أهداف، وفي حالة عدم التوصل إلى تحقيقها يكون عليه مغادرة الحكومة. لكن البيان لا يحدد أجلاً لذلك، ولا يحدد الخطط العملية لتطبيق هذه الأهداف، ولا يثير شروط وإمكانات نجاحها في السياق السياسي الحالي، ولا يجيب عن بعض الأسئلة التي تُثار في ذهن القارئ بداهة منذ الوهلة الأولى. لنتأمل هذه الأهداف: الهدف الأول: وضع المشاركة الحكومية في أفق الإصلاح الدستوري. وهذا ربما يعني الاتفاق على أن تقود التجربة الحكومية الحالية إلى الإصلاح الدستوري، مع تحديد ملامحه المسبقة. وفي هذه الحالة هل الاتفاق على هذا الإصلاح يجب أن يتم فقط مع «الحلفاء»؟ أم يشمل الملكية أيضاً، أم هما معا؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تقديم تصريح حكومي جديد مادام التصريح الذي على أساسه تم تنصيب الحكومة الحالية لم يُشرع على هذا الأفق. ولكي تسير الحكومة نحو الإصلاح الدستوري، يتعين أن تتفق على ذلك أيضاً باقي مكوناتها، بما في ذلك التجمع الوطني للأحرار. إن الاتحاد الاشتراكي لم يذكر في بيانه كلمة «كتلة»، وظل يردد لسنوات طوال التزامه بالعمل مع «حلفائه» في الأغلبية، ومن بين مكونات هذه الأغلبية التجمع الوطني للأحرار الذي دخل مع حزب الأصالة والمعاصرة في علاقة ارتباط عضوي أصبح لهما بموجبه فريق نيابي موحد. هناك إذن اليوم بنية مشتركة بين الوافد الجديد وحلفاء الاتحاد من خارج الكتلة، فهل سيتوقف الاتحاد عن اعتبار التجمع حليفاً بعد أن وضعه هذا المعطى الجديد في حرج. وهنا يبرز مثلاً وجه من أوجه الخلل في الاستراتيجية التحالفية للاتحاد، فالتجمع الوطني للأحرار في حقيقة الأمر لا يختلف عن «الوافد الجديد». الهدف الثاني: وضع المشاركة الحكومية في أفق التحضير لانتخابات 2009، ويعني ذلك ربما حسب الاتحاد، إعادة «تقويم هيكلي» لطريقة التحضير الحكومي للانتخابات الجماعية المقبلة، واعتماد تحضير «بطريقة أخرى» يشمل مراجعة نمط الاقتراع ويبلور «إرادة سياسية واضحة في محاربة الفساد الانتخابي»، ويضع خطط «إخراج المجال السياسي من هيمنة الأعيان ومراكز النفوذ»... إن هذا يعني أن الاتحاد الاشتراكي لا يشعر حالياً بأنه يؤثر في مسار التحضير الرسمي لانتخابات 2009، وهو يريد أن يمارس تأثيراً ملموساً على هذا المسار. الهدف الثالث: وضع تعاقد جديد حول طبيعة ومضمون المشاركة الحكومية. والسؤال الأساسي الذي يطرح هنا، هو مع من يجب أن يتم هذا التعاقد، فليس المهم هو القول بحصول التعاقد بل بتوثيقه في بنود واضحة وتحديد أطرافه ومداه الزمني وما يفيض عنه من التزامات متبادلة. لقد ظل الخطاب الاتحادي يتحدث عن مسلسل ربيع 1998 باعتباره ثمرة لتعاقد ما مع المؤسسة الملكية، ولم نستطع منذ عشر سنوات أن نقع له على مقتضيات محددة، ونخشى غدا أن تقول القيادة الاتحادية لمناضليها أن تعاقداً جديداً قد حصل دون أن يكون لهم وسيلة للتثبت من ذلك. الهدف الرابع: وضع إجراءات سياسية واجتماعية يعلن عنها في أقرب الآجال (جيل جديد من الإصلاحات- سياسة واضحة وشمولية لمحاربة الفساد والرشوة في المجالات الاقتصادية والسياسية على السواء- وضع سياسة متقدمة لتدبير المجال الترابي...). فهل يكفي هنا الإعلان عن هذه الإجراءات عبر بلاغ مشترك للكتلة الديمقراطية أم أن الأمر يتطلب بياناً صادراً عن الجهاز التنفيذي؟ لنكن صرحاء. إن شروط تحقيق الحزب لهذه الأهداف غير متوفرة الآن، ولربما كان قادة الاتحاد أعلم بذلك، ولكن إعلانهم العزم على التفاوض حولها تحت طائلة الخروج من الحكومة، قد يكون تم لمجرد ربح الوقت وتجنب قرار المغادرة الفورية للحكومة، لأن «التوازنات» بالحزب غدت هشة، ويُخشى أن يخل بها قرار مماثل. فلم يكن هناك وقت كاف لمناقشة القرار وللاستعداد لتحمل كافة تبعاته، وكان الجهد كله منصباً حول إنجاح آلية اختيار القيادة وانتخاب الأجهزة، ومعنى ذلك أن الحزب سيعيش حالة مؤقتة، لن يحسم خلالها في طبيعة وضعه السياسي في الساحة، بل سيعمد إلى تدبير الأزمة في انتظار الذي سيأتي.. بيان المؤتمر كان مرتبكا في توصيف المرحلة السياسية الراهنة، وأفرد لها تعابير متناقضة، ولم يقف على الأخطاء التي ارتكبت من طرف الحزب في السنوات الأخيرة بخصوص أسس المشاركة والموقف الانتقائي من الديمقراطية وسياسته التحالفية وممارسته الانتخابية... إلخ. لقد أظهر المؤتمر الثامن أن الحزب يدبر تناقضات كبرى ويعلق أسئلة كبرى وهذا لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية، ولذلك فالحالة الاتحادية اليوم حالة مؤقتة!