تمهيد: شكل مشروع دستور 8 أكتوبر 1908 الذي قدمه علماء وأعيان مدينة فاس للمولى عبد الحفيظ أثناء بيعتهم المشروطة له، والذي نشرته جريدة لسان المغرب، التي كان ينشطها سوريون ولبنانيون بمدينة طنجة، أول محاولة حقيقية لإقامة نظام دستوري ديمقراطي في المغرب، تفوض فيه السلطة التقريرية إلى مجلس منتخب، ويحتفظ السلطان من خلاله بصلاحية التصديق على القرارات. كما كان هذا المشروع الدستوري سباقا إلى طرح جملة من القضايا الأساسية التي أصبحنا نتبناها اليوم داخل ترسانتنا الدستورية، كتبني نظام المجلسين والأخذ بمسألة الجهة والدعوة إلى احترام حقوق الإنسان. لكن هذا المشروع أقبر وأزيح من التداول بعد تنازل المولى عبد الحفيظ عن الحكم لفائدة أخيه المولى يوسف إثر ثورة الجنود الشهيرة بفاس ضد نظام حكمه. لكن أهميتة هذا المشروع برزت في كونه سلم فكرة الدستور إلى رواد الحركة الوطنية من أجل تبنيها والدفاع عنها، بل وجعلها مدخلا للإستقلال عن فرنسا، وهو ما تبلور فعليا في ورقتي " مطالب الشعب المغربي " المؤرخة بتاريخ 1 دسمبر 1934 ، و " المطالب المستعجلة للشعب المغربي " في 25 أكتوبر 1936، اللتين تقدم بهما قادة الحركة الوطنية برئاسة علال الفاسي و محمد بلحسن الوزاني و أحمد بلافريج لسلطات الحماية الفرنسية. لكن بعد فشل المحاولتين السابقتين في إقناع سلطات الحماية بدسترة البلاد، اعتبرت الحركة الوطنية أن الذي يمنع وضع دستور للبلاد ليس هو السلطان وإنما المستعمر الفرنسي، فغيرت أولويات نضالها من أجل الإستقلال، من المطالبة بالدستوركمدخل للإستقلال إلى المطالبة بالإستقلال كمدخل للدستور، خصوصا وأن السلطان كان قد انضم إلى الحركة الوطنية، لذلك تم التركيز على مسألة الاستقلال وتركت مسألة الدستور جانبا إلى ما بعد الاستقلال، ومعلوم أن هذا التغيير في الأولويات كان سببا في ظهور أول انشقاق حزبي، حيث خرج محمد بلحسن الوزاني المعارض لخطوة تأجيل المسألة الدستورية من "كتلة العمل الوطني " التي أسسها رفقة علال الفاسي وأحمد بلافريج، وأسس " الحركة القومية" التي تحولت فيما بعد إلى "حزب الشورى والاستقلال". العهد الملكي وبعدما أحرز المغرب على استقلاله النسبي، ظهرت إلى العلن التناقضات الداخلية التي كانت كامنة بين مكونات الحركة الوطنية في مرحلة ما قبل الاستقلال، وظهر توجه قوي لدى حزب الإستقلال نحو إقامة نظام الحزب الوحيد بالمغرب، وسط معارضة شديدة من أحزاب: الشورى والإستقلال الخصم اللذوذ لحزب الإستقلال، والحركة الشعبية التي كان وزير الداخلية في الحكومة الإئتلافية الثانية الإستقلالي إدريس المحمدي يضايقها، والأحرار المستقلين المتهم من طرف حزب الإستقلال على أنه صنيعة القصر، وأخيرا حزب الوحدة المغربية. ولكون الملك الراحل محمد الخامس، لم يكن هو الآخر، راضيا عن محاولة الإستقلاليين الهيمنة على المشهد السياسي المغربي، فقد قام بإفشال مسعاهم عبر خطوتين: أولا إصداره لأول وثيقة دستورية تحت اسم " العهد الملكي " في 8 ماي من سنة 1958، والتي حدد فيها طبيعة نظام الحكم على أنه ملكية دستورية، ذات نظام سياسي تعددي، وثانيا عبر إصداره لقانون الحريات العامة في 15 نوفمبر 1958 الذي وضع الإطار القانوني لتأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية. إذن خطوة العهد الملكي لم تكن تشكل استجابة طبيعية لتطلع الشعب نحو نظام ديمقراطي، بقدر ما شكلت إجابة على واقع سياسي معين، غلب عليه منطق الصراع على السلطة بين الفرقاء السياسيين (( القصر، أحزاب الحركة الوطنية، جيش التحرير والمقاومة))، والذي نجد إحدى تجلياته واضحة في الخطاب التاريخي الذي ألقاه زعيم حزب الإستقلال علال الفاسي بطنجة سنة 1956 ، ومما جاء فيه (( ليس في المغرب من قوة إلا قوات ثلاث: أولا قوة حزب الإستقلال، وقوة جيش التحرير وثالثها قوة القصر، وإذا اعتبرنا جيش التحرير قوة من الحزب وإليه، كانت في المغرب قوتان لا ثالث لهما: قوة حزب الإستقلال وقوة القصر أو العرش)) " الأحزاب السياسية المغربية لمؤلفه الدكتور محمد ضريف ص 85 " دستور ديسمبر 1962 وفي عام 1960 عين الملك محمد الخامس مجلسا دستوريا مكونا من جل ألوان الطيف السياسي المغربي، باستثناء حزبين رفضا الدخول فيه مطالبين بانتخاب مجلس تأسيسي للدستور عن طريق الإقتراع العام وهما: الحزب الشيوعي المغربي المحظور آنذاك منذ 1959 والإتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان قد انفصل لتوه عن حزب الإستقلال، وأوكل لمجلس الدستور المُعين مهمة وضع دستور دائم للبلاد، وتقديمه للملك قصد المصادقة عليه قبل شهر دجنبر 1962، لكن المجلس فشل في مهامه بعد انسحاب الكثير من أعضائه المحسوبين على أحزاب الحركة الشعبية بقيادة المحجوبي أحرضان، والدستور الديمقراطي بقيادة محمد حسن الوزاني، والأحرار المستقلين بقيادة أحمد رضى اكديرة، وذلك احتجاجا على تعيين علال الفاسي زعيم حزب الإستقلال رئيسا عليه، ليتم إقبار فكرة " مجلس الدستور " إلى الأبد. وفي 7 ديسمبر سنة 1962 أوفى الملك الحسن الثاني بوعد أبيه الذي كان قد وعد بوضع دستور للبلاد قبل انتهاء 1962، ولم يمنعه من ذلك سوى موته المفاجئ إثر عملية جراحية بسيطة على الحنجرة في 27 فبراير 1961، وطرح مشروع دستور ممنوح على الاستفتاء الشعبي، دون أخذ رأي المعارضة فيه أو العودة إلى إحياء فكرة مجلس الدستور، لتُحسم بذلك معركة الدستور والسلطة التأسيسية لفائدة الملك. وتم الاستفتاء على الدستور، رغم دعوة أحزاب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والدستور الديمقراطي والحزب الشيوعي المغربي إلى مقاطعته واستبداله بانتخاب مجلس تأسيسي للدستور. لكن أحزاب الإستقلال والحركة الشعبية والأحرار المستقلين صوتوا لصالح الدستور، والنتيجة الرسمية للإستفتاء كانت بالإيجاب بنسبة 84 في المائة. هذا " الاصلاح السياسي " الذي تمثل في وضع دستور ممنوح للبلاد، حسم الصراع وإلى اليوم حول مجموعة من القضايا الخلافية لصالح الملك: كاختصاصات الملك الواسعة، وطبيعة النظام السياسي، ودور البرلمان، ودور الأحزاب، وكيفية تشكيل الحكومة وصلاحياتها، وهو ما جعل آمال المعارضة وبخاصة الإتحاد الوطني للقوات الشعبية في إقامة ملكية برلمانية عصرية يسود فيها الملك ولايحكم تتبخر، كما أن حزب الإستقلال الذي حاول من خلال تصويته الإيجابي على الدستور مغازلة القصر للحصول على وزارات هامة في الحكومة التي أعقبت انتخابات 17 ماي 1963، خرج هو الآخر خاوي الوفاض حينما استأثر صنيع القصر الجديد، حزب جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، المعروف اختصارا باسم " الفديك" بأغلب الوزارات، ضمن تكتيك السلطة الجديد، ما جعل الحزب ينتقل للمعارضة ولأول مرة منذ الإستقلال. ومن حيث المضمون، حدد هذا الدستور في فصله الأول طبيعة النظام السياسي المغربي بكونه نظام ملكية دستورية ديموقراطية واجتماعية، وفي فصله الثالث منع نظام الحزب الوحيد، وجعل دور الأحزاب مختزلا فقط في تنظيم المواطنين وتمثيلهم دون أي أمل في الوصول إلى السلطة، كما هو متعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية، لأنه وببساطة، من يمتلك السلطة بحسب الدستور هو الملك، كما هو منطوق الفصل 19 " الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة ، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين، والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة." و في فصله 14 أقر حق الإضراب، لكنه أفرغه من أي معنى حينما أضاف إليه عبارة" وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات اللازمة لممارسة هذا الحق"، وأما الفصل 24 فقد أعطى للملك وحده الحق في تعيين أو إعفاء الوزير الأول وباقي الوزراء، دون تمتيع الوزير الأول بأي سلطة تقريرية كيفما كان نوعها، واكتفى الفصل 62 بتمتيع الوزير الأول فقط بسلطة تنظيمية مرتبطة بعمل مختلف الوزارات. وجعل الفصل 36 البرلمان مكونا من مجلسين: مجلس للنواب ينتخ جميع أعضائه بالإقتراع المباشر وآخر للمستشارين وينتخب أعضاؤه بصفة غير مباشرة عن طريق مستشاري الجماعات المحلية والهيئات المهنية وممثلي المأجورين، وحدد الفصل 44 مدة مجلس النواب في أربع سنوات. دستور يوليوز 1970 في 23 مارس 1965 عرفت مدينة الدارالبيضاء المغربية وبعض المدن الأخرى أحداثا دامية بسبب مذكرة تقدم بها وزير التعليم آنذاك يوسف بلعباس، ولم تقبلها الأوساط التعليمية من أساتذة وتلاميذ وطلبة. وبعدها بحوالي شهرين، انهارت الأغلبية الحكومية، ولجأ الملك إلى الفصل 35 من دستور 1962 لاعلان حالة الاستثناء، فتم حل البرلمان الذي كان يرأسه الدكتور عبد الكريم الخطيب، ودامت مدة الحل خمس سنوات بقي فيها المغرب بدون برلمان، حاول خلالها النظام جاهدا ترتيب أوضاعه الداخلية، عبر استئنافه للحوار من جديد مع قيادة الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وخاصة مع "دينامو" الحزب المهدي بن بركة، الذي دفع أخيرا حياته ثمنا لفشل هذا الحوار. وفي العام 1969 تم اكتشاف تنظيم سري مسلح بقيادة الفقيه البصري، وهو أحد أحد مؤسسي جيش التحرير المغربي، وقائد" التيار البلانكي" داخل الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومحكوم عليه سابقا بالإعدام في ما عرف ب " مؤامرة يوليوز 1963" التي استهدفت حياة الملك، وقد قيل حينها أن هذا التنظيم كان يسعى للإطاحة بالنظام احتجاجا على فرضه دستور ديسمبر 1962، وسده لكل منافذ النشاط السياسي. في ظل هذه الأجواء، ومن أجل العمل على تنفيس الجو السياسي الداخلي لتلميع صورة المغرب في الخارج، وتجنيب البلاد آثار انقلاب يونيو 1965 العسكري الذي أوصل الهواري بومدين للسلطة في الجارة الجزائر، أصدر الملك الحسن الثاني عفوا ملكيا على مجموعة من المعتقلين السياسيين، وأرفقه بخطاب إذاعي يوم 8 يوليوز 1970 أعلن فيه عن نهاية حالة الإستثناء، وعن نيته تعديل دستور 1962. فجاء دستور 24 يوليوز 1970، ليحافظ بدوره على الطابع العتيق للملكية المغربية، وليقنن ويُدستر حالة الاستثناء، ويركز أكثر السلطات في يد الملك، ما شكل تراجعا كبيرا عن دستور 62 على علته، وهذه بعض الإشارات الدالة على هذا التراجع: * تم الاحتفاظ بمتن الفصل 19 الذي يشكل وحده دستورا آخرا، وأضيفت له بجانب عبارة " الملك أمير المؤمنين" عبارة "والممثل الأسمى للأمة" في إشارة إلى سمو التمثيل الملكي عن جميع مؤسسات التمثيل الأخرى التي أقرها الدستور، وكفايته عنها في حال غيابها أو انعدامها، بغية سد أي فراغ سياسي قد ينجم عن أي حل محتمل للبرلمان، كما تم تأكيده بصريح العبارة من خلال الفصلين 69 و 70، حيث ورد في الفصل 69 " للملك، بعد استشارته رئيس الغرفة الدستورية وتوجيه خطاب للأمة، أن يحل مجلس النواب بظهير شريف." وفي الفصل 70 " يقع انتخاب مجلس النواب الجديد في ظرف ثلاثة أشهر على الأكثر بعد تاريخ الحل، وفي أثناء ذلك يمارس الملك تلافيا للفراغ بالإضافة إلى السلط المخولة له بمقتضى هذا الدستور السلط التي يختص بها مجلس النواب." * وجاء الفصل 21 بصيغة جديدة أعيد من خلالها النظر في تركيبة مجلس الوصاية، واختصاصاته التي استثني منها مراجعة الدستور، وصفته الجديدة كهيئة استشارية تعمل إلى جانب الملك غير البالغ لسن الرشد، إلى حين بلوغه ذلك. بخلاف دستور 62 الذي أعطى سلطة التسيير إلى مجلس الوصاية دون تقييدها بموانع أخرى كضرورة الإستشارة مع الملك اليافع، أوالإمتناع عن مراجعة الدستور. والهدف من وراء ذلك، هو سد كل المنافذ التي قدد تتسرب من خلالها بعض صلاحيات الملك إلى جهات أخرى. * وعلى عكس دستور 1962 ، قيد الفصل 37 من الدستور الجديد حصانة النواب البرلمانين في حال إبدائهم رأيا يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك، ولوح بإمكانية متابعتهم أو إلقاء القبض عليهم في حال وقوعهم في مخالفة من هذا النوع. * كما جرى اعتماد نظام الغرفة الواحدة مع تقليص نسبة الأعضاء المنتخبين مباشرة من الشعب ( المجلس مكون من 240 عضواً، ينتخب تسعون منهم بواسطة الاقتراع العام المباشر، فيما ينتخب الباقون، وعددهم مائة وخمسون، بالاقتراع غير المباشر) وحددت مدة العضوية في ست سنوات. وكرد فعل مباشر على هذا الدستور المخيب للآمال، تشكلت بتاريخ 22 يوليوز " الكتلة الوطنية" من حزبي الاستقلال بقيادة علال الفاسي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، وصدر عنها ميثاق سلا التأسيسي الذي دعى إلى إقامة ديمقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية، كما دعت الكتلة للتصويت ب "لا" ضد مشروع دستور 70، كما أصدرت لجنتها المركزية بيانا في 4 غشت من نفس السنة تعلن فيه قرارها مقاطعة الإنتخابات التشريعية المزمع إجراؤها بتاريخ 21 و28 غشت من نفس السنة، ما جعل برلمان 1970 "المنتخب" برلمانا غير ذي معنى، ما دام لا يستطيع ضم قوى المعارضة لتحييدها وإدماجها في اللعبة، وقد ترأسه السيد عبد الهادي بوطالب بأمر ملكي. وقد وضعت المحاولة الانقلابية لسنة 1971 حدا لحياة دستور 1970. دستور مارس 1972 بعد فشل انقلاب 71 دخل القصر في مفاوضات مع الكتلة الوطنية، للإتفاق على إصلاحات سياسية ودستورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبينما كان الطرفان على وشك الوصول إلى إتفاق حول كيفية تداول الحكم، وطبيعة الدستور، انفرد الملك مرة أخرى بعرض مشروع دستور على الاستفتاء في 10 مارس 1972، فدعت الكتلة إلى مقاطعته، احتجاجا على عدم الأخذ برأيها في التعديل الدستوري الجديد، لكنه كان كسابقيه استفتاء " إجماعيا ". وأهم تعديل جاء به دستور 72 تمثل في: * تخفيض مدة انتخاب أعضاء مجلس النواب إلى أربع سنوات بدلا من ست التي جاء بها دستور 70، مع رفع نسبة المنتخبين منهم بالإقتراع العام المباشر إلى الثلثين، وتخصيص الثلث الباقي لنواب هيئة ناخبة تتألف من أعضاء المجالس الحضرية والقروية وأعضاء الغرف المهنية وممثلي المأجورين. * كما حدد الفصل 65 من التعديل الجديد اختصاصات المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك في المسائل الآتية: القضايا التي تهم السياسة العامة للدولة، الإعلان عن حالة الحصار، إشهار الحرب، طلب الثقة من مجلس النواب قصد مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها، مشاريع القوانين قبل إيداعها بمكتب مجلس النواب، المراسيم التنظيمية، مشروع المخطط ومشروع تعديل الدستور وهكذا أمر الملك بحل مجلس النواب المنبثق عن دستور 1970، وكلف التكنوقراطي " كريم العمراني " بتشكيل حكومة جديدة في 3 أبريل 1972، ودعى الكتلة إلى المشاركة فيها، لكنها رفضت، فأعلن الملك في خطاب له بتاريخ 30 أبريل 1972 عن تأجيل الإنتخابات المنبثقة عن الدستور الجديد إلى تاريخ غير محدد، وربط إمكانية إجراءها بتوفر جملة من الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما نجح فيه النظام بامتياز مع بداية 1974، حيث بدأ بتعبئة الجميع خلفه حول معركة استرجاع الصحراء من المستعمر الإسباني، وبناء الوحدة الترابية للمغرب، وهذه معركة وطنية كبرى أرغمت جميع الفاعلين السياسيين قصرا ومعارضة على التوحد خلفها. وقد ظهر ذلك جليا من خلال مساهمة الجميع في المسيرة الخضراء التي نظمت بتاريخ 6 نوفمبر 1975، وأدت إلى تحرير الصحراء، وطبعا سياق " الإجماع الوطني" هذا، تطلب سياقا آخرا موازيا جسده شعار" السلم الإجتماعي"، وهذه هي الشروط التي تحدث عنها النظام وعمل على تحقيقيها قبل الدخول في أي أفق سياسي جديد، وهكذا عرفت البلاد تدشين "المسلسل الديمقراطي" سنتي 1976 و 1977 عبر إجراء ثالث انتخابات محلية وتشريعية في المغرب، وعودة بعض القوى السياسية التي كانت تعاني من الحظر كالتقدم والإشتراكية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي إلى الشرعية، فيما تم تأجبل مسألة الإصلاح الدستوري والسياسي بدعوى تصليب الجبهة الداخلية. لكن، ومع انتخاب برلمان 1977، ودخول بنود دستور 1972 حيز التطبيق، تبين بالملموس أن السلطة الحقيقية تمارس في مكان آخر غير البرلمان، وأن هذه المؤسسة التي يفترض فيها أن تكون منبع القوانين والقرارات أصبحت مجرد مكتب " ضبط " أو " تسجيل" تمر عبره الحكومة لتسجيل قوانينها حتى تضفي عليها طابع المشروعية القانونية والدستورية. دستور سبتمبر 1992 مع بداية التسعينات، طرأت على العالم تغيرات سياسية واقتصادية جوهرية، أهمها نهاية فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي، وانفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بقيادة العالم، وقد رافق هذه التحولات انتشار قوي لدعوات الإصلاح الديمقراطي، ولم يكن المغرب طبعا في منئً عن كل ذلك كما قال الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى تصريحاته "سيكون من مجافاة الصواب القول إننا غير معنيين بالأحداث التي شهدها العالم أو إدعاء ألا تأثير لها علينا". وقد دفع عجز الدساتير الثلاث السابقة والإصلاحات السياسية الشكلية التي رافقتها قوى المعارضة اليسارية إلى المطالبة بتغييرها، أو تعديلها كحد أدنى، عبر رفع مذكرتين حول الإصلاح الدستوري إلى القصر : الأولى بتاريخ 3 أكتوبر 1991 من طرف كل من حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بدعم من منظمة العمل الديمقراطي الشعبي( قبل تأسيس الكتلة الديمقراطية)، والثانية بتاريخ 19 يونيو 1992 من طرف الكتلة الديمقراطية التي كانت قد تأسست بتاريخ 17 ماي 1992 من أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. بدوره النظام، وبهدف تلميع صورته على المستوى الدولي، واحتواء المد النضالي الذي عرفه المغرب مع بداية التسعينات فيما يخص المطالبة بالاصلاحات السياسية والدستورية، بادر إلى الإعلان عن نيته إطلاق مشروع دستوري جديد، ووعد بالنظر في مطالب الكتلة الديمقراطية مع احترام قاعدة " الملك يسود ويحكم "، كما جاء في حديث الملك لصحيفة " لوموند" الفرنسية في شتنبر 1992 والذي قال فيه "الإسلام يمنع إقامة ملكية دستورية يفوض فيها الملك جميع سلطه ويصبح يملك دون أن يحكم" ، وتم إلغاء ظهير "المقيم العام الفرنسي هانري بانصو" لسنة 1935 سيء الصيت، والمعروف اختصارا بظهير "كل ما من شأنه". لكن الدستور الجديد الذي أقر في استفتاء 14 سبتمبر 1992 لم يحمل في طياته أي تغيير جدي يذكر، بسبب تجاهله لمطالب الكتلة المتعلقة بمجلس النواب كتخفيض سن التصويت إلى 18 سنة وسن الترشيح إلى 21 سنة، وانتخاب كافة أعضاء المجلس بالاقتراع العام المباشر، وتخفيض الولاية البرلمانية إلى 5 سنوات، وتمديد دورتي مجلس النواب العادية إلى 3 أشهر، وتوسيع مجال القانون ليشمل العفو العام، والأنظمة الانتخابية لمجلس النواب، والمصادقة على جميع المعاهدات الدولية، وتقوية دور مجلس النواب في مراقبة الحكومة عن طريق الاستجواب، وإحداث لجان المراقبة وضمان حقوق الأقلية البرلمانية بإقرار نصاب العشر للتقدم بملتمس رقابة والتوجه إلى المجلس الدستوري، والربع لعقد دورة استثنائية لمجلس النواب. وعلى مستوى الحكومة لم يستجب الدستور المعدل لمطالب الكتلة الديمقراطية حول حكومة مسؤولة، منبثقة من الأغلبية البرلمانية، تحدد وتدبر سياسة الدولة بموجب نص الدستور، الذي ينبغي أن ينص كذلك على ترحيل بعض اختصاصات المجلس الوزاري إلى المجلس الحكومي، والإقرار بإمكانية ترؤس الوزير الأول للمجلس الوزاري عوض الملك عن طريق التفويض. بل تم الإكتفاء فقط بتعديل بسيط للفصل 24 الذي أصبحت صيغته كالتالي " يعين الملك الوزير الأول. ويعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول. وله أن يعفيهم من مهامهم. ويعفي الحكومة بمبادرة منه أوبناء على استقالتها" بدلا من صيغة " يعين الملك الوزير الأول والوزراء ويعفيهم من مهامهم ويقيلهم إن استقالوا" الواردة في دستور 72. أما على مستوى القضاء فلم تتم الاستجابة لمطالب الكتلة الديمقراطية، بضمان فعلي لاستقلال القضاء وصيانة حرمته. وأما النزر القليل من مطالب الكتلة التي أُخذ بها، فتم تقنينها بشكل أفرغها من محتواها: كالتصويت السلبي على برنامج الحكومة، بدل التصويت الايجابي، وربط طرح ملتمس الرقابة للتصويت داخل المجلس بتوقيع ربع أعضائه، وقبوله بالأغلبية المطلقة، والربع بالنسبة لعرض القوانين على المجلس الدستوري للنظر في مدى دستوريتهما، والثلثين لتعديل الدستور... وتم التنصيص في الفصل 35، على أن حالة الاستثناء لا يترتب عنها حل البرلمان. وحدد أجل 30 يوما لإصدار الأمر الملكي بتنفيذ أي قانون عرض على الحكومة من طرف مجلس النواب. رفضت أحزاب الكتلة دستور 92 ودعت إلى مقاطعته باستثناء حزب التقدم والإشتراكية الذي صوت لصالحه ودعا الناخبين للتصويت الإيجابي عليه. دستور سبتمبر 1996 في ظل تزايد الحديث عن رغبة ملكية في إطلاق تعديل دستوري غير مسبوق في تاريخ المغرب، ومع ورود إشارات أو لنقل ضمانات، من الجهات العليا، حول إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية المغربية، عاد الزعيم الإتحادي عبد الرحمن اليوسفي من منفاه الإختياري بمدينة كان الفرنسية إلى المغرب، ليمهد الطريق أمام قيام أول حكومة تناوب توافقي، لكن قبل هذه الخطوة، جاءت المراجعة الدستورية للعام 1996، التي حملت في طياتها بعض التغييرات الجديدة مقارنة مع مراجعات الدساتير السابقة، إذ نص الدستور الجديد على اعتراف المغرب بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا،كما وأصبح البرلمان المغربي يتشكل من جديد من غرفتين: مجلس للنواب ومجلس للمستشارين (الفصل 36 من الدستور): مجلس المستشارين الذي أضحت مدة النيابة فيه تسع سنوات مع تجديد الثلث منهم كل ثلاث سنوات ومجلس النواب الذي أصبحت مدة النيابة فيه خمس سنوات بدل ست سنوات بحسب دستور 92، وينتخب جميع أعضاءه بالاقتراع الشعبي المباشر، خلافا لما كان عليه الأمر سابقا، حيث يتم انتخاب ثلث مجلس النواب بطريقة غير مباشرة، وهو ما كان يشكل البوابة الخلفية للإدارة للعبث بنتائج الإنتخابات، وتصويبها بما يخدم التوازنات السياسية الضرورية للنظام. إلا أن الكثير من المحللين، نظروا إلى العودة إلى نظام الغرفتين من جديد، في ظل ضائقة مالية، على أنه محاولة من طرف النظام للإلتفاف على مطلب المعارضة بخصوص إلغاء الثلث الذي كان يتم انتخابه بشكل غير مباشر في نظام الغرفة الواحدة، ولإحداث صمام آمان تنظيمي يحمي من كل المخاطر التي قد تنجم عن فوز الكتلة بأغلبية ساحقة في مجلس النواب. وعموما جاء التعديل الدستوري لسنة 1996 مستجيباً فقط لبعض مطالب المعارضة الثانوية التي وردت في مذكرتها التي وجهتها للملك الراحل الحسن الثاني بتاريخ 23 أبريل 1996، ودارت إجمالاً حول قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، وحول العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وإصلاح الإدارة والقضاء وضمان نزاهة الانتخابات..في حين تجاهل مطالب أساسية أخرى متعلقة بصلاحيات الملك، والحكومة، والوزير الأول، ورغم ذلك صوتت أحزاب الكتلة الديمقراطية، باستثناء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، بنعم على دستور عام 1996، ووصفت تصويتها الإيجابي هذا بالتصويت السياسي الذي هدفت من وراءه إرسال رسالة ثقة وتشجيع إلى النظام لتهيئة الأجواء قبل الدخول في تجربة التناوب التوافقي. ومن ناحية أولى، أدت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي ثمنا باهضا من تماسكها التنظيمي بسبب موقفها الرافض للتعديل الجديد، إذ رحل عنها تيار واسع من أطرها المؤيدين للدستور، وشكلوا حزبا سياسيا جديدا تحت اسم " الحزب الإشتراكي الديمقراطي " بقيادة عيسى الورديغي وذلك في الفاتح من سبتمبر 1996 أي قبل 13 يوما فقط من الإستفتاء على الدستور( في ديسمبر سنة 2005 اندمج هذا الحزب بصفة كلية في صفوف الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية)، ومن ناحية ثانية وقع تقارب بين النظام السياسي وأحزاب الكتلة الأخرى المساندة، تطور فيما بعد إلى إشراك هذه الأحزاب في أول حكومة تناوب توافقي يعرفها المغرب منذ الإستقلال، وألقي على عاتقها مسؤولية إنقاذ البلاد من " السكتة القلبية" التي حذر منها الملك الراحل في قبة البرلمان في دورة مايو التشريعية سنة 1995 على خلفية تقرير قاتم لمدير البنك الدولي حول الوضعية الإقتصادية والإجتماعية للمغرب، أو لنقل طُلب من هذه الحكومة منها توفير الحد الأقصى من السلم الإجتماعي لتمرير مخططات الدولة في الإجهاز على الحقوق الإجتماعية للمواطنين لفائدة التوازنات المالية الكفيلة بإخراج البلاد من أزمتها، وتعبيد الطريق أمام انتقال سلس للسلطة لولي العهد آنذاك الأمير محمد السادس. خاتمة من خلال هذا المسار التاريخي، يمكن القول أن الدساتير الخمسة التي تعاقبت على تأطير الحياة السياسية المغربية، منذ الإستقلال وإلى اليوم، وهي دساتير 1962 - 1970 -1972-19921996-، ظلت عاجزة عن إقامة ديمقراطية حقيقية، وستبقى كذلك، مالم تقر نصوصها إصلاحات جوهرية من قبيل: * الحسم في المعنى الهلامي للفصل 19 الذي جعل أحد الباحثين الفرنسيين المختصين في المغرب وهو الفرنسي ريمي لوفو يقول "في قلب النظام السياسي المغربي يوجد رجل واحد هو الملك"، * تخفيض نسبة أعضاء البرلمان الكافية لتعديل الدستور من الثلثين المستحيلة في ظل واقع البلقنة إلى الأغلبية البسيطة * التنصيص بصريح العبارة على تعيين الوزير الأول من الأغلبية البرلمانية حتى لاتتكرر تجربة الوزير الأول التقتوقراطي إدريس جطو، وتفويت سلطة تشكيل الحكومة ومحاسبتها وإقالة الوزراء له، وترأس اجتماع المجلس الوزاري بتفويض ملكي أثناء غياب الملك أو انشغاله بأجندة أخرى، لضمان انتظامية انعقاد المجلس وفعاليته، وتمتيع مجلس الحكومة بسلطات متوازنة مع صلاحيات مجلس الوزراء، أي أن تكون لدينا حكومة ذات سيادة سياسية حقيقية، يرأسها الوزير الأول فعليا وليس شرفيا. * إقرار التصويت الإيجابي على الحكومة بدلا من التصويت السلبي المعمول به الآن، إذ يشير الفصل 60 من الدستور الحالي صراحة على أن الوزير الأول يتقدم أمام كل من مجلسي البرلمان بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة ليعرض البرنامج الذي تعتزم الحكومة تطبيقه، وهذا يعني أن الحكومة تكون قائمة وممارسة لاختصاصاتها بالمفهوم القانوني بمجرد تعيين الملك لها ولا تحتاج إلى تصويت البرلمان عليها، فالتصويت يخص البرنامج وليس الحكومة. * تحويل الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى سلط حقيقية منفصلة عن بعضها ومتوازنة فيما بينها، إن أي تعديل دستوري جديد إما أن يكون متجاوبا مع المقترحات السابقة، ومواكبا لما راكمه المغرب من تطورات وقوانين وقرارت منذ جلوس الملك محمد السادس على العرش ( قرارات هيئة الإنصاف والمصالحة، مدونة الأسرة، قانون الأحزاب، مدونة الشغل، توصيات المعهد الملكي الأمازيغي، مسودة الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية)، وإما ألا يكون. [email protected] mailto:[email protected]