البيعة هي طريقة اختيار الحاكم في الإسلام، وقد اختص بها " أهل الحل والعقد" دون سواهم من الرعية لما لهم من مؤهلات علمية وتقدير واحترام بين الناس، باعتبار أن نصب الإمام من الفروض الكفائية على الأمة بمجموعها، يتصدرهم العلماء المختصون (أهل الاجتهاد) والرؤساء، ووجوه الناس وأعيانهم. والأصل في البيعة، بيعة العقبة التي كانت بمكة حيث بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بيعة الرضوان تحت الشجرة التي كانت بعدها بنحو ست سنوات، ولكليهما ذكر في كتاب الله عز وجل في الآيتين رقم 10 – ورقم 18 من السورة رقم 48 (سورة الفتح) ونص الآية رقم 10:" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم" ونص الآية رقم 18:" لقد رضي الله عن المومنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا". وقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". لكن لاينبغي أن نفهم من هذا أن الإسلام قد ترك الأمور على عوانهها وأقصى حق الرعية في قول كلمتها في الحاكم إذا ما اعوج سيره وزاغ عن التعاقد المتفق عليه، وها هو أمير المؤمنين سيدنا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله الأول ينادي في الناس قائلا بعد مبايعته خليفة عليهم في اجتماع السقيفة " أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". إن قراءة هذا النص التعاقدي المفعم بالمعاني تسمح لنا باستخلاص ما يلي: أولا، إن أبا بكر رضي الله عنه كان يكرس مبدأ المساواة بين الحاكم والمحكوم (لست بخيركم)، ثانيا، أنه كان يقول بالدولة القانونية وباحترام المشروعية كشرط للشرعية، وثالثا أنه رضي الله عنه يستدعي المعارضة للقيام بواجبها في مواجهة أي منكر أو انحراف أو تجاوز من قبل السلطة السياسية التي كان يمثلها، ولم يكن فقط يجيزها كما هو سقف الأنظمة الديمقراطية اليوم(( انظر مساهمة الأستاذ محمد المرواني في ندوة الإسلام والديمقراطية في أكتوبر 2003)). إذن التعاقد بين الحاكم والمحكوم هو أساس متين من أسس البيعة في الإسلام، ونجد في التاريخ المغربي تطبيقا واضحا لهذا المنهج في عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، إذ قامت بيعة أهل فاس له على أساس تعاقدي مشروط (البيعة المشروطة) بتحقيق مجموعة من المطالب نذكر من بينها: رفض مقررات الجزيرة الخضراء وتحرير وجدة والشاوية وعزل ديوان المولى عبد العزيز وإلغاء الامتيازات والحمايات واستشارة الأمة في أي اتفاقية مع القوى الكبرى وربط العلاقات مع العالم العربي والإسلامي. وفي هذا الاتجاه أضافت - في فترة لاحقة - لسان المغرب ((وهي جريدة في طنجة نشطها سوريون ولبنانيون)) الموافقة على مشروع دستور وتشكيل مجلس للنواب قدمته للسلطان المولى عبد الحفيظ في 8 أكتوبر سنة 1908، والذي يمكن أن يمنح- حسب الجريدة- حرية الحركة والفكر الضروريين لإنجاز الإصلاحات. وتولدت عن هذه الاقتراحات مطالب كانت تهدف إلى وضع تعليم ابتدائي إجباري ومجاني، وطرد العملاء والجواسيس، وتعيين رجال أكفاء مؤهلين وشرفاء في مناصب المسؤولية. ولما أخل المولى عبد الحفيظ بمضمون التعاقد السابق الذكر وحول البلاد إلى محمية فرنسية في 30 مارس 1912 فإن الرعية والعلماء في الطليعة لم يترددوا في اتهامه بالخيانة والتهاون في حفظ البلاد والعباد، بل وقامت بفاس ثورة اضطر معها السلطان للتراجع ورفض التعاون مع الفرنسيين لتطبيق بنود الحماية، والتنازل على العرش لفائدة أخيه المولى يوسف في 14 أغسطس 1912. وفي اللحظة التي أعلن فيها عن وفاة الملك الحسن الثاني بويع ابنه محمد السادس ملكا للبلاد وأصبح أميرا للمؤمنين بحسب مقتضيات الفصلين 19 و 20 من الدستور المغربي، وقد وقع وثيقة البيعة الأمراء والوزير الأول ورئيسي البرلمان وأعضاء الحكومة ومستشارو الملك ورؤساء المجالس العلمية ورئيس المجلس الأعلى والوكيل العام للملك ورئيس المجلس الدستوري والضباط السامون.... وكلهم ينضوون تحت مظلة أهل " الحل والعقد " الشرعية، لتكون صورة انتقال الحكم من الناحية الشرعية مكتملة ولو في حدودها الشكلية كأقل تقدير، هذا دون الدخول في مساءلة بواطن الموقعين عملا بقاعدة " أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" لأن عكس ذلك سيفرض علينا حتما مساءلة هؤلاء الموقعين هل قاموا بذلك مكرهين أم طواعية، ونحن نعرف أن بيعة المكره لاتلزم في المذهب المالكي. لكن ما تلام عليه البيعة على النمط المغربي هو كونها لاتبرم على أساس تعاقد واضح في مكنوهه وآفاقه الزمانية والمكانية كما هو الحال في بيعة السقيفة أو بيعة أهل فاس، ويعود ذلك إلى غياب إمكانية محاسبة من يتقلد أمور الإمامة العظمى بنص الدستور الذي هو أسمى قانون في البلاد، فضلا عن طبيعة عمل النظام السياسي المغربي الذي وضع الملك في مركز دائرة القرار السياسي والديني، بينما وضع الفاعلين السياسيين والدينيين الآخرين على هامش الدائرة متأثرين لامأثرين في ما يروج في المركز. "" طبعا لايمكن أن نغفل بعض التطور الذي شاب طقوس البيعة التقليدية، والذي تجلى في محاولة مأسستها ضمن ضوابط معينة كما هو الحال اليوم في المملكة العربية السعودية ( هيئة البيعة)، لكن المأسسة كإجراء تقني لاتغني عن فتح نقاشات أخرى تتصل بما هو جوهري ومصيري، كالقول بأن ولي الأمر) الملك ) في الإسلام يجب عليه إما أن يسود ويحكم ضمن ضوابط تكفل للأمة حق المحاسبة ((فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني))، وإما أن يسود ولايحكم ضمن نظام سياسي يكفل حق الأمة في محاسبة الحاكمين الفعليين عبر انتخابات حرة ونزيهة. أما أن يسود ويحكم ويكون فوق المساءلة فهذا زيغ عن الشريعة وأحكامها وهو عين الإستبداد الذي ليس بعده استبداد. إن الملكية المغربية تتمتع بكل تأكيد بالشرعية التاريخية الضاربة في القدم لأكثر من إثنتي عشر قرنا، ووتمتع بالشرعية الدينية من حيث انتساب الأسرة العلوية الشريفة إلى أهل البيت، وتتمتع بالشرعية الوطنية والنضالية لانخراط جلالة الملك المغفور له محمد الخامس في المقاومة والنضال من أجل الإستقلال ودفعه ثمنا لذلك من عرشه وأسرته. لكن تعوزها في المقابل الشرعية الديمقراطية في تولي الحكم وتسيير دواليبه وذلك لوجود خللين اثنين : أولهما يعتري تركيبة الطبعة المغربية ل " أهل الحل والعقد" التي تشمل بعض النواب والوزراء الذين اعتلوا هذه المناصب عن طريق التحايل واستعمال المال الحرام، وبعض العلماء الذين ليس لهم من العلم سوى الإسم ومن الهم سوى مداهنة الحاكم وقول ما يرضيه، وبالتالي فهم لايصلحوا أن يكونوا شهودا على بيعة كبيرة كبيعة الإمامة العظمى، وثانيهما غياب أرضية تعاقدية يتعاهد عليها الحاكم مع محكوميه، وثالثهما انعدام إمكانية محاسبة ولي الأمر ولو بالطرق السلمية بدعوى أن ذلك قد يخدش قدسية الملك ومجالاته الرمزية ، ويكفي للإستدلال على ذلك ما واجهته المعارضة اليسارية في سنوات الستينات والسبعينات والمعارضة الإسلامية في سنوات الثمانينات من قمع وإذلال على يد المخزن والتي لم يكن آخرها ما عاناه الأستاذ عبد السلام ياسين من سجن واعتقال وإقامة جبرية بسبب نصيحة علنية وجهها للملك الراحل الحسن الثاني. واليوم ونحن نفتح صفحة جديدة من تاريخ المغرب مع الملك محمد السادس، نستطيع القول بإن خطوات إيجابية قد قطعت في اتجاه القطع مع هذه الممارسات. إننا لانريد التشويش على الملكية في بلادنا بقدر ما نريد طرح بعض الأفكار والأسئلة التي يرددها الناس اليوم في كل شارع مغربي، بغية المساهمة في تصحيح المسار، وجعل ملكيتنا ملكية ملائمة لعصرها، لأن خيار الملكية كما يعرف الجميع قد أصبح في المرحلة الراهنة خيارا استراتيجيا تجمع عليه كل فئات المجتمع المغربي، لأنه بكل بساطة يضمن استقرار وأمن ووحدة هذا البلد.