إلى أي حد تسير المقترحات في طريق ملكية برلمانية؟ - لا يمكن أن نجزم بأن كل المقترحات تسير نحو ملكية برلمانية، لأن هناك ميكانيزمات رمزية شكلت عبر القرون إرثا لا يمكن تجاوزه. فالتقليد حاضر ولاشك ستتم إعادة إنتاجه. فالملك بوصفه أميرا للمؤمنين تجعله فوق الضجيج السياسي وهو عنصر الاستمرارية، نظرا لجذوره الموصولة بشجرة النسب النبوي. وبهذه الخصوصية نجزم أن الوثيقة الدستورية لا يمكنها من الناحية الأنثروبولوجية أن تتجاوز الحقل الديني، فبواسطة الرموز والطقوس يسجل الملك تعاليه على الفاعلين ولاشك أن الحقل الديني سيبقى الأساس الذي تقوم عليه الوظيفة السياسية للملك. بل أذهب إلى أكثر من هذا، فإن الجسد الملكي بالمفهوم «الفوكوي» يحمل دلالات ويختزل سلوكا يرتبط بالكون السياسي المغربي على امتداد 13 قرنا. فالعقلانية والتقنيات الحديثة للسلطة لا يمكنهما تطويع المؤسسة الملكية وترويض وظائفها بالآليات الديمقراطية. سيبقى الحقل الديني مكرسا لرمزية وحدة الأمة ودوام استمرارها. ولذا أعتقد أن بعض الفصول ستبقى ثابتة ولو تمت صياغتها بشكل مغاير مثلا: الشرعية الدينية، سلطة الحماية تجاه التهديدات الخارجية، وظيفة التحكيم بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وظيفة مراقبة التراب الوطني بإنشاء مؤسسة دستورية جديدة تسهر على الأمن القومي. فمن الخطأ أن نتحدث عن البرلمانية في مفهومها الأوروبي. فالشرعية التعاقدية بمفهوم «روسو» أو«جون لوك» ستبقى مطابقة لمبدأ القبول بسلطة خاضعة لشريعة تكون فيها الجماعة ملزمة بطاعة الإمام . ولاشك أن لجنة المنوني ستجد نفسها أمام ثوابت وأمام قوى وشخصيات حريصة على هذه النواة، دون أن ننسى أن الملك يراقب المنتوج الدستوري ويحتكر السياسة الدستورية في كل مراحلها انطلاقا من المبادرة إلى الصيغة النهائية مخافة تزعزع الثوابت . هل تعتقد أن المشهد السياسي مؤهل لمسايرة ما جاء به الدستور الجديد من قفزة نوعية حسب بعض المراقبين؟ - تأهيل المشهد السياسي له شروط موضوعية: - نخبة سياسية تحتكم إلى الديمقراطية كشكل من أشكال المنافسة السياسية. - وضع حد للزعامات الحزبية ولشخصنة العمل السياسي. - خلق بيئة انتخابية تتوفر فيها شروط المنافسة الشريفة. - إدماج الشباب في العمل السياسي، إن ظاهرة العزوف في حد ذاتها تختزل موقفا سياسيا يعبر عن اليأس لدى المواطن. فالأحزاب الموجودة حاليا غير قادرة على تأهيل المشهد السياسي. زيادة على هذا لقد بدأنا نلاحظ بروز بعض الأحزاب التي تسمى في الأدبيات السياسية ب«بالقوى الخفيفة» أو «القوى التي تستقطب كل شيء». بدون مرجعيات إيديولوجية أو أخلاقية وهذه أزمة حقيقية تعيشها الأحزاب. بالفعل قراءتي الأولية للدستور كما ورد في عرض الأستاذ المنوني تحتوي على عدة إيجابيات خاصة تكريس المسؤولية السياسية للحكومة كآلية من آليات البرلمانية. كذلك بموجب الدستور الجديد سيتم التخفيف من ثقل الفصل 19 ومن تعيين رئيس الوزراء، الذي يحق له ترؤس المجلس الوزاري وصلاحية التعيين في مناصب الولاة والعمال، التي كانت دائما موضوع نقاش كبير وانتقادات من أحزاب الكتلة. كما فسح المجال للبرلمان للتشريع في حوالي 40 مجالا...إلخ. ولكن على أي حال علينا الانتظار لنرى ما إذا كنا سننتقل من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية، لأنه من خلال المذكرات التي قدمتها الأحزاب السياسية للجنة نلاحظ أن هناك إجماعا على المطالبة بنقل مجموعة من صلاحيات الملك إلى حكومة منتخبة. فباستثناء حزب الطليعة الذي طالب بإلغاء الفصل 19، كل مقترحات الأحزاب الأخرى تسعى إلى المحافظة على التقليد، فبطبيعة الحال وكما ذكرت سابقا ستتم تقوية البرلمان وتوسيع عضوية المجلس الأعلى للبرلمان ودسترة الجهوية وربما التنصيص على منع الترحال الحزبي. ولكن ما نخشاه ضعف الحكومة في مواجهة التحديات وجبروت الأحزاب. وهذا يذكرني بالنقاش السياسي الذي أسال «حبر» المختصين في المجال الدستوري في الستينيات من القرن الماضي، فالكل كان ينتقد آنذاك الحسن الثاني في عدم إرساء النظام البرلماني . أعتقد أن الملك الراحل لم يكن يخاف من صناديق الاقتراع ولا من الذي سيتولى رئاسة الوزراء سواء كان علال الفاسي أوبلحسن الوزاني أوبلفريج أو بنبركة...إلخ، ربما كان يخاف جبروت الأحزاب وسيطرة الشبكات الأسرية، لأن الاصطدام مع هذه القوى السياسية التي تعقد عليها آمال الشعب سيكون قمة اليأس. وفي هذا السياق أشار «كارل شميث» في كتابه «الديمقراطية والبرلمانية» إلى خطورة الأحزاب في احتكار العمل السياسي، فعوض أن تسهر على المصلحة العامة للمواطنين تخدم مصالح اللوبيات. أما في فكر «فيبر» فالشكل الأساسي للديمقراطية يكمن في تأسيس نظام برلماني قوي، ذلك أن الدولة الألمانية في عهده لم تكن تعرف برلمانا شكليا فقط. وهذا ما سيجعله يطرح مشروع المؤسسات السياسية داخل الدولة، وينادي بسيادة نظام برلماني لتجاوز ضعف السياسة الداخلية والخارجية الألمانية والتي يرجعها للسياسة الخاطئة للوزراء والحاكم وغياب الجهاز البرلماني، حيث أصبحت تمثيلية الشعب أي البرلمان، هي المكان الأقل تمثيلية فعلا، وأصبحت الحياة البرلمانية أدنى من البرلمان نفسه، ولا تملك القدرة الكافية لأداء مهمتها. كان «فيبر» يرى في البرلمان آلية مهمة ليس لترسيخ نظام ديمقراطي ولكن لإنتاج حكماء أكفاء، حيث سيقول في إحدى محاضراته إن البرلمان لم يستطع إلى يومنا هذا أن يخرج لنا مواهب سياسية كبرى. وسواء كنا نكره النظام البرلماني أو نحبه فإننا لايمكننا إلغاءه، يمكن فقط أن نجعله سياسيا قادرا وأن نحد من خلاله من تنامي المد البيوقراطي. هل الإصلاحات الدستورية يمكن أن توقف موجة الإحتجاجات؟ - لا شك أن «الربيع العربي» أيقظ الشعوب من سباتها. فلم يكن أحد يتصور اندلاع الثورات بهذا الشكل. إننا اليوم أمام «براديغم» جديد دشنه الشباب باعتصامهم ونضالهم . بالفعل ازدادت موجة الاحتجاج وترسخت في أذهان الناس باستعمال وسائل الاتصال الحديثة (الفايسبوك و التويتر). أقول لك إن الاحتجاج ليس مسألة مطالبة بالإصلاحات الدستورية، بل هو تعبير عن الإحباط واليأس. هكذا ينظر إليه علماء الاجتماع. فإن إنهاء الاحتجاج رهين برحيل اليأس، ولذا انتقل سقف المطالب من الملكية البرلمانية إلى فتح تحقيقات حول نهب المال العام والصفقات العمومية ومحاربة الفقر والرشوة. هناك من يقول إن الاحتجاج لن يهدأ ولن يبقى على درجة من الغضب والثورية إذا لم تجد هذه الحركات مؤسسات تنطوي تحتها من أجل مأسسة مطالبها. ولكن يبقى هذا التصور في الوقت الراهن صعب المنال، نظرا لتباين المواقف بين مختلف المكونات السياسية التي تضمها حركة 20 فبراير. ولهذا السبب نجد من يحذر هذه الحركة من هذا الطريق أو ذاك، فمثلا يرى ادريس لشكر أن المشروع الإصلاحي للحركة يقتضي «تفادي أجندة اليسار العدمي والابتعاد عن الظلاميين خاصة الخرافيين منهم». الحراك الإجتماعي ليس مسألة دستورية ولا قوانين، إنه نتيجة تراكمات وانتظارات سئمت منها الشعوب العربية. فالحركات الاحتجاجية انطلقت بالفعل بالإصلاح الدستوري، ولكن ما فتئ الشباب أن أطلقوا شعارات ضد الفساد وضد حزب الأصالة والمعاصرة وضد بعض الرموز المخزنية من وزراء وبرلمانيين. والملاحظ أن حركة 20 فبراير غيرت من طريقة احتجاجاتها وانتقلت من الساحات المعروفة في المدن نحو المناطق الأكثر شعبية إذن فالحراك اتسع مجاليا. ولذا فالخروج من منطق التهييج يتطلب الإنصات إلى الشارع والإسراع في الإصلاح والتوجه إلى صناديق الاقتراع في أقرب وقت ممكن ولكن على أساس المنهجية الديمقراطية. على كل حال فكل الفاعلين رحبوا بهذه اللحظة التاريخية التي طرحت من جديد وبشكل قوي مسألة التغيير، فلقد كان هذا الأخير حكرا على النخب الحزبية والمثقفة، ولكن تبين من خلال هذا الحراك أن الطبقة الوسطى أدركت أسس هذه اللحظة وانخرطت في الاحتجاج على أساس الوضعية الاجتماعية: الهشاشة والفقر. وكما سبق لي الذكر أن التيه الاجتماعي الذي خلفته السياسات المتبعة كان وراء عملية إنتاج التغيير. وأشير بهذه المناسبة إلى أن الاحتجاج خلق انشقاقا سياسيا مهما وإيجابيا ربما سيساهم في القضاء على ظاهرة العزوف السياسي. فإنتاجات الباحثين في علم الاجتماع وعلم السياسة تؤكد أن تطور المجتمعات يبدأ بالانشقاق. فالثورة الفرنسية بدأت بين المحافظين الأعيان وأنصار الثورة. فبدون شك أن هذه الشحنة الشبابية ستساهم في تعبئة مواردنا السياسية، لأننا في السابق كنا نعلن عن الموت السريع للسياسة في بلادنا، نظرا للإنحرافات التي تعرفها الطبقة السياسية، فبهذا الإحتجاج سيساهم كل الفاعلين في النقاش العمومي لأنه يعتبر عاملا من عوامل التطور. فبهذا الإحتجاج في الشارع سنبتعد «عن تبني دينامية الجماعات من أجل جعلها صوت من فشل في الاعتماد على كيانه من أجل إسماع صوته». الاحتجاج لن يخيف أحدا مادامت تقوده طبقة وسطى متعلمة ومستقلة في رأيها وتفكيرها وتناضل من أجل إقرار انشقاق قادر على قلب ميزان القوى لصالح دولة الحق والقانون. وأخيرا سيشكل الاحتجاج شبكة اجتماعية تلقائية لبناء نظم حزبية جديدة تحل محل الأحزاب التي تشكو عجزا تاريخيا أو تلك التي عاشت في السابق في جلباب السلطة. يرى البعض أن التعديلات الدستورية لا يمكن أن تكون مفيدة بدون إصلاحات سياسية مصاحبة لها. مارأيك؟ - سؤالك الأخير يسير في سياق جوابي عن سؤالك الثالث، فلا جدوى من الدستور ومن الترسانة القانونية المصاحبة له بدون إصلاحات تشمل محاربة الفساد والقضاء على اقتصاد الريع. فمنذ التقويم الهيكلي الذي بدأه المغرب منذ الثمانينيات، أدى الشعب سلبيات هذا التقويم الذي سارت على نهجه حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. وأعتقد شخصيا أنه آن الأوان لفتح أوراش منتجة ومدرة للدخل في ظل تقوية دولة الرعاية . فلا زال المغرب يحتاج إلى دولة تدخلية لإنعاش النسيج الاقتصادي خاصة في المجالات التي ينفر منها القطاع الخاص. فالكل يحذر من وجود دستور جديد مع الاحتفاظ بنفس وجوه الفساد في البرلمان أو في مؤسسات الدولة، فالجهاد الأكبر هو الاستمرار في بناء مؤسسات قوية . ولقد أشار الأستاذ الساسي إلى ذلك حينما قال: « إنه منذ نصف قرن من التجربة السياسية بات من المألوف أن ينطلق الإصلاح دون أن نتمه، أصبحنا ندور كل مرة ونعود إلى نقطة الصفر». وهذا ما سيشكل خيبة أمل للجميع. هناك إجراءات يجب اتخاذها كتحسين أداء المالية العمومية التي أصبحت في عنق الزجاجة بسبب سوء التدبير رغم سنوات التقويم الهيكلي. هناك مطالب اجتماعية يجب الاستجابة لها ماليا قبل بدء العملية الانتخابية . لاشك أن السيولة سترتفع ولكن الذي يهم هو الرفع من مستوى دخل الأفراد، يجب كذلك إعادة النظر في المنظومة التعليمية والتربوية وعقلنة الإدارة والاستثمار في الموارد البشرية والرقي بإعلامنا، كل هذه الأوراش يجب أن تفتح لتصاحب التطور الدستوري والمؤسساتي ببلادنا .