ما يجري اليوم في المغرب معركة سياسية حقيقية، غايتها تحرير ارادة المواطنين أولا، ثم تحصينها من التوظيف السيء والاستغلال الماكر، في اتجاه إقرار شرعيتها وحدها للوصول إلى المؤسسات المنتخبة، التي تعمل على تسيير الشأن المحلي والعام. عملية التحرير هاته، تحتاج بدون شك إلى سنوات من الاشتغال من مدخل الوعي والتأطير، وفق برامج مندمجة ومتكاملة بين الدولة وبين القوى الديمقراطية داخل المجتمع، المؤمنة بخيار التدافع السلمي على السلطة عبر آلية الانتخابات. للأسف الدولة أومن تسلطوا عليها خلال فترات سابقة، لم تكن لهم رغبة في فسح المجال أمام المواطنين للتعبير عن إرادتهم بحرية وبمسؤولية، من خلال اختيار من يمثلهم لمدة زمنية يصطلح عليها بالولاية الانتدابية، فكانوا يكرسون تمثلا سلبيا عن الانتخابات، وتصويرها في مشاهد تطغى عليها ولاءات القبيلة والدوار والعائلة الكبيرة وأن من لا نفوذ له أو لا مال له لا مكان له في المجالس المنتخبة، وهو ما خلق عبر تاريخ الانتخابات في البلاد فئة الأعيان، وإن كان دورهم انسجم في لحظة زمنية مع مصالح الدولة، لكنهم سرعان ما تحولوا إلى عائق في طريق الامتثال للإرادة الشعبية، وإلى كتل متحركة تخدم لوبيات الارتزاق السياسي. ورغم الانعطافات التي عرفها المسار الديمقراطي في المغرب، ظلت إرادة المواطنين مكبلة ومقيدة، وفي أحسن الأحوال موجهة بطرق مختلفة، عبر التدخل المباشر من طرف السلطة، أو عبر السماح عن طريق حيادها السلبي باستعمال المال في حسم الانتخابات خاصة في المجال القروي، أو عبر تقنيات التقطيع الانتخابي وغيره من وسائل الضبط الناعمة القانونية في مظهرها، التحكمية في عمقها. طبعا كانت هناك قوى سياسية ديمقراطية حقيقة، تتابع الوضع عن كثب، وتحذر من تهميش دور المواطنين في اختيار من يمثلهم، وتؤكد على ألا دولة حديثة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون الاحتكام إلى إرادة الناخبين المعبر عنها بصناديق الاقتراع بكل حرية وفي إطار تكافئ الفرص بين جميع الفاعلين، لكن للأسف بعض هذه القوى سرعان ما انقلبت على مواقفها بعد أن استحلت المخرجات الانتخابية المتحكم فيها، والتي حملتها إلى مواقع القرار السياسي المُغرية بطبيعتها، فتراجعت عن دفاعها عن محورية الارادة الشعبية في العملية الديمقراطية، وارتدت عن أطروحات ظلت تؤثت الصراع السياسي في البلاد. يقينا حزب العدالة والتنمية يواصل هذا المسار، لكن بخلفية مغايرة تستند إلى مرجعية الشعب نفسه، فصاغ هو الآخر أطروحة النضال الديمقراطي بمضمون هجومي لا تشخيصي دفاعي، في لحظة كان يشتد فيها عود التحكم والاستبداد، بما يحيل عليه من إلقاء إرادة المواطنين في سلة المهملات، والجميع تتبع مجريات الأمور وكيف ظل الحزب لوحده إلى جانب شرفاء ديمقراطيين في باقي الأحزاب، في صدارة مقاومة التحكم وفضح متزعميه وكشف ألاعيبه وجرّ أدواته إلى النزال السياسي المكشوف لتسلط عليهم الأضواء فيعرفهم الناس أسماءً وصورا وصفاتٍ، وقد نجح الحزب في هذا، فأصبح الجميع يربط بين أسماء كانت تعبث في الظلام وبين ممارسات تُظهر أثر عبثهم، وحمل شباب الحراك الشعبي صورهم ولافتات توضح امتداداتهم في الإعلام والادارة، هؤلاء هم زعماء جبهة النكوص المستفيدين من حالة الجمود السياسي ومن ضبط الناتج الانتخابي، المستقطبين إلى جبهتهم فاعلين في أحزاب سياسية بل أحزاب برمتها ومنها التاريخية للأسف. اليوم لماذا تصر قيادة العدالة والتنمية، على التواصل المباشر مع المواطنين، في مختلف جهات البلاد، لماذا يفضلون اللقاءات الجماهيرية في الساحات العمومية، على الرغم من مخاوف الحاق الأذى الجسدي بهم، أما باقي أنواع الأذى فقد أصابتهم، لماذا الخطاب السياسي والانتخابي للحزب يركز على حق المواطنين في الاختيار وعلى ضرورة تحصين هذا الحق، لدرجة دعوة المواطنين صراحة إلى التصويت على مرشحين من خارج الحزب إذا هم وجدوا فيهم الكفاءة والنزاهة المطلوبتان، إنها رسالة تحرير ارادة التصويت عند الناخبين من كل ما يمكن أن يشوش عليها، وأن يصوت المواطنون بحرية لا بضغط أو ترهيب أو وقوعا تحت تأثير تدليس أو إغراء بمال أو بوظيفة أو غيرها، وعندما يتحرر الصوت الانتخابي من هذه القيود، يمكن العمل فيما بعد على ضخ معايير أخرى تحكم المزاج الانتخابي منها البرامج الانتخابية والتصورات الحزبية وحصيلة التدبير ومعايير أخرى ذات نَفَس سياسي. وفي هذا السياق ينبغي أن نفهم لماذا لا يستطيع من يسيرون جبهة التحكم الخروج إلى المواطنين في لقاءات جماهيرية، ليحدثوهم عن حصيلتهم السياسية والتدبيرية أيضا، لماذا يفضلون الاختباء في فضاءات مغلقة لا يدخلها إلا مُستدعىً بثمن مؤدى نقدا أو غيره، ولا يحلو لهم الكلام إلا خلف كاميرات وميكروفونات وسائل الإعلام المفتوحة لهم، لأنهم ببساطة لا يقيمون للمواطن قيمة إلا استغلالا في صور مصطنعة تتكلف مقاولات إعلامية بتسويقها، في عملية تزييف للوقائع والحقائق. ما يزال الصراع من أجل تحرير إرادة المواطنين وصوتهم الانتخابي بدون شك طويلا، وسيظل أساس البناء الديمقراطي، الذي لن يكتمل بدون مساهمة جميع الحالمين بديمقراطية مغربية تسمح للمجتمع بإفراز أفضل ما فيه نخبا ومنتخبين.