أعرف جيدا أن علي أنوزلا يشكو من مرض كلوستروفوبي و مرات عديدة و من سنوات حصلت له أزمة تنفس و هو يقضي الليلة في منزلي بزنقة القاضي عياض أو في تمارة في فترة لاحقة .هي حالة اعرفها جيدا و افهمها لأنني معرض إليها كلما دخلت مكانا مغلقا.أنا أواجهها بحبوب أحيانا. فيما هو يقاومها بالصبر و ترويضها حتى تمر الأزمة. الآن و هو خلف القضبان في السجن في هذا الجو الخانق الحار كأنني أراه يختنق .يبحث عن نسمة هواء فلا يجدها..ما أصعب الألم. مسؤولياتنا جميعا الانتباه إلى وضعه. هو لا ينتمي إلى حزب آو منظمة نقابية آو جبهة شعبية أو أي شيء آخر.علي ينتمي إلى أم يحبها بعد والدته هي أمه الثانية: الصحافة.
أذا لم نتكلم عن علي نحن الصحفيين فمعنى ذلك أننا وصلنا إلى الحضيض ..علي واحد منا مهما اختلفنا .الحليب الوحيد الذي رضعه بعد حليب أمه هو حليب الصحافة التي عشقها كزاهد و متصوف و مريض نفساني بمرض اسمه ساندروم مهنة المتاعب .إذا لم يشتغل غلي في الصحافة سيموت . في شتنبر من عام 1984 التقيت علي أنوزلا في مدينة العرفان في الرباط. جاء هو من الجنوب و جئت أنا من الشمال .هو صحراوي و أنا ريفي و التقينا في ما كان يسمى آنذاك المعهد العالي للصحافة. مؤسسة تكوين جامعي في الإعلام و الصحافة تبحث عن طريقها بشكل متعثر أقرب إلى الهواية ما عدا قلة قليلة من الأساتذة الذين كانوا يفهمون في المهنة. قصة المعهد موضوع آخر يحتاج لمقال و مقام آخر.
أهل الصحراء يعتبرون دائما أن لهم مع سكان الريف مودة مبطنة و تواصل أسهل . الغالب أن السياسة و تاريخ المنطقتين هو ما جعل القرابة أيسر رغم اختلاف الأصول .
درس علي معي السنة الأولى في قسم واحد ثم غير الاتجاه في السنة الثانية إلى القسم الفرنسي ليلتقي هناك مع مجموعة من الطلبة و الطالبات من بينهم يحضرني اللحظة نرجس الرغاي و لمياء الصالحي و الطاهر الفاسي الفهري نجل احد كبار قضاة المغرب النزهاء و الدبلوماسي الآن في موريتانيا و محمد ماماد الصحفي و مدير القناة الأمازيغية و نور الدين بلزرق وغيرهم آخرين.
اليوم وبعد أن تفرقت السبل بين ذاك الجيل من طلاب المعهد العالي للصحافة .و جدنا من بين تلك المجموعة من صار وزيرا و مديرا و مسؤولا كبيرا في جهاز الدولة فيما اختار آخرون الطريق الأصعب الطريق الشاق المتعب المحفوف بالمخاطر : طريق الصحافة الحرة و المقاولة الصحفية المستقلة.
.أنوزلا واحد منهم و أبرز وجوه هذا الصنف الذي اختار سباق المسافات الطويلة و سباق الحواجز و الأشغال الشاقة على ذهب و حرير و أموال السلطة السهلة. أتذكر رغم ذاكرتي التي شاخت قبل الأوان أنني كنت أزور علي أنوزلا في غرفته في الحي الجامعي السويسي 1 و كنت أجد برفقته في كثير من الحالات الصديق النبيل المشترك عمر عبد الحفيظ ابن فيكيك الحر.
عبد الحفيظ عاش في الصحراء عشر سنوات بعد تخرجه صحافيا في الإذاعة و يفهم تقلبات مزاج الصحراء و رمالها المتحركة. عمر عبد الحفيظ يكن الحب الكبير لعلي إلى اللحظة الراهنة لأنه عاشره بعد تلك الفترة حين سكنا تحت سقف واحد في منزل بحي باب تاماسنا قرب ثانوية المالقي..و كم لنا من ذكريات مضحكة و مبكية هناك في تلك الدار مع الزوار الكثيرين الذين كانوا يهجمون على حين غرة و بلا سابق موعد و يحتلون البيت و المطبخ و الحمام و كل شيء فيما علي صامت يتوارى و لا يوقف "الاحتلال"و هو صاحب الدار.
علي أنوزلا كريم بشكل مفرط . و هو من الصنف الذي يقال فيه " ويوثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة". يقدم لك ثلثين من رغيفه و يقسم الثلث المتبقى له من أي شخص يمكن أن يصادفه يطلب في الشارع.
في شقة عبد الصمد بنشريف بزنقة كندا في حي المحيط كانت لنا حكايات أخرى مع علي انوزلا و محمد نجيب كومينة و محمد اليزيدي دكتور الفيزياء و الفقيه في تلاوة القرآن و شروحاته و المعتقل السياسي السابق في سنوات الرصاص.
أتذكر حين قدمت له لعلي كاسيت مغنية موسيقى الكاتنري الامريكية دولي بارتن..أحسست ان الصحراوي الهادئ أعجب بالغناء و بالكلمات الرومانسية فسألني : شكون هاذي؟ أحبته إنها مغنية أمريكية جميلة تغني للحياة و الطبيعة و الحب ..فقال لي صوتها زوين بزاف و كلماتها أيضا. ذولي بارتن كاتن تغني عن معطف امها و عن الحب كانت تذكرنا بأغاني فيروز ..و كان علي يعد براد شاي الصحراء الذي يتطلب نفسا طويلا و طقوسا و مقدمات.
حين كنا نمل من روتين معهد الصحافة و نظرياته الميتافيزيقية في الصحافة كنت اهرب رفقته مشائين إلى كلية الآداب قرب باب الرواح لأنه كان لنا قصة غرام مشترك لجمعية مدرسي الفلسفة و كان يرأسها آنذاك محمد عزيز لحبابي. كانت الجمعية قد دأبت على تنظيم لقاء أسبوعي مسائي في إحدى مدرجات الكلية في هدوء ما بعد الغروب. كان اللقاء فرصة لنا نحن الشباب في تلك الفترة ليحصل لنا الشرف و نجلس نستمع لمحاضرات و أراء و تدخلات محمد عابد الجابري و الحبابي و جسوس و آخرين من ألمع الأسماء التي كانت متداولة في الفلسفة في موضوع واحد : المغر ب إلى أين؟ مع تغير محاور الجلسات . الأدب و السياسة و الفنون و الفكر و التراث و ما إلى ذلك.
السياسة كانت لدى علي موضوعا مؤجلا .كنت أحدثه عن علي يعتة و عبد الله العياشي و عزيز بلال وسيمون ليفي و كنت أقول شأن كل الشيوعيين الشباب في تلك المرحلة..الرفيق فلان و الرفيق فلان كأنني أتقاسم معهم حساء الليل. كان علي لا يعلق كثيرا على كلامي..الفلسفة و "مائة عام من العزلة " و براد الشاي و الدوش البارد أهم له من الأحزاب.
الهارب من السياسة جرت شراعه رياح الصحافة التي بدأها في الشرق الأوسط وهو طالب إلى التقرب إلى مطابخ الأحزاب و حدائقهم الخلفية ..الصحافة أدخلت علي إلى السياسة من الباب المشرع الواسع و لم تمض سوى سنوات قليلة حتى اكتشفته شخصا آخر. يتابع ما يجري بشكل يومي و يكتب ثم يكتب و لا يمل من الكتابة .كان فريق الشرق الأوسط يجمع بروفيلات متكاملة حاتم البطيوي ومنصف السليمي محمد الراوي و عمر الانواري الذي يكتب في كل شيء كفنان يعزف على آلات مختلفة..و كان رئيس الفريق آنذاك هو طلحة جبريل الذي سيعوضه علي بكامل العنفوان بعد مغادرته الجريدة..
أتذكر اليوم الذي كنت عائدا فيه رفقة شقيقي من رحلة في أوروبا .كنت ترافق أخي في طريق العودة من باريس إلى طنجة في سيارته..يحكي لي عزيز أوشن انك لما وصلتما إلى الجزيرة الخضراء نزل خبر وفاة الحسن الثاني. لم تكن وسائل التكنولوجيا آنذاك تسمح بما هو متاح اليوم..لا فايسبوك و لا هم يحزنون. مطلوب منك أن تحضر إلى مكتبك في الرباط في رمشة عين.
كنت تخشى أن تفوتك فرصة الاشتغال على موضوع و حدث كبير كرحيل ملك المغرب.الباخرة تأخرت في الإركاب و آنت كنت تتوجع و تحسب الدقائق التي تضيع منك لتغطية الحدث في الرباط..قفزت في أول عبارة و نزلت في طنجة و انطلقت بالسرعة القصوى إلى العاصمة .لقد مات الحسن الثاني و يلزم أن تعيش الحدث و التجربة..كانت متابعة "الشرق الأوسط" لانتقال الحكم من الحسن الثاني الى محمد السادس واحدة من أحسن ما صنعه أنوزلا في مساره المهني . طبعا الفريق كله اشتغل كخلية نحل يصل الليل بالنهار و كان علي في أوج عنفوانه.تغطية الجريدة للحدث يمكن أن تدرس اليوم في معاهد الصحافة لأسلوب عمل استثنائي ناجح شهد به الجميع آنذاك. علي يخجل أن يتحدث عن نفسه لذلك أتصور نفسي أتحدث عن مزاياه و مناقبه نيابة عنه .
هي مزايا الناس الفضلاء الظرفاء المتصوفين الزهد . أنوزلا شبعان حتى و هو في قمة الجوع..هكذا عرفته و أعرفه. لم أره مرة في حياتي يتزاحم حول طعام أو شراب أو يلهط أو مال أو أي شيء آخر..
امشي رفقه في سيارته و يوقفنا شرطي أو دركي المرور و يطلب الأوراق..تكون أحيانا هناك مخالفة صغيرة بسيطة يمكن بكلمة أو جملة ننهي المشكلة و يطلق سراح أوراق السيارة و نمضي لكن علي كان يرفض .يخجل يعتبر تقديم نفسه صحافيا استغلالا لنفوذ ما..يدفع الغرامة و ينسحب في هدوء.
عزيزي علي.. أنا الآن في منزلي في تمارة رفقة ياسين و وفاء زوجتي و خديجة الرحمانية..كلهم يسألونني عنك و أنا لا جواب لي اللحظة..وفاء التي تعتبر نفسها واحدة من أسرتك الصغيرة مرضت حين اعتقلت و عاد اليها نوبات الأرق و خرجت لتطفئ شيئا من حالتها النفسية إلى وقفات الرباط من اجل حريتك. تذكرت سنوات" أنوال" و تذكرت الشعارات التي كادت تنساها مع الزمن..هناك وجدت في الوقفة الاولى سعاد اقريو.سعاد خانتها دموعها فأجهشت بالبكاء حين شاهدت الحاجة الوالدة متعبة غارقة في حزنها ..قالت لي سعاد: تصور عمر أنني قبل مدة التقيت معه في مرزوكة و قلت له ..مالك يا علي واش بغيتينا نبقاو نجيبو القفة للحبس..
منير كيجي ايضا لا تفوته الوقفات و أخبار التضامن في العالم .. أمس ذكرني منير برحلة الشتاء إلى املشيل و انفكو . هو يسرد التفاصيل بعناية . ليلة من ليالي سيبيريا..تتذكر كيف قضينا الليلة في تلك القرية المتعبة تونفيت. في حجرة ضيقة كدنا نختنق لولا ماء " يورينكا" البولونية التي اشتراها منير من مرجان في مكناس. كاد يقتلنا البرد و القر في تلك الزنزانة لأننا لم نجد أي مكان للمبيت ما عدا تلك الغرفة المهجورة الضيقة فوق سطح مقهى سمي جزافا فندق.
العالم كله يتضامن معك عزيزي.. أصدقاءنا في هولندا و بلجيكا و في اسبانيا و في كل مناطق العالم يرفعون طلبا واحدا لا غير: أطلقوا سراح علي.ثم فليكن لكل حادث حديث.. لا معنى لوجود قانون صحافة إذا دأبنا على محاكة الصحافيين بقوانين الإرهاب.
اختلفنا معك في بعض الأمور و القضايا و التقينا معك في أخرى..خلافنا لا يفسد للود قضية ..كنت دائما لا أثق في أشياء تسمى القوات الشعبية و الجماهير و كنت لكي ابسط قليلا أقول الدهماء هي سيدة الموقف.
كنت تعتقد أن حركات مثل 20 فبراير ستزرع بذور ما سمي الربيع الديمقراطي في البلد لكنني كنت متشككا في الخلاصات رغم الفيضان الذي حصل في الشارع..ربما كنت أنت متطلعا إلى التغيير أكثر من تطلعك إلى موازين القوى و تحولات هبوب الرياح..
لأنني احترمك كثيرا كتبت معك بلا أتعاب و لوجه الله في" الجريدة الأولى" من أول عدد زوايا و أعمدة..إلى أن حصل لك الخلاف مع المساهمين عن خط التحرير.كانت جلسة قاسية تلك التي تلقيت فيه اللوم من طرف زملاء مساهمين مثل خديجة مروازي و فؤاد عماري و احمد نجيم و غيرهم..خديجة الآن التي اختلفت معك في "الجريدة الأولى" هي اليوم في الواجهة التضامن و من ابرز نساء المغرب المطالبات بحقك في الحرية ...
عاشق للحياة و رجل ابيقوري يحب المتعة و لا يمل من ترديد قولة : الحياة قصيرة عابرة .هكذا عرفت علي أنوزلا. أما شخص آخر يشيد بالموت و القتل و العنف و يصفق لخطاب الانتحاريين و السيارات المفخخة و الحزمة الناسفة فتلك قصة لا تخطر على بالي و لم يستسغ عقلي هضمها و فهمها.. هل كنت تشيد بالإرهاب و أنت تحتفل معنا في طنجة في ليالي مارسيلو؟ عجبا لشخص يحب الحياة و يدعو للقتل و الموت؟
عاشر و خالط أنوزلا كثيرا من قادة الرأي و السياسيين البارزين و فنانين و مثقفين و كتاب و زعماء أحزاب و مسؤولين ساميين في جهاز الدولة كما خالط صغار فقراء البوادي و الأرياف و كل طبقات المجتمع..
و كان يفهم جيدا أن علاقاته و هو مدير لمكتب الشرق الأوسط مع فئة عريضة من الناس في الحكم و في المعارضة لا تعني انه صديق لهم..يقول بدون أوهام : يوم امشي من هنا سيتفرقون من حولك و يديرون ظهورهم..للصحفي معارف أكثر مما له من أصدقاء تلك هي الحقيقة..أما صحافة العلاقات العامة فيهي أسهل السبل إلى المناصب التي لو كان يرغب فيها لنالها و هو مقرب إلى رأس العين ادريس البصري .
لم يسجل عليه انه طلب من الوزير القوي آنذاك خدمة أو غرضا أو مصلحة شخصية ما عدا العلاقة التي يمكن أن تجري بين سياسي مسؤول و صحفي.. خالط علي تفاصيل الإعداد لطي صفحة الماضي و الانصاف و المصالحة و حضر في جلسات عشاء كان من ضيوفها عبد القادرالشاوي و ادريس بنزكري و جمال شيشاوي و الياس العماري و احمد حرزني و لحبيب بلكوش و علي بوزردة و آخرين لا يسعني المقام هنا لذكرهم و تخونني أيضا الذاكرة أيضا. كان يتابع ملف الإنصاف و المصالحة وهو يولد و يتأسس و ينمو و يترعرع و يصير كامل الملامح و الهيئة.
لست مطلعا على التقارير التي ستقدم للمحكمة لكنني واثق انك صديقي بريء براءة الذئب من دم يوسف فيما يتعلق الإشادة بالإرهاب.
المادحون للإرهاب و الداعون إليه صراحة و جهرا و بالصوت و الصورة و الصراخ معرفون.الفقيه النهاري في وجدة يصرخ بقتل المرتدين و من خالفه الرأي و الموقف و يشيد بقتل المطبعين و زوار إسرائيل و أئمة بعض المساجد يصرخون كل جمعة: اللهم شتت شمل اليهود و اقطع أرزاقهم و نسلهم و حرثهم و حصادهم,,هل هناك دعوة إلى الإرهاب أكثر من هذه؟؟
أليس إرهاب الناس و المجتمع هو أيضا عنف و جريمة في حجم العنف الممارس ضد الدولة و المؤسسات؟
فرقة لمشاهب التي غنت " عش النسور" هي نفسها التي غنت أغنيتها الشهيرة التي يحبها كل مغربي: بغيت بلادي مويمتي.. صديق فنان قال لي أن الحسن الثاني بكى مرة و هو يسمع لمشاهب تغني بغيت بلادي..
أريدك أخي أن تكون مثل لمشاهب: تغني على الوترين ..تغني عش النسور و تغني بغيت بلادي..
أميل زولا علمنا درسا كبيرا في الحياة حين كتب مقاله التاريخي الشهير. إنني اتهم" دفاعا عن دريفوس و عن براءة هذا الضابط الفرنسي اليهودي الذي اعتبر خائنا و متعاملا مع ألمانيا و زج به في السجن في قضية ملفقة مخدومة. دريفوس سيحكم عليه بالمؤبد لكن أميل زولا سيقول لرئيس الدولة و للقضاء و للعالم إن أطلقوا سراح الرجل لأنه ضحية بريء .
قلوبنا معك و دعواتنا و صلواتنا معك بالسراح و العودة ألينا.