من بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص بالحي المحمدي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي. بعد محطة التكوين المسرحي والانتماء في سنة 1970 إلى مدرسة الطيب الصديقي، دخل الفنان محمد البخثي تجربة الأغنية «الغيوانية» في سنة 1971، وهي التجربة التي يقول عنها محمد بختي، في بوح جميل ل«المساء»: «بعد مرور فرقة «الغيوان» في برنامج «مواهب» للمخرج بورجيلة، اكتشف الجمهور بوجميع، العربي باطما، عمر السيد، علال من خلال أدائهم أغنية «الصينية». وبعد ذلك مباشرة، سينسحب علال وتبعه بعد ذلك محمود السعدي ومولاي عبد العزيز الطاهري.. في هذه الفترة، اشتغلت مع «ناس الغيوان» كمحافظ، وأتذكر أن سهرة لي رفقة المجموعة تمّت في سينما «السعادة» واشتغلنا في سينما «الكواكب» وتكلّف بالحفل نسيب الطيب الصديقي. وبعد هذه الفترة مع اليانصيب الوطني في سينما «فوكس».. وبدأت أسهم «الغيوان» تصعد. وبعد ذلك التحق الطيب الجامعي وتكفل بسهرة ل«الغيوان» في المسرح البلدي وتكفل بالملصقات وكنت أقوم بالدعاية، وقد امتلأت القاعة أثناء السهرة، ولكن حينما حل وقت المحاسبة، قال الطيب الجامعي إن العرض لم يترك في الصندوق إلا 30 ألف فرنك. بعد خصم المصاريف.. وبما أن محمود السعدي كان متخصصا في المحاسبة، فقد رفض الاقتناع بما جاء على لسان الجامعي، وقرر محمود السعدي مغادرة ناس الغيوان»... ويتابع البختي سردَ ذكرياته قائلا: «بعد مغادرة محمود السعدي، نظّمْنا جولة تاريخية في الجزائر لاقت تجاوبا كبيرا من لدن الجمهور الجزائري، إذ نظمنا خمسةَ عروض ممتازة للغاية وشاركنا في «مهرجان الشباب العربي» الأول هناك. وبحكم أنني كنت مندفعا وأحب قول الحقيقية، ولأنني تعاطفت مع محمود السعدي، لم يجد «البعض» بدا من تخييري بين التزام الصمت أو مغادرة الفرقة، وهذا ما تم بالفعل، وواصلت «ناس الغيوان» طريقها الفني.. وفي أحد العروض الفنية التي أحيتها المجموعة في مدينة الجديدة، قرر كل من محمود السعدي وحميد الزوغي دخول مسرح الجديدة لمتابعة السهرة، إلا أنهما مُنِعا من ذلك، بتوصية من الجامعي.. وشاءت الصّدَف أن يلتقي السعدي والزوغي بمحمد الدرهم وسكينة الصفدي في بيت المسرحي الراحل محمد عفيفي في الجديدة. وبعد أخذ ورد، عمد الزوغي والسعدي إلى جلب سكينة الصفدي والدرهم، وبدأت نواة فرقة «جيل جلالة»، التي تأسست سنة 1972 وضمت كلا من محمد محمود السعدي، سكينة الصفدي، محمد الدرهم، مولاي عبد العزيز الطاهري وحميد الزوغي، واشتغل معهم الممثل محمد مجد وبدأت الفرقة تتمرن.. بالتزامن مع ذلك، تأسست فرقة «تكادة»، أي في أواخر 1972، قبل أن تتأسس في سنة 1973 فرقة «لْمْشاهبْ»... ولفرقة «لْمشاهْبْ» حكاية طويلة مع محمد البختي، يقول عنها: «في سنة 1973، كنت جالسا في مقهى «لاكوميدي» في البيضاء.. جاء عندي الراحل الشريف لمراني، رفقة صديق هو المحامي محمد بولمان وقالا إنهما يريدان أن يؤسسا فرقة ورافقتهما إلى سرداب في حي «بيلفدير». وبحكم أن الأمراني كان ابن وجدة فقد كان متأثرا بإيقاعات الإخوان «ميكري» وسمعت لهم مقاطع بآلات بسيطة أعتقد أنها كانت مقنعة، لاسيما أن «الدّْراري كانو مْوازنية».. ومع مرور الأيام، بدأت ملامح «لْمشاهْب» تتشكل، وفي يوم من الأيام كنت جالسا في مقهى «لاكوميدي»، وإذا برجل اسمه أحمد عجيب يخوض ويبدأ في حديث عن شباب من مدينة مراكش يكونون فرقة «طيور الغربة» تخاصموا في ما بينهم في حي «لالة مريم»، فرافقته إلى هناك فوجدت أحمد الباهري، محمد الباهيري، سعيدة بيروك، التي ستصير زوجةَ محمد باطما في ما بعد، واستمعت إلى أدائهم وأُعبجت بضبطهم للميزان، وعلى الرغم من ذلك «ما شْديتهومْش» وهذا ما ندمت عليه في ما بعد.. وفي يوم من الأيام وفي المقهى ذاتها، لمحت رجلا يلوح لي بيديه لم أتعرف عليه، لبعد المسافة، ولما اقترب، عرفت أنه الباهيري، الذي أبدى رغبته في العمل، وجاء الشريف الأمراني الذي يتقن الإيقاع، وطلب من الفرقة البقاء في الدارالبيضاء للتمكن من العمل، وبدأ التفكير في فضاء يقيمون فيه، فاقترحت عليهم البقاء في مكتبي الحالي، شريطة أن يُحضروا أغطية خاصة بهم، هذا بالنسبة للرجلين، أما سعيدة بيروك، فذلك نقاش آخر»... نقاش يقول عنه البختي: «حينما سمعت أن سعيدة تريد أن تستقر معنا في الدارالبيضاء، طلبت منها أن أتحدث إلى عائلتها في مدينة مراكش، وبالفعل ذهبت إلى مراكش وتأكدت من أن الأم موافقة على عمل ابنتها، فطلبت منها إحضار شهادة تثبت أنهابكر، لأنها لم تكن تتجاوز ال15 سنة، وهو ما تحقق بالفعل، وتشبّثُّ بالأمر لأنني قررتُ أن تعيش سعيدة مع أسرتي الصغيرة.. وبعد عودتنا، تشكّلت فرقة «لْمشاهب» في أواخر سنة 1973، ونظمت أول سهرة في المعرض الدولي للدار البيضاء، وأتذكر أنني طلبت من يسري شاكر، الذي كان يقدم مسرحية بمشاركة سلمات، الحسين بنياز، صلاح نور، سعيد بوقال، أن يخصص لنا مدة زمنية لا تتجاوز 15 دقيقة. وبعد أخذ ورد، قبِل بذلك، والغريب أن الجمهور تفاعل مع «لْمشاهْب»، وأخذنا حيز الفرقة التي كان من المفترَض أن تغني في السهرة.. وقد اتخذتُ لنفسي موضعا وسط الجمهور، في الوقت الذي كان المصري يسري شاكر يردد: «فينْك يا بختي لْحرامي».. تعبيرا عن غضبه مما حصل، في حين أنني كنت سعيدا باستمرار السهرة.. وبعد ذلك، قمنا رفقة الراحل عبد السلام الشرايبي بجولة أوربية ضمن سهرة نظمتها الخطوط الجوية الملكية، وغنينا في كل من فرنسا وألمانيا. وبعد العودة، ظهر في الواجهة محمد باطما، الذي ترك فرقة «تكادة» والتحق بمجموعة «لْمشاهْب». وفي حادثة لا داعي إلى شرح تفاصيلها، وقع خلاف في الجولة تسبَّب فيه الباهيري، الذي قررت الفرقة توقيفه لمدة شهر، وهو ما لم يتقبله وتضامن معه الآخرون، وبقيت سعيدة، فسألناها عن رغبتها في البقاء مع الأخوين الباهيري أو البقاء مع «لْمشاهبْ»، فاختارت الخيار الأخير، وبعد ذلك اشتغلوا باسم «لْمشاهب»، بعدما أتوا ب«سكينة الصفدي»، وأسسوا فرقة «الجْوادْ».. في تلك الفترة، طلبت من الأعضاء أن يخرج أعضاء «لمشاهب» بأغنية يؤكدون من خلالها أنهم باقون بالفعل.. وضمت الفرقة آنذاك سعيدة بيروك، مولاي الشريف الأمراني، البختي والسوسدي، وأبدعنا الأغاني الشهيرة في سنة 1974 ومن بينها «الطالبْ»، «الوادْ»، «حْب الرّْمانْ».. وأتذكر أننا سجلنا الأغاني في «أطلسي فون»، لعبد الرحمن العلمي، بمبلغ 1000 درهم، وخصصنا 1000 ملصق للدعاية بالألوان واكترينا المسرح البلدي وأحْييْنا سهرة شارك فيها الداسوكين والزعري وحققت الفرقة نجاحا كبيرا.. وما تجب الإشارة هو أن الفرقة ضمّت في البداية كلا من الشريف الأمراني وسعيدة بيروك، قبل أن يلتحق السوسدي، الذي طالب بإلحاق صديقه الشادلي، وتكونت الفرقة التي خاضت تجربة فريدة في غناء المجموعات وعرفت مسارات أخرى»...