ذات مساء بعيد، من شدّة بعده يبدو وكأنه ينتمي لحياة أخرى، كنت أقف و على وجهي ابتسامة استغراب و أنا أضع سماعة الهاتف بدكان الحي(أيام كان الدكان هو أيضا تيليبوتيك الحي) بعد أن انتهت مكالمتي مع سيدة استثنائية سوف تلعب دورا رئيسيا في حياتي فيما بعد: السيدة تدعوني لأشاركها وجبة الفطور في صباح اليوم الموالي ! الناس يدعون بعضهم للغداء أو للعشاء أو فقط لفنجان شاي عند الظهيرة، لكن دعوة للفطور !! و في السادسة صباحا !! كانت تلك هي زهور العلوي التي ستصبح صديقتي وأمي الروحية، المرأة الاستثنائية صاحبة الموعد الاستثنائي.. كنت أراها تتحرك بيننا في الجمعية، امرأة جميلة، مثقفة، أنيقة وشغوفة بالتفاصيل الصغيرة التي تضخ الجمال فيما يحيط بها. عندما دخلت بيتها أوّل مرّة، فكرت أنّه يشبهها تماما: بسيط، هادئ و ذو ذوق رفيع. تتنفس في أرجائه نباتات سعيدة داخل أصص نحاسية لامعة. على الجدار في الصالون كانت هناك اللوحة إيّاها التي ستخبرني زهور فيما بعد أنها ترى فيها نفسها، لوحة تظهر فيها امرأة تقرأ في كتاب و هي مستلقية فوق أريكة في وضع مسترخي.. مرتاح. "إنّها أنا" كانت تقول زهور و تبتسم.
يبدو أن الحديث عن زهور لا يمكنه أن يكون سوى حديث عاشق بطعم الإعجاب الشدّيد (وفي حالتي معجونا بنسبة كبيرة من مشاعر الذنب). جميع من احتكّ ولو من بعيد بالحركة النسائية المغربية و بالحياة السياسية و بالنخب يعرف زهور العلوي رغم أنها لم تخلف إنتاجا مكتوبا باستثناء بعض المقالات المؤسسة في جريدة 8 مارس. هي من أهمّ فعاليات هذا البلد و إحدى رائداته النسائيات المرموقات بالتأكيد. يكاد أن يكون هناك إجماع على فرادة هذه المرأة، تصالحت بانفتاحها مع كل التيارات السياسية والأطياف الإيديولوجية، فهي صديقة السياسيين و النخب المثقفة تحاور وتصغي للجميع، ابتداء من الشخصيات المحسوبة على هرم السلطة إلى أبسط عامل نظافة في الحي الذي تقطنه. أذكر كيف كانت تحرص على أن تتلقى مساعدتها المنزلية دروسها في محو الأمية كما تحرص على تيسير الظروف لذلك، كانت تشبه نفسها سلوكا و قناعات.
في ذلك الصباح البعيد الذي تقاسمنا فيه وجبة "الخليع" الفاسي بالبيض البلدي، ستطلع زهور على نصوصي الأولى. كانت تلك النصوص ذريعة أدبية لنبدأ صداقة سوف تستمرّ عمرا بأكمله. لم يمنعها كوننا ننتمي لجيلين مختلفين، كان تواصلا سلسا و متواطئا منذ البداية. أحاديثنا لم تكن تتوقف، من خلالها كنت أشرئب لأطلّ على ذلك الماضي الذي تكبدته المرأة المغربية الحالمة بالتغيير وكانت هي من خلالي تكتشف جيلا جديدا من النساء المغربيات بمواصفات العصر. جمعنا وعينا بعدالة و خصوصية قضيتنا كنساء. هذه الأحاديث سوف يتمخض عنها مشروع كبير لم ير النور للأسف إلى اليوم، هو كتابة مذكراتها بقلمي. كان المشروع يقتضي أن أستمع لحكايتها المليئة بالتاريخ و بالأحداث: فزهور العلوي شاهدة كبيرة على عصر بكل لحظاته الفارقة التي صنعت هذا المغرب الحديث الذي نوجد فيه اليوم بخيباته و تناقضاته و مراراته الجماعية والفردية، فهي عضو مؤسس لأهم الحركات السياسية و النضالية التي سيعرفها هذا البلد.
كتابة المذكرات كانت تتطلب تفرغا لم تسمح به ظروفي و ربّما أيضا اختياراتي في الحياة. زهور كانت تقول: "إمّا أن نبدع من رأسنا أو نبدع من رحمنا يصعب أن ننجح فيهما معا" و أنا دخلت التحدي: سوف أنجب أبنائي و أكتب نصوصي أيضا.. هل نجحت في ذلك؟؟؟؟
تصارع زهور العلوي اليوم المرض، هذا المرض الذي أبعدها نسبيا عن شأن المجتمع المدني منذ مدّة ليست بالقصيرة، أخذ منها المرض الكثير من الوقت ومن الجهد، لكنها ظلت تجابهه بمعنويات عالية و بقوتها وصلابتها الداخلية التي يعرفها كلّ أصدقائها و مقربيها.
هذه السيدة الصميمية كانت دائما امرأة مستقلة بمواقف واضحة سوف تؤدي في أحيان كثيرة، ثمنها غاليا. سأتعلم منها أن أفخر بكوني امرأة، كما ستلقنني كيفية تصفيف الزهور و تنسيق ألوانها، كيفية صبّ الشاي و الاعتناء بالنباتات. كنت أزورها في بيتها باستمرار، بيتها الجميل الذي يستقبلك بنسائم زكية وموسيقى هادئة، قبل أن تملأ صاحبته الفضاء بحضورها و حديثها المسترسل و بلغتها العربية الأنيقة. تستطيع زهور أن تمارس عليك إغراء من نوع خاص بمجرد ما تدخل صالونها. أفكر الآن وبأسف أن هذا الصالون كان يمكن أن يتحول إلى صالون أدبي متميز لو أن الظروف سمحت بذلك.
صداقتنا كانت تأخذ أيضا شكل رسائل في قصاصات ورقية: فعندما كنت لا أجدها بالبيت كنت أدس كلماتي المقتضبة أسفل الباب. أخبرتني في آخر اتصال بيننا، أنها لا تزال تحتفظ بالقصاصات كلها و لم أخبرها بأنني لا زلت أحمل كل هذا الماضي الجميل.. دافئا تحت جلدي.