تقديم: إن ارتباط الفلسفة بالتفكير و التأمل في إشكال الحرية، كإشكال راهن معاش و يومي، يؤرق الإنسان المعاصر الذي بات يعيش في عالم تزداد فيه مجالات السلطة و شبكات التحكم أتساعا و تمددا على حساب مجال الحرية الشخصية و الجماعية، التي أصبحت تضيق لحظة بعد لحظة إلى أن وصلت إلى مستوى الانعدام، هو تفكير في الفلسفة و في و لادتها اليونانية، التي كانت نتاج لإرادة الإنسان اليوناني لكي يتحرر من قيود الأسطورة و الخرافة التي حكمت عقله و تحكمت في تفكيره لقرون ليست بالقليلة. فكانت الفلسفة ثمرة لإرادة التحرر من سلطة "الميتوس- Méthos "(الأسطورة) و ذيق أفاقه، لأجل العيش في رحابة و لامحدودية "اللوغوس- Logos"( العقل). و هذا ما تمثل لنا في النسق الفلسفي السقراطي( نسبة إلى الفيلسوف اليوناني سقراط 470-389 ق.م) الذي كان هدفه هو تعليم الناس كيفية توليد المعرفة و الحكمة و الحقيقة من عقولهم الخاصة، بدل الاتكال على عقول الآخرين من أولائك السوفسطائيين الذين يوهمون الناس بأنهم يعرفون كل الأشياء و كل المواضيع، من خلال قولته «إعرف نفسك بنفسك» بدل أن تعرف نفسك عن طريق فكر الآخرين. و هو ما تجسد، كذلك، في النسق الفلسفي الأفلاطوني( أفلاطون428-347 ق.م) الذي كان تتمة لنسق أستاذه سقراط، إذ دعا الإنسان إلى ضرورة الخروج من كهف الحياة اليومية المسكون بالأوهام و الضلال، و بأشباه الحقيقة، و التحرر منها لأجل بلوغ الحقيقة العقلية التأملية المطلقة، كخير أسمى ينير حياة الإنسان و وجوده الفردي و الجماعي. و هو ما تمظهر لنا، أيضا، في النسق الفلسفي الأرسطي ( أرسطو 384 322 ق.م) الذي أخذ على عاتقه صياغة آلة عقلية فكرية سماها "الأورغانون" تمكن الإنسان الذي يتبعها في نمط تفكيره من تجاوز الخطأ و التزييف... و أن يحرر نفسه و عقله منها بهدف التمكن من ملامسة الحقيقة اليقينية و المطلقة التي لا يساوره فيها أي شك لأنها منطقية. و هذه الآلة العقلية هي المنطق الأرسطي. فمن هذه الأنساق الفلسفية، و من غيرها من الفلسفات، نفهم أن الفلسفة تدل على الحرية العقلية و الفكرية التي تمنح للإنسان، أو التي على الإنسان أن يمنحها لنفسه و أن يصل إليها. و بأن المشكل الأساسي للفلسفة هو الحرية الإنسانية التي تسعى للدفاع عنها، و تمثلها في مختلف صورها و أشكالها الممكنة، و دعوة الإنسان إلى ممارسة هذه الحرية في وجوده المعاش. لأن الحرية حسب سارتر ( فيلسوف فرنسي 1905-1980) هي شرط الإنسان الذي مقدر عليه أن يعيش حريته، و أن يبحث عنها، و يوجد لها الأرضية المناسبة لعيشها. إذن فالحاجة إلى الفلسفة في لحظتنا الوجودية الراهنة، تنبع من حاجتنا الملحة للحرية، التي أصبحت شبه منعدمة، أو منقوصة، أو حرية مزيفة نعيشها و نقبل بها بدل الحرية الحقيقية. بالتالي كيف تكون الفلسفة تفكيرا في الحرية و مدافعة عنها؟ و كيف يمكننا بناء مفهوم الحرية انطلاقا مما هو فلسفي؟ للإجابة عن هذه الإشكالات سنركز على ثلاث فلاسفة، هم الفيلسوف الهولندي "باروخ اسبينوزا"، و الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، و الفيلسوف الألماني، الأخر " إيريك فروم". اسبينوزا: حرية التفكير أساس النظام الديمقراطي لقد صارع الفيلسوف الهولندي "باروخ اسبينوزا"(1632-1677) في فلسفته السياسية و الدينية، الاستبداد الديني و الاستبداد السياسي، اللذين هيمنا على أوروبا قرونا عدة، و اللذان كانا يلتقيان في ضرورة حرمان الإنسان من كل قدرة على التفكير و الاستخدام السليم للعقل، و جعله مجرد كائن مفرغ من جوهره الذي هو الفكر و العقل، و متحكم فيه و في مصيره دون أن يمتلك قدرة التفكير في حياته لتقرير ما هو انسب له و لوجوده، و دون أن تكون له الإرادة الحرة في الاختيار و الفعل و المشاركة في الحياة السياسية داخل دولته. بل تم تحجيم دور الإنسان على مجرد آلة مطيعة في يد السلطة السياسية. هذا الصراع السياسي و الفلسفي الذي خاضه اسبينوزا تمثل لنا في ثمرة فكره الذي هو كتاب " رسالة في اللاهوت السياسية" الذي انتقد فيه الاستبداد فكرا و ممارسة، سياسيا كان أو دينيا، مؤكدا في المقابل أن خضوع الفرد للدولة، هو اختيار إرادي قام به كل شخص تنازل عن حقه المطلق، لكنه لم يتخلى عن حقه في التفكير السليم، دون إرهاب أو تأثير آو منع من طرف السلطة السياسية، و لم يتخلى عن حقه الطبيعي في استخدام عقله. إذ يقول في كتابه السابق«إن الحق الوحيد الذي تنازل عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء و ليس حقه في التفكير»(ص 446) لأن عقل الإنسان من الأمور التي تعد و تعتبر، دون جدال أو نقاش، على أنها حق خالص لكل فرد، ليس لأي فرد أخر، أو لأية سلطة سياسية أو دينية أن تسلبه هذا الحق أو تمنعه منه، أو أن تسن قوانين تجرم التفكير أو تحدد للفرد في ما يجب التفكير فيه، و ما لا يجب التفكير فيه. إذ يضيف قائلا:« إن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة إنسان آخر»(ص444). لأن الغاية الجوهرية من تأسيس الدولة هي ضمان الحرية للمواطنين و ليست غايتها التحكم فيهم و في تفكيرهم، إذ يقول:« فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة»(ص 446). بالتالي فإن الخطر الحقيقي الذي يهدد النظام السياسي الحاكم، و الذي يجعله مهددا بالزوال و الإنهيار هو أن يتم حرمان المواطنين من حقهم في التفكير و في الاستخدام الحر و السليم لعقولهم. لان استمراريتها رهينة بان تمنحهم الحق و الحرية في التفكير و إبداء الآراء بإرادتهم دون أن تتدخل السلطة لكي تفرض عليهم أفكار معينة تخدم مصالحها. و هذا ما أصبحنا نعيشه و نعاني منه في راهننا المعاش، الذي أصبحت فيه الدولة متحكمة في تفكير مواطنيها و مجمدة لقدراتهم العقلية، من خلال قمعها لكل الآراء و الأفكار التي تعارض نهجها السياسي، و تنتقد كيفية تدبيرها و تسييرها للمجتمع الذي تحكمه. بل ظاهرة القمع الفكري و الحرمان من حرية التفكير المخالف، أصبحت ظاهرة كونية كوكبية و معولمة، مثلا فالتفكير الحر في مسالة "المحرقة اليهودية" و محاولة تفنيد حدوثها أو التشكيك فيها، أمر مرفوض كونيا من النظام السياسي الدولي. و ليس لأي فرد في أي دولة كان أن يشكك في هذه المسألة بان يتبع بتفكيره الخاص، ومن يجرؤ بفكره على هذا الفعل، أقل ما يتخذ في حقه هو وصفه بكونه كمعاد للسامية، أو أبعد ما يمكن يناله هو الاغتيال و التصفية الجسدية، و السبب أنه استخدم عقله بشكل حر. + كانط: الحرية كتنوير انخرط الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) بدوره، على غرار كل الفلاسفة، في الاهتمام بإشكال الحرية، كإشكال إنساني دائم الحضور في كل الحقب و العصور التاريخية، و اللحظات الوجودية للإنسان. و انخراطه هذا تمظهر لنا في كل مشروعه الفلسفي النقدي، و خصوصا في كتابه "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" الذي تناول فيه إشكال "حرية الإرادة" التي ميز فيها بين "الحرية السلبية" التي لا تتقيد بمبادئ و واجبات أخلاقية، في مقابل "الحرية الإيجابية" التي تنبني على حرية الفعل و حرية الإرادة الملتزمة بالقانون الأخلاقي و بأوامره كمرشد و موجه لها، لكي لا تسقط في العفوية و الارتجالية، لأن هذه الحرية تنبع من "إرادة خيرة" تجعل الشخص يعامل غيره كما يعامل نفسه، ويرسم حدودا لحريته هي بداية حرية الغير. و تجسد أيضا في مقالته الفلسفية التي نشرت في صحيفة برلينية سنة 1789، كجواب قدمه عن سؤال «ما التنوير؟» إذ جاءت أغلبية فقرات هذا المقال الفلسفي- السياسي تدور حول فكرة أن التنوير هو حرية استخدام العقل. لأنه في عصر سيادة الاضطهاد الفكري و العقلي الممارس من طرف محاكم التفتيش التابعة لسلطة الكنيسة الكاثوليكية، و سيادة النظام السياسي الشمولي المتمثل في النموذج البابوي( البابا)، و الملكية الإقطاعية، اللذان كانا يمارسان هيمنة شمولية كليانية على الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية و السياسية... ظهرت دعوات، مباشرة و غير مباشرة، تحاول أن تقوم بتنوير الإنسان من أجل الخروج بذاته من هذه الظلمة الوجودية( عصر الظلمات) الذي السبب فيها تغييب نور العقل. و ذلك بدعوة كل إنسان إلى أن يستخدم عقله و يحرر فكره من كل القيود التي تكبله، و أن يفكر هو بدل أن يفكر الآخرون في محله. من هذا المنطلق نفهم أن كانط ربط الحرية بما هو داخلي في الإنسان، بحرية العقل و الفكر، و بأن تكون لنا القدرة و الإرادة الذاتية على استخدامهما دون قيد أو شرط، و دون تسلط. و هنا يقول كانط: «ما التنوير؟ إنه خروج الإنسان من وضع الحجر الذي هو نفسه مسؤول عنه. و هذا الحجر يعني عجز الإنسان عن استخدام عقله دون وصاية غيره » و الخروج من هذا الوضع غير الإنساني ليس بالأمر البسيط، بل هو تحرر و مقاومة و تجاوز لوضع سلبي يكون فيه الإنسان مغتربا عن ذاته و عن فكره، ليصبح في وضع إيجابي يلقى فيه الإنسان ذاته و يتلاقى مع فكره. و هو ما يتطلب الجرأة و الشجاعة الشخصية و الجماعية للتحرر من هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان مقيدا و غير حر، رغم أنه يعي بكونه حرا إلا أن وعيه هذا هو وعي زائف، إذ يبني وعيه بحريته انطلاقا من تحركاته المادية و الجسدية، لكن هذه مجرد حرية زائفة، حرية حيوانية تقوم على الحركة في المجال. أما الحرية الحقيقية فهي حرية الفكر، حرية العقل، حرية الإرادة، حرية التقرير و الاختيار، حرية الاعتقاد...إلخ. و هذه الشجاعة تقوم على طرد الخوف الذي يحمله الإنسان من المعرفة، و من عدم القدرة على استخدام العقل بكيفية سليمة، و الخوف الذي يجتاح الإنسان من غياب الكفاءة على التفكير السليم و المنتج. بل لابد من الجرأة على المعرفة ليملك الشجاعة للخروج من حالة الوصاية العقلية التي يمارسها عليه الآخرون، و وسائل الإعلام، و الأحكام المسبقة، و الأفكار الموروثة، و المعارف العامية المتداولة... التي أصبحت لها سلطة على عقولنا و تتحكم في توجيه مسار فكرنا، حتى صرنا نتوهم أنها هي الحقائق المطلقة و الأبدية التي لا تفنى، و بأننا سنتوه و ندخل في دوامة فارغة من اللاحقيقة إذا ما نحن حاولنا التخلي عنها و التفكير بذواتنا و بعقولنا. بل إن كل هذا مجرد وهم يتبخر عندما نمتلك الشجاعة على أن نفكر نحن بأنفسنا دون وصاية و دون إحساس بالنقص أو الذنب.« لتجرأ على المعرفة، و لتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك الخاص، ذلك هو شعار التنوير» هكذا يخاطبنا كانط في لحظتنا الراهنة التي في أمس الحاجة إلى هذا التنوير الكانطي العقلي و الأخلاقي، الذي يتطلب شجاعة و جرأة على التفكير و المعرفة، بدل الجبن و التخاذل، و خذلان ذواتنا التي جمدنا فكرها وقدرتها على الاستعمال الحر للعقل، باستهلاكنا لأفكار غيرنا، و بإدخالنا لعقولنا الخاصة في مرحلة السبات العقلي الإرادي. و الشجاعة على استخدام العقل و الجرأة على المعرفة، و القدرة على مواجهة كل ما يحد من قدرتنا على التفكير الحر و المستقل و الذاتي، هي أقوى من الشجاعة التي يطلبها الإنسان لأجل الإطاحة بالاستبداد السياسي، لأن ما يمهد الطريق لهذا النوع من الاستبداد هو الاستبداد الفكري و العقلي، هو وجود عقول تقبل أن يفكر بدلا عنها، عقول تقبل بأن تملا بما يقدمه لها الآخرون، عقول تخزن بدل أن تنتج و تفكر، عقول تسمع و تأخذ بدل أن تعطي و تبدع، عقول تستهلك كل ما يقدم لها بدل أن تبحث، و تفحص، و تشك، و تفهم و تتأمل... إذ يؤكد لنا كانط بأن «التنوير، شرطه الوحيد هو الحرية(...) أي الاستعمال العلني للعقل في كل المجالات».بالتالي يكون أساس الإصلاح السياسي هو الإصلاح الفكري هو تحرر العقل و الفكر من الاستبداد «فعن طريق الثورة يمكن أن نسقط استبدادا فرديا، أو نضع حدا لاضطهاد يقوم على التعطش للثروة و النفوذ، و لكننا لن نبلغ بها إصلاحا حقيقيا لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكام مسبقة جديدة على غرار الأحكام القديمة، لتشد إلى حبالها السواد الأعظم(من الناس) المفتقر إلى الفكر». إذن فالتنوير هو فعل فردي و جماعي، فعل استمرارية، منفتح، إرادي. ليس لحظة تاريخية أو زمنية، أو لحظة مجتمعية يعيشها أو عاشها مجتمع دون عيره. لأن التنوير هو حرية و تحرر. حرية الفكر و العقل، و تحرر الإنسان من كل ما يعرقل و يعيق و يقيد فكره، و استخدامه الذاتي و السليم للعقل. بالتالي ما دامت هناك قيود تسلط على فكرنا و عقولنا لكي تحد من و وظيفتهما، فلا بد لن من فعل التنوير الذي هو و حرية و تحرير، و تحرر ذاتي. فكل واحد منا مسؤول عن تنوير نفسه و تحرير عقله من كل ما يعيق و يحد من قدرته و عفويته على التفكير. إريك فروم: التحرر من الاستهلاك و الامتلاك إن مشكل الحرية لم يعد محصورا اليوم في غياب و تغييب الحرية الفكرية و السياسية، و سيادة الاستبداد و الديكتاتورية الشمولية. بل في مجتمعاتنا المعاصرة - التي تعرف سوسيولوجيا و اقتصاديا- بمجتمعات الاستهلاك أصبح فيها مشكل الحرية مرتبطا بما يمكننا أن نصطلح عليه "بالاستبداد الاستهلاكي". الاستهلاك المتحكم في الأشخاص، و الموجه لتفكيرهم، ولاختياراتهم، و المهندس لآمالهم و تطلعاتهم... . هذا النمط من الوجود الذي بات مفروضا و محتما على الإنسان المعاصر أن يوجد عليه و داخله، دون أن تكون له الحرية و الإرادة على رفضه أو مقاومته، بل لم تكن له الحرية الذاتية على اختياره و إيجاده. فهذا النوع من الاستبداد غير المرئي و الناعم و الإرادي، و الذي لا تظهر قيوده بصورة مادية ملموسة، بل يمارس سلطته و هيمنته بكيفية خفية، على مستوى اللاشعور الإنساني، يجعل الشخص منوما مغناطيسيا بالصورة الإشهارية و جماليتها المفبركة التي تلعب على النقص و الرغبة و على المكبوت الفردي و الجماعي، بخلق عوالم افتراضية للسعادة. فهذا النوع من الاستبداد هو ما حاول الفيلسوف و السيكولوجي الألماني المعاصر " إريك فروم- Erich Fromm " (1900- 1980) أن يعالجه في أغلب كتاباته الفلسفية و السيكولوجية. فالنظرة الثاقبة و المدققة التي تميز بها "إريك فروم" جعلته ينتبه في فلسفته الإنسانية إلى ظاهرة " استلاب الإنسان" في مجتمع الاستهلاكي الرأسمالي. و هو استلاب يتم على مستويات عدة، أبرزها استلاب وعي الإنسان الذي يتم من خلال الزج به في عوالم استهلاكية خيالية، تكون سجنا له و لوجوده من خلال تحكمها في أفق تفكيره و اختياراته، إذ لا يكون مطالبا فيها باستعمال عقله و ذكائه و عبقريته...، بقدر ما يكون مرغما فقط على الاستهلاك الأعمى و المفرط، و ليس استهلاك ما يريد بل استهلاك ما هو متاح له و محدد بشكل مسبق. و من الميكانزمات النفسية التي توظف من أجل تحقيق هذا الغرض هناك على الخصوص تقييد الإنسان بقيود و أصفاد غير مرئية تبيع له القيد معلبا في علبة الحرية، بمبادئ من قبيل "الفردية"، "تحقيق الذات"، "الحرية الشخصية"، "الانعزال عن الآخرين"...( مثلا: تسويق صورة العيش و السكن خارج المدن، بعيدا عن صخب المدينة، و عن تشابك و تداخل العلاقات الاجتماعية، لينعم الشخص بالسعادة و الاسترخاء بمفرده. أو شرب مشروب غازي معين وسط زحمة السير و الحر يعطيك إحساس بأنك وحدك مع ذاتك لا وجود للآخرين. أو قد يمنحك الشعور بالشجاعة التي أنت تفتقدها واقعيا... و غيرها من الخطابات الإشهارية) و هذا الاستهلاك غير الواعي هو سجن الإنسان المعاصر، الذي يقوده مباشرة إلى السقوط في فخ " مبدأ الامتلاك"الذي يقوم على كوجيطو استهلاكي هو « أنا امتلك و أستهلك إذن أنا موجود» في مقابل الكوجيطو الديكارتي «أنا أفكر إذن أنا موجود» الذي يؤسس لمبدأ الوجود الحقيقي الذي قوامه الداخل الإنساني بدل الخارج و الظاهر. و هنا يقول "إريك فروم" في كتابه " الإنسان بين الجوهر و المظهر":« إذا كنت أنا هو ما أملك، ثم فقدت ما املك، فمن أكون؟ لن يبقى سوى شاهد مهزوم، متضائل، مثير للشفقة... ». لأن "مبدأ الامتلاك" يعمل على تقليص الحياة الإنسانية و اختزالها في الأشياء و المواد التي تقدم له من أجل الاستهلاك، ليتحول وجود الإنسان من الاهتمام بذاته و بوجوده و بإنسانيته إلى التفكير و التركيز على الاستهلاك و الامتلاك. فكم من شخص لا يحس و لا يدرك وجوده إلا عندما يمتلك و يشتري شيئا علق عليه إحساسه بهذا الوجود، فترتسم عليه سعادة و فرحة مزيفة، لا تنبع من جوهره بل من خارجه، من ما تم امتلاكه. لتصبح الأسئلة التي تتردد في ذهن كل إنسان هي: ماذا سوف أستهلك؟ ماذا سأشتري؟ ماذا سوف أمتلك؟ و هل استطيع امتلاكه؟ و كيف سأتمكن من امتلاك ما أريد أن امتلكه؟ فيركز الإنسان تفكيره و كل طاقته الحيوية و الذهنية و العصبية على الامتلاك، و ينسى وجوده الحقيقي. بل و يخلق الإنسان من نفسه مادة و بضاعة تباع و تشترى. وكلمة السر التي أنتجها "مبدأ الامتلاك" هي كلمة "التسويق – Marketing"، و مفادها أن كل شيء كيف ما كان قابل للتسويق و الترويج و البيع و الشراء، شريطة خلق سوق و إيجاد كيفية توهم الإنسان بأن هذا الشيء ضروري من ضروريات الحياة. من هنا طرح "فروم" سؤال : كيف يمكن للإنسان المعاصر أن يحد من هذه القيود الاستهلاكية التي قيدت وجوده و حريته، و رسمت له أفقا و بعدا واحدا هو العيش لأجل الاستهلاك؟ الحل حسب فيلسوفنا هو تقوية "مبدأ الوجود" الذي يقوم على وعي الذات بوجودها دون أن تجد نفسها متورطة في دوامة "مبدأ الامتلاك"، و ذلك عن طريق عقلنة الاستهلاك الفردي، باقتناء ما هو ضروري، لأنه ليس كل ما هو مصنع و منتج و مسوق هو ضروري، و الاستغناء عن الكماليات. مع الوعي بعدم الخضوع لإغراءات الخطاب الإشهاري الذي يقوم على مبدأ الإيهام بتحقيق السعادة هنا و الآن، تشعر بالسعادة إذا استهلكت هذا المنتوج ( هذا المشروب، هذا العطر، هذه السيارة...). لأن الخطاب الإشهاري حسب المفكر الإسباني المعاصر "خيسوس ليبانيز" يرسم "جنة الله على الأرض"، بإيهامه للإنسان بأن النعيم يكون إذا أنت استهلكت ما يقدم لك في الوصلة الإشهارية، و الجحيم و الشقاء يكون إذا أنت لم تستهلك ما يقدم لك. ففعلا كم من الاشهارات تعمل على رسم التعاسة على وجه الممثل أو الممثلة التي سرعان ما تزول لتحل محلها ابتسامة و سعادة ربانية عندما يمتلكون ذلك المنتوج الذي هو موضوع العملية الإشهارية.إلى جانب أنه خطاب جنسي شبقي يقوم على إثارة الشهوة و الرغبة الشبقية في الإنسان. بالتالي أضحت سلاسل المراكز التجارية المغرية، التي ترسخ "مبدأ الامتلاك"، تشكل بالنسبة للإنسان المعاصر كنائس، و جوامع، و دور عبادة...، أي معابد إله الامتلاك، حيث تقدم القرابين من أجل أخذ بركت الوالي الصالح معنا إلى البيت. إذ نرى اليوم بأن المكان المخصص في البيت لجهاز التلفاز، و للحاسوب، أو لأية آلة تكنولوجية أخرى، هو نفس المكان المقدس الذي كان في السابق مخصصا للرموز الروحية في الكثير من الحضارات و الثقافات القديمة، خصوصا الوثنية منها، لأن الوثنية هي عبادة الإنسان لمصنوعات يده، و انبهاره بها، و يتألم إن أصابها ضرر أو خدش بسيط، فكم منا الآن يتألم إن أصاب شيء ما جهازه تلفازه أو هاتفه النقال...، أوى لسنا وثنيين دون أن نعي !!! إذن هكذا أصبحنا عبيد للامتلاك، للاستهلاك، للاكتناز... عبيدا للمصنوعات، للأشياء... للسوق و للتسويق و التسوق. هنا يكمن الاستبداد المعاصر للحرية، الذي ينظاف إلى الاستبداد السياسي و الفكري. هكذا أصبحت حريتنا أكثر تهديد، أصبح هامشها أكثر ضيقا إلى درجة الانمحاء و الزوال. هنا تظهر من جديد الحاجة للفلسفة كترياق ينقذنا من تسمم انعدام الحرية، لنعيد التفكير مع اسبينوزا و كانط و فروم... و مع غيرهم من الفلاسفة لأجل التحرر من الاستبداد السياسي، لأجل تحرير عقولنا و تنويرها بالشجاعة و الجرأة على التفكير، و لأجل التحرر من قيود الاستهلاك و نخرج من هذا التنويم المغناطيسي الذي نضع فيه أنفسنا عندما ننجذب وراء جمالية و جنسية الأشياء و المواد المسوقة. ذ.