"تنمية الخصوصية والاستفادة من الكونية ذلك هو خيار العرب إن شاءوا أن تكون لهم زمانية وجود مستقبلا" يبدو أن الهاجس الأكبر المسيطر على المشروع الفلسفي للكاتب التونسي زهير الخويلدي هو التفكير في الأنا من جهة علاقتها بالآخر وباللانهائي أو الآخر المطلق للإنساني. وهو هم شغل الحيز الأكبر من كتابه الثاني "معان فلسفية" الذي أراد له المتفلسف أن يكون انبثاقا تأسيسيا صلبا يشرب من معين "عين الفلسفة الكبرى منذ الفلسفة الأرسطية مرورا بآبائه من العرب من أمثال ابن رشد والفارابي وصولا إلى عتبات القول الفلسفي المعاصر بمختلف توجهاته الفلسفية المعاصرة حتى تخالنا أمام مفكر لم يترك شاردة ولا واردة من شجرة الحكمة الوارفة الأغصان والمتشابكة المعضلات إلا وارتوى من نبعها الصافي . ونحن لا نجامل حين ننعته بأنه مفكر موسوعي وما عليك أيها القارئ النبيه إلا أن تختبر ذلك قراءة " فعين القراءة أصدق نبئا من أذنها " . إنه" مفكر موسوعي جاحظي يأخذ من كل شيء بطرف" ويتقن فن القبض على معان الوجود وملاعبة "الهمّ" و"الهم" في عمق مشكلاته الفلسفية الكبرى بفكر رصين وذهن متيقظ وصبر تساؤلي يأخذنا بتلابيب بداهتنا ويسحبنا من عالم طغت عليه نفايات العولمة وصناعة الغباء الممنهج إلى عالم زاخر وساخر، زاخر برجّ البديهيات وتفتيت اليقينيات المتهاوية وساخر حيث يعلمك فن السخرية من هذا الواقع الذي انبرى يأكل نفسه بعد أن أكل كل شيء ولم يجد شيئا آخر يلتهمه غير واقعه البائس المتشظي بعد أن تلطّخ بالعدمية واللهاث وراء سراب عولمة تعد بالرفاه فإذا هي تقذف بنا في لجّة الفقر المادي والتصحر الوجودي والبؤس القيمي. في هذا الواقع المتشرب بطغيان الصورة والاستبداد السياسي الناعم واستفحال طائفية الفكر والإيمان العجائزي وعقائدية السياسة ودغمائية العلم وحشدية الفن الإستهلاكي حيث لم تترك العولمة الموجهة من قبل القوى الإمبريالية بيتا من بيوت العقل البشري إلا واقتحمته وحطمت انسجامه القيمي حتى غدا التمذهب والتشيع لشتى أنواع الدغمائيات السياسية والدينية والعلمية والاقتصادية وما فاض عنها من كم هائل من قيم طغت عليها الحسابية والمردودية والمصلحة دون مراعاة ما هو إنساني في الإنسان أمرا بديهيا وقانونا كونيا من قوانين العيش في هذا العالم و لضمان البقاء فيه. ولكم أن تتخيلوا حجم الكارثة المحيقة ببشر يدعون ألوهية قبل أن يكونوا جديرين أصلا بإنسانيتهم فها هو "الإنسان السيد " "السيبرمان المتفوق" إله المستقبل الحاضر ينتج عقلا بلا نقد ونجاعة دون عدالة وعلم دون حقيقة وإنسان دون إنسانية وفن دون أصالة وسياسة دون أخلاق ......وربما لهذا الأمر يعد كتاب " معان فلسفية " "زفرة الوجود وشهيقه " وانتفاضة فلسفية حقيقية في وجه التشويه الذي لحق بالإنسان والعالم . يعد بالتحرر الإنساني ويبشر بقارة فلسفية يسكنها الجميع عدلا ومساواة ولا يتداول فيها أي نوع من الإقصاء الإنساني، إنها قارة نابذة لكل أنواع الحقد البشري والفصل العنصري والتمييز الثقافي وجاذبة لكل معاني التقارب والتواصل والتثاقف الحضاري في ميزان العدالة الذهبي، لذلك يقول الكاتب الفلسفي زهير الخويلدي عن كتابه قائلا " إن معان فلسفية هو كتاب يقدم دعوة إلى المساواة الطبيعية بين البشر وأنه ليس هناك مجتمع تراكمي لذاته وليس هناك أعراق وثقافات تعتبر الأقوى والأفضل وتساهم أكثر من غيرها في صنع الحضارة ونشرها" . إن هذا القول يمثل حجة قوية وكافية موجهة من جهة أولى لمن يدعي التمركز الحضاري وأحقيته بالهيمنة الثقافية على الثقافات الأخرى ومن جهة ثانية لمن يشعر بعقدة النقص تجاه الآخر الثقافي وعدم قدرته على المنافسة في صياغة الوجود البشري حيث تنتفي مقولة التمايز العرقي لتحل محلها مقولة التنوع البشري وضرورته فإذا ب"المعان" يقدم دليلا ساطعا على ضرورة دحض مثل هذا الإدعاء الساذج الذي لا يرى العالم إلا من ثقب إبرة بمنظور تمركز وتعالي الثقافة ما حول نفسها وتنصيب نفسها وصية على بقية الثقافات الأخرى وهي أيضا استنهاضا مشروعا واقعيا لكل من ينظر إلى نفسه نظرة عجز ودونية بأن ينتفض لتحمل عبئ المغامرة الوجودية ومسؤولية الإنساني . يتيح لك كتاب "معان فلسفية " فرصة نادرة للتجوال حثيثا في منعرجات الفكر الفلسفي المعاصر وأشد معضلاته تركيبا وتعقيدا والتعرف عن قرب على ما يؤرق ويتهدد الوجود الإنساني وقد أحتوى الكتاب على المسائل التالية نوردها حسب ترتيبها في الكتاب : يبدأ الكتاب باستهلال يحمل العنوان التالي : "الكلي مطلب فلسفي إنساني " وفيه يؤكد الكاتب أن الكلي هو مطلب ليس أنثروبولوجيا فحسب بل يطرق باب الإبستيمولوجي عبر النمذجة في العلم إذ يقول في هذا السياق :" لا يقتصر مطلب الكلي على السجل الأنتروبولوجي باعتباره أفق كل تواصل بشري بل يبرز كذلك في السجل الإبستيمولوجي الخاص بعلاقة الواقع والحقيقة ويتحقق عبر عملية النمذجة بما هي تنظير عقلي ينحو نحو الاختزالية والتركيبية والدلالية والتداولية "، وما أثاره العلم من عدة صعوبات وعراقيل بعد الثورة العلمية الحديثة . ولعل الصعوبة الأكبر تظهر في المفارقة التالية " كيف يمكن الحديث عن الكلي في علم لا يعترف إلا بالنسبي والاحتمالي"؟ كما يتناول الكاتب مسألة الكلي الأكسيولوجي وما يثيره من تباعد بين النظري والعملي ، بين إطلاقية القيم الإنسانية و واقعية نسبيتها حسب الانتماء المجتمعي . اذ بين ما يعد به العمل من سعادة ورفاهية وما يستبطنه من اغتراب وتشيؤ وانسحاق للذات البشرية في ظل عولمة مهوسة بممارسة فن الفحش الأخلاقي والاستمتاع بثقافة سادية متلهية بتعذيب الجسد وعقابه وحرمانه من فرصة إنجاز الذات وتحرير الوعي . وما أحدثته السياسة الدولية من عهر سياسي عبر تناقضاتها بين إدعاءها الحقوقي بتقوية فلسفة حقوق الإنسان والدفاع عن أحقية المواطن العالمي إنطاقا من السند الكانطي لإرث الأنوار " الأرض وطن للجميع " إلى تبني "حق الأقوى والبقاء للأقوى حتى غدا القانون الدرويني هو البيان العالمي الأمثل وكاد يصبح لائحة رئيسية إن لم نقل أهمها مدونة في لوائح حقوق الإنسان. لذلك يأتي : الفصل الأول من الكتاب : بعنوان " الأنا مع الآخر وجها لوجه أو ليفيناس فيلسوف الغيرية " وفيه يبرز الكاتب كيف إن الاقتراب من الآخر هو مسؤولية الأنا ويعكس حريته وقدرته على تحمل المسؤولية استنادا إلى فلسفة ليفيناس إذ يقول حول هذا الموضوع:" يغادر ليفيناس الكوجيتو الديكارتي الغازي للطبيعة ويدخل إلى الذات هواء جديدا ويقوم بتغذية وجودها أين كفت الروح أن تكون فكرة الجسد لتصبح نداء متواصلا على الآخر من أجل المجيء والتهيؤ لاستقباله واستضافته على أحسن وجه " . فهل يمكن أن تتحقق فكرة النظر إلى الآخر ليس كأنا آخر بل الآخر في غيريته ؟ تلك هي الصعوبة الحقيقية التي تعترض الإنسان وهو يختبر حقيقة لقائه بالآخر الإنساني ؟ الفصل الثاني بعنوان "تعرف إدغار موران على الطبيعة البشرية " يحاول فيه الكاتب التعريف بفكر الفيلسوف الفرنسي موران والغرض من حرصه على تأسيس "أنتروبولوجيا ثقافية " إستناد إلى منهج مبني على فكرة التعقد والتركيب في الطبيعة البشرية وهذا التركب ينسحب أيضا على الهوية الثقافية الإنسانية وهو ما يجعل مشروعه قائما على ضرورة القطع مع النظريات الاختزالية والكليانية وتبتعد عن فكرة النسق المغلق لصالح النسق المفتوح لحل معضلة الصراع الحضاري الإنساني وتأسيس نظرة متكاملة حول الطبيعة البشرية لذلك يقول موران " لا تتمثل مهمة منهج التعقيد في إعادة إكتشاف اليقين المفقود والمبدأ الواحد للحقيقة وإنما على العكس يجب أن يكون فكرا يتغذّى من اللايقين عوض أن يعمل على قتله يتفادى قطع العقد الغوردية بين الذات والموضوع وبين الطبيعة والثقافة وبين الفلسفة والحياة والفكر ". لينتهي الفصل بإثارة عدة تساؤلات حول مدى قدرة الفكر المركب والمنهج المتعقد عند موران في حل أزمة الإقصاء والصراع الذي يغرق فيه الواقع الإنساني بين مختلف الهويات لذلك يطرح الكاتب زهير الخويلدي المشكلات التالية: إلى إي مدى تستطيع مفاهيم الفكر المتعقد والهوية الكوكبية والعالم المشترك أن تخرجنا من المراوحات الدغمائية للفلسفة الحديثة ؟ وماذا ستستفيد الثقافة العربية من ترجمة هذه العمارة الفلسفية العجيبة التي شيدها موران " ؟ تدل هذه الاستفسارات على أنه وهو يشتغل على الفلسفة الغربية لا هاجس له سوى كيف يجعل الثقافة المعرفية تستفيد من هذا التراكم المعرفي الإنساني لتنجز نهضتها لا انبهارا ومحاكاة بل تأصيلا وتفاعلا إيجابيا يجعل من الوعي العربي مواكبا لروح العصر وقادرا على الإبداع . الفصل الثالث بعنوان "تعدد الثقافات وقلق في الحداثة عند الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور حيث يستقي من فكرة هذا الفيلسوف فكرة " أن اللغة هي مركز الاهتمام في القرن العشرين " وهذا لا يعود حسب رأي الكاتب لكون اللغة أهم مشكل فلسفي يطرح في الآونة الأخيرة بل كما يقول:" لأن الحداثة طورت فلسفة لغوية سمحت بأن يكون الوسيط اللغوي هو الفضاء الحقيقي لفن الفهم الذي يبحث عنه الإنسان المعاصر لنفسه وتاريخه وحاضره ولغيره من الناس والثقافات" . الفصل الرابع : بعنوان "ليبرالية جون راولز أو السياسة في الفلسفة التحليلية" وفي هذا الفصل يقدم الكاتب فهما لنظرية "العدالة كإنصاف" بما هي نظرية سياسية وأخلاقية أحدثت تجديدا خارقا للعادة في الفكر السياسي والأخلاقي.وذلك بما قدمته من وعد بالتواصل وتبادل المنافع وبالعيش الرغيد داخل مؤسسات عادلة مع الآخرين وبالثروة وحقوق الإنسان . ليتساءل الكاتب عن طريقة بناء المؤسسات قائلا " كيف تبنى هذه المؤسسات العادلة التي تجعلنا نعيش وفق قيمة العدالة مع المواطن القريب وقيمة الصداقة مع الإنسان الغريب ؟ ما هي الآليات الضرورية لبناء التوافق التقاطعي والإجماع التواصلي بين الأفراد العقلاء والأحرار " ؟ الفصل الخامس : بعنوان التقاء الثقافات : تصادم أم تآزر حسب كلود لفي شتراوس وكما هو بين من العنوان يطرح هذا الفصل إشكالية حوار الثقافات وبناء كونية إنسانية تنبني على قيم الحوار والتعايش بين مختلف الثقافات .إذ يقول الكاتب في السياق:" فليكف الجميع عن التعالي والتمركز على الذات طالما أنه "لم تنجح أي ثقافة في أن تضع حدا لأي ثقافة أخرى رغم أن هذا هو النية المبيتة لكل ثقافة " . الفصل السادس جاء تحت عنوان "الكوني والعولمي والعالمي . في هذا الفصل يحاول الكاتب الاشتغال على ثلاثي المفاهيم التالية "الكوني والعالمي والعولمي" ويميط الحجاب عن التشابه والخلط المخادع الذي يقع فيه البعض مستفيدا من فلسفة جان بودريار مبينا المسافة بين كونية تطمح إلى معانقة ما هو مشترك من قيم إنسانية وتحلم بمقولات التقدم والحرية وحقوق الإنسان وبين العولمة التي هي كما يقول رورتي "من ابتكار الشعوب الغنية بهدف التستر على مصالحها السياسية . في الفصل السابع : نهاية الإستشراق مع إدوارد سعيد يقدم الكاتب لفكرة الإستشراق عند المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد معتبرا إياه المثقف "الرجة" بما أحدثه عبر كتابه "الإستشراق" من صدمة في الوعي العربي والأوربي فقد أيقظ "الشرق من نومه الشتائي ونبه الغرب إلى خطورة أحكامه المسبقة التي يلصقها بالشرق " ، مبينا أهمية الدور الذي قام به المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في فضح غرور الغرب وإصراره على إلصاق صور تشوه الشرق لذلك ينادي بضرورة تجاوز واقع الصدام الحضاري بين الشرق والغرب واستبدالها بثقافة الحوار والإيمان بالوحدة الإنسانية . غير أن الكاتب يكشف عن معضلة أخرى تذهب في اتجاه طرح مشكل يتمثل في التالي : إلى أي مدى يمكن المقاومة العلمية الرصينة في نهج إدوارد سعيد سلاحا فتاكا يفضح وجه الإمبريالية الاستعمارية في المنطقة العربية ؟ وما إذا كانت كتابات إدوارد سعيد قد استفادت منه القوى الإمبريالية في العصر ما بعد الكلياني من أجل توسيع هيمنتها باستبدال "حرب السلاح " بحرب الثقافة المتجسدة في الدعوات الغربية لإصلاح التعليم واختراق الكتب ؟ وما يستدعيه ذلك من قراءة نقدية لكتابات إدوارد سعيد . يعالج الكاتب الفلسفي في الفصل الثامن مشكل الصورة ويطرح السؤال التالي هل هي واسطة تواصل أم مصدر انعزال ؟ وفي هذا الفصل يضعنا الكاتب أمام مفارقة عصر الصورة هذه المفارقة تظهر في قول الفيلسوف الفرنسي رجيس ديبرييه "الصور التي ترينا العالم هي أيضا ما يعمينا عن النظر إليه" وهو ما حاول تحليله الكاتب فنحن من جهة نعيش في عالم يفيض بالصور سواء كانت فوتغرافية أو رقمية لدرجة أن نمط عيشنا في أدق تفاصيله بات يخضع للعبة الصور ودكتاتوريتها النفسية التي تمارسها علينا عبر الدعاية والإشهار و وسائل الإعلام المختلفة التي باتت تحاصرنا في كل مكان وتنهال على عيوننا دون استئذان لكن رغم خطورة الصورة بسلطتها الميكروفيزيائية الخفية فإن الكاتب لم يغفل الجانب المضيء لعالم الصور بما قدمته من ضرب لشتى وسائل الاحتكار والأستذة المعرفية الدكتاتورية وتحرير المعلومة والمعرفة من أيدي البيرقراطية الثقافية وقلصت المسافات وقربت بين مختلف شعوب العالم وجعلتهم ينخرطون في كونية تؤمن بوحدة المصير الإنساني بما ساهم في تأثيث العالم الإنساني وميلاد نوع جديد من الفكر يطلق عليه "الفكر البصري" . وهو ما جعل الكاتب يختم هذا الفصل بتساؤل مشروع هو التالي " إذا كانت الصورة لها كل هذا الزخم والحضور والمساهمة في ولادة الفكر البصري فهل يجعلنا ذلك نزعم أننا نفهم العالم وندرك حقيقته عندما نقتصر عل إدراك الشكل والسطح الخارجي ؟ ألا ينبغي عندها أن نحسن التعامل مع هذا العالم بحيث يصبح فرصة للخلق والإبداع لا للمحاكاة والنسخ وفرض العزلة وتذرية المجتمع؟" أما الفصل التاسع فهو مخصص لمسألة السياسي بين الصحراء والواحة عند حنا آرنت . ولعل الهاجس الإشكالي في هذا الفصل هو الإشتغال على السياسي الذي يترنح بين جدل الصحراء وما يحمله من رمزية النظام الشمولي ذلك أن طبيعة الأنظمة الشمولية هي طبيعة تصحيرية تمحي الثراء والتنوع البشري وتبتلع كل مساحات الحرية الخضراء وتجرف الوجود البشري إلى مستنقع الخضوع التام و الإمتثالية والحياة البهيمية لتختزل وجوده ووعيه في مجرد حشد قطيعي غير أن هذا النظام الشمولي يتناسى أنه وهو يدمر الإنساني إنما هو بصدد تدمير ذاته فهو يحمل بذور فنائه لأنه يقيم في مدينته المستبدة أناس فقدوا الأمل في لقاء عالم إنساني جديد وتحولوا إلى مجرد حشود متشابهة في كل شيء . أما الرمزية الثانية التي تبني عليها حنا آرندت فهمها لسياسة فهي رمزية الواحة وما تحمله من معان الفكر والثقافة إنها عالم خصب يتيح اللقاء بالذات والآخر و يعيش الأحرار والغرباء خارج كل نظام وتنميط وتمحي كآبة إنسان الصحراء الذي تمنعه كآبته لا فقط من مرافقة إنسان آخر بل من مرافقة نفسه بما تحدثه من خراب وإعدام وقتامة . ولكن المشكل الذي يطرحه المفكر زهير الخويلدي كإستئناف لما حاولت حنا آرندت فهمه هو التالي ألا يمكن أن تتحول هذه الواحات نفسها إلى خطر يهدد الإنسان ؟ ألا يمثل هروب الإنسان المتصحر إلى الواحة تهديدا لها خاصة و أن الصحراء تمثل عالم الفقر الثقافي والمعرفي بل هي مجرد فكر حسابي لا يتمتع بمبادئ وقيم والسياسة التي تريد مواجهة الشمولية والصحراء عليها تحطيم الفكر الحسابي واستبداله بفكر الواحة المتصالح مع ذاته بما هو فكر مركب وثري وليس اختزالي بسيط . ربما الأمر متروك إذن للمستقبل خاصة ونحن نحتاج إلى البحث عن نظرية سياسية جديدة كما أشارت آرندت تنقلنا من مقام صحراء السياسة الملتهبة إلى مقام سياسة الواحة المنتعشة . فما هي النظرية السياسية البديلة ؟ يخصص الكاتب فصلين كاملين للفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز الذي اعتنى بالاختلاف وجاء الفصل العاشر بعنوان الفلسفة بما هي مقاومة للحاضر وإبداع لمفاهيم المستقبل ويدعو فيه الكاتب إلى تعريف الفلسفة بوصفها "إبداع مفاهيم " وإلى الشروع الجدي في نحت مفاهيم خاصة بعصرنا ولغتنا وحضارتنا مثلما فعل دولوز مع عصره ولغته وحضارته خاصة وأنه حسب الكاتب توجد مناطق و"جغرافيا على حد قول الكاتب ذاته لزالت مجهولة". أما الفصل الحادي عشر فهو محاولة لتحقيق النقلة المنشودة من دوغمائية صورة الفكر إلى فكر دون صورة، وفي هذا المستوى يحدد الكاتب طريقة يكون التفكير تدربا حرا ومبادرة مفتوحة " لا تتقيد بقواعد فطرية ولا تخضع لصور قبلية مؤثرا الإقامة في غمرة الإشكالي على الإرتماء في أحضان الحل الإبتذالي" وكأن قدر الإنساني هو الإقامة في مدن الأسئلة المفتوحة إلى ما لا نهاية . أما الفصل الثاني عشر فيفاجئنا بدراسة عن الفيلسوف الأمريكي المهمتم بالبراغماتية الجديدة وجاء بعنوان: "حدود المعرفة أو نظرة رورتي النقدية للفلسفة" وفيه يبين موقف رورتي من المعرفة ورفضه أن تكون معرفة نسقية مكتملة حتى لا نقع في الاعتقاد مثلما وقع أفلاطون وكانط من خلال دعوة الفيلسوف إلى أن يتحول إلى واحد ممن لديهم معرفة مختصة وتشكيل صناعة فلسفية متعددة المناهج حول المسائل . في الفصل الثالث عشر كانت المقاربة ابستيمولوجية وكان لأينشتاين فيها نصيب ولكن هذه المرة من زاوية البحث عن مواطن تأثره باسبينوزا وكان العنوان مربكا بعض الشيء : "حضور ميتافيزيقا اسبينوزا في فيزياء أينشتاين" . في هذا الفصل يبرز الكاتب تأثر فيزياء أينشتاين بكتاب الأخلاق لاسبينوزا وهو ما ساهم في تأصيل النزعة الأكسيولوجية لدى أينشتاين ولكن السؤال المحير هنا لما أخفى أينشتاين هذا التأثر الذي فيه تعلوا أخلاق اسبينوزا بدعوته لترك السلاح وتأسيس الديمقراطية والتقريب بين الأديان ؟ ربما أهم الدراسات تركها الكاتب في الفصل الرابع عشر وجاءت في الاختصاص الذي تدور حوله بحوث الكاتب الفلسفي وكانت بعنوان : "هرمينوطيقا الرموز الدينية عند بول ريكور". وفي الحقيقة فقد بحث الأستاذ الخويلدي بلا هوادة عن الربط بين الاجتهاد والتفسير والتأويل وعن إمكانية تأسيس هرمينوطيقا إسلامية بالإستناد إلى عمل ريكور على هرمينوطيقا تأويل الرموز الدينية ،إذ يتساءل عن مدى إمكانية تطبيق ذلك على النصوص الإسلامية خاصة وأن "مفهوم الرمز تزخر به الثقافة والمدونة الإسلامية " وعن مدى قدرتنا على تخطي هذه المعضلة من أجل بناء هرمينوتيقا دينية طالما أن الرمز زاخر بالمعاني و كما يقول ريكور "كل رمز هو معطى للتفكير"؟ مسك الختام عرج فيه الكاتب على" البعد المعضلي لمسألة الإنساني" حيث تطرق إلى معضلة تعريف الإنساني وكيف يتم إدماج الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة حتى لا نفقد الوجود البشري تنوعه وثراءه وفي نفس الوقت وحدة مصيره ، وقد بين أن الهدف من محاولة تعريف الإنسان ليس معرفته نظريا بل تحقيقه عمليا في الواقع سعيا لبناء هوية إنسانية مركبة وكونية تساهم فيها جميع الخصوصيات دون إستثناء لينتهي إلى الإشكال التالي:" كيف يكون الناس كثرة والبشر وحدة ؟ ألا ينبغي أن ننتقل إلى نوع الناس البشريين بوصفهم بشرا متآنسين" ؟ وكأن مسألة الإنساني شائكة بدرجة لا تحلها كل ما تناوله الكتاب من إشكالات تحوم حوله ليبقى قدر الفلسفة قدر السؤال الذي لا ينتهي .هذا بعض ما جاء في بعض فصول الكتاب وهو كتاب أكاديمي وممتع قراءته وممتلئ بحمولة فكرية وإشكالات تنبثق من عمق المصير البشري الواقعي وقد أكتفيت بسرد جملة من الأفكار الواردة في الفصول دون التعمق في عرضها ودون تحليل مضامينها تحليلا مفصلا لأترك للقارئ فرصة ومتعة الاستكشاف وحتى لا أفسد عليكم مغامرة ولوج النص واستكشاف طاقته الفلسفية الخلاقة في أسلوب فلسفي شيق وممتع. لقد صدر هذا الكتاب في طبعة أنيقة عن دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع 2009 سورية ويتكون من 253ص .وإن هذا الكتاب أقل ما يقال عنه أنه رائع ومتنوع الإشكاليات ويطرح أسئلة تهم كل إنسان مسكون بهاجس المعرفة والوجود وبهاجس الإنساني كمشروع تبدأ منه الفلسفة وتنتهي إليه. فهل يمكن اعتبار هذا البحث لبنة أولى في سبيل التعرف على مناهج الفلسفة الغربية المعاصرة في سبيل توظيف ذلك من أجل طرح إشكالية حالة الفكر في حضارة اقرأ زمن العولمة التي يشتغل عليها الكاتب الفلسفي وبناء فلسفة الضاد التي يحاول استئنافها من جديد؟