الجزء الأول . 1 ما معنى أن تكتب؟ ما جدوى أن تكتب؟ أن تكتب بدافع ملح يضغط بقوة و بقسوة على النفس و العقل لأجل ترجمة هاجسك كإنسان ينقل خوفه و تأمله وتنبؤه ومشاعره بأنواعها. يترجمها للآخرين لأجل قراءتها وفهمها و معايشتها وحسّها وتمثيلها في خيال واسع. أن تكتب يعني تبحث عن تبادل الأدوار بينك وبين القارئ، ككاتب مصنف بمستويات مثلما القارئ مصنف بمستويات، تتبادل الأدوار على مستوى الإبداع و الحس و الالتزام و حالة الشعور. تكتب مفكرا دخول عوالم البوح و الإفصاح ، الدخول لعوالم الكشف والتقصي للعوالم الجديدة التي تفرض عليك مبدأ الخروج من الضيّق المحصور في الأنا، في المخبئ و المتكتم عنه و الغير مصرح به إلى فساحة التعبير و إقرار حرية الأنا و الآخر معا . أن تكتب و تعرف أن الكتابة أولى المسائل أهمية مذ عرفها الإنسان وتحولها سلطانا عليه ترتب البحث لأجل منفعتها في الحياة وما بعد الحياة؛ من يومها وهي ترتقي مع الحضارات و باختلاف لغات الشعوب؛ من الحجر إلى الرقمية الحديثة و العولمة . الكتابة خادمة الإنسان بإخلاص كما النار المسروقة من فم البركان ، المأخوذة من بريق السماء حافظ عليها الآدمي داخل مغارته بدافع حبه لنفسه وتحقيقا لرغباته وتأمينا من خوفه . الكتابة خطفا لنار الفكرة والإبداع و الرأي ومثلما لم تعد النار حبيسة الكهف لم تعد الكتابة حكرا على الأثرياء و القياصرة و الملوك بل صارت متاحة للجميع ولا يهم معرفة القراءة بعينين أو بإشارات أو بطريقة براي. هي الطاقة الكامنة داخل الإنسان المحترق بلهيب واقع مؤلم من جهة "الكاتب الرسالي"؛ بحثا عن راحة وخلاص الإنسانية و العالم " القديس"؛ منفعة ونفاق و زخرف الحياة " كلب السلطان"؛ تشكيكا و فتنة " كاتب المؤامرة"؛ والكاتب القضية هو من حمل همّا داخله، شحنة القلق والتوتر ، إحساسا وشعورا وكيانا ذاتيا، تنظيما داخليا وبناء دافعيا . الهمّ أو القضية لهب مشتعل لا ينطفئ إلا بكتابته حروفا من أول المخاض إلى آخره. مهما تعسرت الولادة تخضع لعملية قيصرية . رغبته المتأصلة فيه وعلى قدر مستوى الكتابة تتكون مستويات إبداعه. إن الرغبة في الكتابة شحنة تحركها الإرادة والتفكير فيها شيء يشبه الجنون ، تتخلل تركيبة العقل العادية لتحوّلها إلى جهد واحتواء العقل في مركزه إلى هامش البحث حيث الهامش موضع ملاحظة دقيقة وعلامات مؤشرة محل انتباه. قبل التفكير في الكتابة، ألا يطرح الكاتب سؤاله: ما معنى أن أكتب شيئا عاديا؟ جدوى الكتابة؟ أنت تريد إذا أنت كتبت، أو ماذا تريد لتحاول الكتابة؟ من يخوّلك الكتابة إن كان حكم البشر نسبي و العدل المطلق عند الله؟ هل و أنت تكتب تظل على موقفك مهما تغيرت المعطيات و أخذت النفس الغريزية متى أعطيت لها الامتيازات؟ هل تكتب و أنت مقتنعا بالديمقراطية و الالتزام و التكامل داخل المجتمع الذي تكتب فيه؟ وترفض أن تسلب هذه الأمور من يعاكسك و يخالفك الرأي؟ ما معنى أن تكتب في واقع يعج بالملل و الخيانة و المؤامرات والفتن؟. الأجوبة لا تكشف الأسئلة أحيانا و إنما تكشف جزءا منها لا غير. الكتابة تخضع للشك لا لليقين، تخضع لمبدأ التناقض اليقين في أن الكلمة وحي الله. الكتابة تخضع صاحبها للتحلي بالشجاعة الكافية لما هو مخبئ في ظلام الغيب الذي يخفي حزمة من أعواد الهاجس و الخوف، الغيب الذي نكتبه معطرا بالطيب و البخور مبعدين عنا صور سياط العذاب و الألم والمعاناة. الكتابة ليست ورود أقحوان ولا مفاتيح مدينة مثالية، ولا قرابة من أمير وسفير. أن تكتب يعني تنتظر المنفى و السخرية ومصادرة الحقوق والمبيت في العراء. أن تكتب يعني أن تكون مهيئا لما قد يطالك ، حالة تأهب، الاستعداد للحظة خطف أو قتل أو محاكمة أو رميا بالسخرية و العزل. الكتابة توهج في حضرة الفكرة اللهب، ، استنفار لدعوة ، الدعوة حدث النفس فيما يربطها باحتكاكها بما يحيطها؛ أن تكتب جديرا بك خوض تجربة نفسك أو قبول تجارب تأتيك من محيطك الذي يؤثر فيك باستمرار. دعوة الكتابة بداية السؤال المرهون بالمعرفة المتصل بالقرائن. دعوة الكتابة طبيعة فكرة نوع القارئ و المحيط منازل الناس. السؤال في الكاتبة ضروري، رأس الخيط يجر الإبرة لتخيط الثوب الإبداعي وتتفنن في إلصاق الواسع وحصره في إطار شكله الضيّق. السؤال يلد السؤال يقبل بسؤاله يتعدى غيره ، يتكاثر كبنات النار المتنقلة في الهشيم إلى الهشيم الآخر. السؤال معقود بالطلب، الطلب جزء داخل السؤال المطلق الغير محدود، الطلب محدود وظاهر داخل السؤال المنتهي بالانفلات بلحظة الانتظار و الإطالة والطريق المسدود و النسيان. الانتظار عامل من عوامل الوقت مثله مثل العجلة الاستعجال. الوقت و السؤال عاملا متلازمة كتابية. مفتاح الولوج عتبات القضية موضوع الفكرة اقتحام العتبات خاضع للمعرفة و العلم و البلاغة و إخراج الذكاء الذي يستهجن العبارات المنمقة الجوفاء الفارغة المزخرفة، الذكاء لا يحصره الخطاب و العبارات ، اللغة في خدمة الذكاء؛ الذكاء كيفية الوصول إلى القارئ العادي و الغير العادي على السواء مستعينا بالشرح و الفهم . أن تكتب متحرجا يعني أن تضمر أفكارك و رؤاك التي تجعلها مستعصية على الفهم لأنها قد لا تفهم أو أنها تفهم خطئا لتدركك تبعات تهويمات القارئ. تهم الكفر و الزندقة والتحريض و الإساءة إلى الله إلى رموز النظام و التاريخ. أن تكتب متحرجا متسترا، تقية لحفظ النفس و اتقاء الشبهة، أن تكتب مواريا حجة الهروب لعدم فهم الآخر محتوى ما يقرأه لك؛ ليس كل ما يكتب هو موجه بالضرورة لقارئ بعينه، القارئ مستويات ووضع القارئ في الحسبان أثناء الكتابة نوع من الرقيب. حجب الفكرة أحيانا اتقاء الفتنة و إطاعة للقوانين المستبدة التي نحترمها و لا نخرج عن قوانينها لأن الكاتب هو الحرية و الأمن والسلم، هو الكشف وفعل التغيير الهادئ. أن تكتب هو ابتغاء الوصول، الوصول في طريقه يحتاج إلى تبليغ بالوصول؛ نجاح إتمام حركة الانتقال مراعية التدقيق والتصويب متفادية الأخطاء. " أكتب لنفس السبب الذي أتنفس من أجله إذا توقف فسأموت" إسحاق عظيموف. انتقال النص فكرة تعتمد على الاستيعاب القدر الكبير للقارئ أينما كان و حل. انتقال الخطاب يقتضي معرفة وجهة المكان، الخطاب يخضع للتصنيف، الجهة التي تستقبله تخضع للتصنيف، الناشر يخضع للتصنيف، نقل النص اليوم ممكن أكثر من أي وقت مضى. الانتقال سريع اليوم بفضل التقنية والرقمية و العولمة و الهواتف المحمولة والإشهار السريع و الجرائد الالكترونية. أن تكتب وتجمع ما تكتبه في قرص بحجم ظفر الأصبع يعني أنك تكتب للذكاء. إنها الكتابة الموجهة للقارئ الذي يتعسر وجوده في مكان محدد. خاصية التمايز ماذا يعني أن تكتب في واقع يتزاحم بالمعضلات والمتغيرات في حشر كثرة الكتّاب؟ أن تكتب يعني أن لا تعيد كتابة نصوص الآخرين، التحرر من تبعيتها، طرح إسقاطاتها، أن تكتب أن تضيف، تجدد أن تكمّل، لا تزيح و لا تبغي أن تُزاح، التفرد مع الميزة والتميز كقاعدة؛ تحمل الأحكام بوجود المتشابه، تحمل اعتقاد الآخر، القارئ النقص فيك ووهن ما تكتب و ضعفه؛ أنت مرهون بعامل الوقت وعامل السؤال. هل يعرف القارئ ما استعجلت فيه و ما لم تستعجل؟ هل يعلم القارئ فكرتك فيما يخص الكتابة ومشقة وعذابات كتابة الفكرة؛ اللعبة الخطرة شبيهة لعب الأطفال بالنار؟ الكاتب مبدع متيقنا دخول عتبة القارئ، الكاتب مبدع حين لا يلتفت لإزاحة نص آخر أو يحل محله إنما يقدم الأجود ويترك الآخرين تقرير ما ثبّتوه في ذاكرتهم و في الواقع أم رموه وراء ظهورهم بمجرد قراءة السطر الأول أو الصفحة الأولى. الكتابة الرسالة اختيار خطاب الجديد، الايجابية في الطرح مكملة لا منقصة و لا محطة من قيمة الكتابات الأخرى، مضيفة لا مكتفية . عتبات الدخول ودخول العتبات كبح للانبهار و التسرع، غربلة العقلي من الهوى، كبح البهيمية والتعصب و دوافع الشر من النفس وتحليتها؛ إطلاق النفس الملائكية المحلقة بروح الله الباحثة عن المطلق داخلها. أن تكتب تلجم الانبهار لنجاح كتاباتك و ما تحمل من أفكار التي تعيشها في ظلها. أن تلجم غرورك من العروض المقدمة و الحشد المتدفق عليك والورود الملاقاة عليك والتحايا. الزخم المعرفي وحده يمنحك الإمساك بظل الملتزم به اتجاه قضايا الشعب و الفئة التي تنتمي إليها. عدم التسرع في تقبل الحكم أو الرضا عنه إنما الرأي فيمن أبطأ في إعطاء الحكم النهائي. عدم التسرع يدفع لمعاينة الإنتاج و البضاعة العقلية و الروحية مرة بعد مرة، فهناك سوق نقدية موجهة لخطابك. الكتابة الجيدة لا تتحامل على المنطق وترفض المدح المسهب و المسقط في الغرور. الكتابة الجيدة الملتزمة رجوع للنص، حالة رؤية لحكم ونقل وتصويب، العتبة تؤلف، الوقوف لأجل النقل ومعرفة الفضاء الذي لا يتحمل الخطأ. 2 عصارة الفكر الإنساني العميق المتنوعة تياراته الفكرية و العقلية المندمجة، مشوار تاريخ من الحضارة الفارسية الزاخرة بأدب و زندقة إلى فلسفة اليونان وسفسطتهم، إلى تشريعات الرومان وقوانينهم إلى نسك الهند ورهبانية المسيحية إلى حكمة الصينيين إلى الحضارة الإسلامية التي لم تنازعها على سيادتها أي حضارة وقت ما دمجت كل هذه الحضارات مجتمعة وقبل أن يصيبها الضعف والعبودية و الانحلال لتنزوي في جحور التخلف و الضياع اللذين تعرضت لهما وتقيدت بنفس القيود التي قيدتها وجمدتها " .1 الكتابة محاورها كثيرة ، ألوانها متعددة ؛ لا تقتصر على فن دون غيره فهي جامعة العقل والروح معا، هي الكل المتكامل. ما يهمنا هو الكتابة الإبداعية و الأدبية و الفكرية بزخمها السياسي و اللا سياسي، الإيديولوجي أو حيادها المدافع على قيم الإنسان. الكتابة الزاخرة بتجددها أو حتى المنغلقة على ذاتها، المنفتحة على العالم أو المنطوية على نفسها وفي حدودها. الكتابة في التاريخ الإنساني كانت و لا زالت رهينة الصراعات لأنها تحمل أفكار و آراء أصحابها، فهي تمثل الكاتب، والكاتب قد يكون سياسي أو أمير أو خادم الملك أو ديكتاتور أو قائد أو صعلوك أو طيار أو كاهن أو مجنون، أو سجين أو جلاد... هي في النهاية جسره، دين و ثوابت و اعتقاد وفلسفة و علم و حروب و أمن وسلطة وشهوة و أنانية أيضا. لم تكن الكتابة في التاريخ الإسلامي والعربي بمنأى عن هذه المعضلة، فلقد استعانت الفرق و الشيع بالخلفاء لنصرة آرائها الفكرية و السياسية في أغلب الأحيان و فرضتها بالقوة على خصومها إلى ويلات ونكسات لازمتها من العهد العباسي إلى اليوم 2 لقد نصر الخليفة المأمون والواثق فرقة المعتزلة على حساب أهل السنة ثم تحول الدعم سني في عهد المتوكل ثم علوي شيعي في عهد آل بويه والأمر حدث نفسه في مشارق العالم الإسلامي والعربي ومغاربه. سادت الاضطرابات وتداخلت الأحداث الرسمية من يومها إلى حاضرنا ؛ الشيوعيين على حساب الليبراليين والليبراليين على حساب القوميين و تحالف الدينين في وجه العلمانيين والأحداث تصنع الصراع و لا شك. وحدها تبقى الكتابة لأن الصراع باقي، تبقى بعفويتها وبشدتها، بمكر أصحابها وبطهارتهم، بمكرهم و خديعتهم، بصفاء قلوبهم و نقائها، ببهيمة غرائزهم وحواسهم وبملائكية روحهم ونورها. ما الكتابة التي نريدها في وقتنا هذا ؟ ما هي أسسها و وسائلها و أهدافها؟ عدميتها و لا مبالاة المجتمع العربي والإسلامي لها ؟ تراجع الكتاب الإبداعي و الفكري و الفلسفي ومعطيات راهن الكتاب الديني والسياسي ؟ كتابة المتأزم و الجاهز؟ الكتابة المأزق؟ كيف نحقق وجودنا في ظل الرداءة و تغليب قمع الحريات والقهر و العنف و الإكراه؟ هناك خصائص مميزة لكل أنواع الكتابة و يقر بها الجميع دون الاختلاف. 1 حرية التعبير : ولأن الكتابة حرية اختيار وقسمة مشتركة بين الكتّاب جميعا ملتزمين و غير ملتزمين على رأي جون بول سارتر3 فإن التكافؤ في الفرص فيما بينهم في المنبر والوسيلة الإعلامية واجب، تحقيقا لمبدأ المساواة الذي نادت به الأديان و الأعراف و القوانين. لا تُمنعُ الحرية لأجل الجنس و اللون و المكانة الاجتماعية و العرق والتمييز الطائفي، لا يجب أن تُمنع الحرية لأجل المعارضة ضد سياسة نظام ما قائم أو لانحرافات دينية خطيرة أو لوقوف في وجه ظلم و انتهاك لشرعية ما. أو تنديدا بجور و ظلم و استبداد. يجب أن يكون الكتّاب سواسية أمام الدولة والمعارضة، معارضين كانوا أو وموالين، دعاة دين أو دعاة فلسفة و أفكار. الحق في التعبير للغني صاحب القوة و السلطة كما للفقير فاقد الوسيلة الإعلامية وفاقد الحماية "... الجميع سواء في طلب العلم و في المعاملة و الاهتمام" كما ذهب إلى ذلك أبو حامد الغزالي4 . إن الإقصاء و التهميش و العناية بفئة دون غيرها إهانة للعقل والذكاء وللإبداع فمن الظلم حرمان كاتب معارض أو فيلسوف أو مفكر من قول الذي يعتقده وينتقده و يراه تجاوزا في حقه وحق الآخرين الصامتين فقد يكون الصمت لغة رفض أيضا عند سارتر وليس خيانة . حرية التعبير حق لكل كاتب وليست ممنوحة فقط لمن يملك الشرف و الحصانة و متوغل في دواليب السلطة أو حليفا لجهة ما تملك قوة المال و الإعلام و التأثير. ولقد أثبت التاريخ أن الكتابات الخالدة هي التي وقع عليها الإقصاء و الظلم وأبعدت عن واقع الشعب ، فاستمدت خلودها مما منعت منه؛ منعت حرية رؤية الآخرين و قراءتهم لسبب أنها تنبّئ بما ليس في زمانها أو تعالج المتستر عنه أو تنبه لخطر سحر ممارس على العقول و القلوب فصارت في قاعدة كل ما هو ممنوع مرغوب هو انتصار للرأي.
2 الالتزام: أن يتمسك الكاتب بآرائه و يدافع عنها بكل وسيلة و لا يتنازل عنها و لو كلفته حياته هذا لا يبدو غريبا لأن الكتابة جزء من ذات صاحبها. أكد مارتن هايدغر مند مدة على أن الاهتمام بالكتابة كالتزام وجودي بالأنا والآخر اللذان هما مشروعان مؤجلان وسط المعرفة. يقول الدكتور شايف عكاشة: " الحرية لا تتناقض مع الالتزام القائم على أسس الوعي ... لأن الحرية التي يطالب بها الأديب لا تتوقف عند حرية الفكر و التعبير و إنما هي تمتد إلى الحرية الاجتماعية بكل صورها وأبعادها.5 وكما قال فريديريك هيجل "...ما دامت الحقيقة هي الكل اللامتناهي الذي ننهد إليه و هي الحياة في شمولها الذي يحاول سبر أعماقها كل فكر لو عرفنا الحقيقة الكاملة انتهت أهدافنا لذا يظهر عجزنا عن ماهيتها بهذا الكل اللامتناهي." ولذلك فالالتزام جزء من واقعية ذاتنا، هو حامل أمانة العقل والمعرفة بجسد ضعيف حامل لغرائز الظلم و الجهل لأن العلم في غياب الضمير لا يحقق الفضيلة كما ذهب سقراط.6 ولذلك فالالتزام أمانة ووديعة الله فيمن يعرفها و هدي إليها. 3 الوقوف على معرفة شكل الكتابة داخل فضائها الدائري، التقصي و الخوف من عثرات خطاب النص، النص يحتاج للتنقية و التنقيح، النص قبل خروجه يحتاج للتقليب، تحتاج زواياه للتدقيق و المسح، التنقية من نفايات السرد المعيقة للفهم المفسدة للذوق المعطلة للتحصيل الدافعة للملل. النص قبل خروجه يحتاج لأكثر من مراجعة لأجل اكتماله، استحالة الكمال الكلي للنص، الاكتمال الشكلي و المضمون مستحيلة. النص يحتاج لوضع صحي، لمراقبة العقل ومقارنته بما يتناقض و المنطق، وضعه في ميزان الذوق، ميزان جمال اللغة، ميزان الأسلوب. بعد ذلك تأتي مرحلة الفتح. الفتح يحتاج إلى قلب شجاع و إلى عقل متنور قادر على المواجهة، رباطة جأش ومقدرة على الرد واحتمال الصدمة " واقي الصدمات الأدبية". الفتح يحتاج لشريك، منحة إمكانية الاطلاع على ما يحويه النص؛ الفتح مرحلة قادمة بعد الكتابة و التنقيح و التنقية والفرز لأنه يبحث على اكتشاف عوالم جديدة قد تكون مختفية في جملة ما أو ألتصقت بين فكرتين ولم يهتدى إليها إلا به. الفتح على موضوع السرد على فكرة السرد يمنح المعرفة الجديدة، المنعرج في التغيير النصي ككل و إعادة كتابته، في إعادة تشكيل الفكرة ككل و التراجع عن التناقضات الموجودة داخلها. قد يكون محتوى النص رديئا وهذا ما يتوقعه كاتبه قبل القارئ، على الكاتب أن يحسب العامل النفسي بالحسبان، يكلف الكاتب أو السارد منطقه و يتنازل عن غروره ويستشير أهل السرد بما تركوه وبما سبقوه به، حتى لا يغضب بذلك أهل الكلمة منه و يصل لفهم القارئ بدغدغة مشاعره وإقناع منطقه و لو كان خارجا عن مألوف ما يعتقدون أو منفّرا لما ألفوه. الإخراج يكون غير سابق لأوانه فالتعجل لا يمنحك الوقت الكافي لمعرفة قيمة نصك، قد يكون النص جميلا لكنك أفسدته بوضعه في غير مكانه اللائق به أوفي محله. النص كالسلعة تحتاج لسوقها كما تحتاج لمعرفة مستوى من يبتاعها. النص يجب أن لا يكون مستهلكا، بل مؤثرا مأخوذا به. يحتاج إلى سوق لغوية وافرة المعاني. التدقيق في علاماته الأصلية والزائفة، النص يحتاج للمقابلة بينه و بين النصوص المتقاربة التي تحدث بمحض الصدفة . مقابلة بمستوى التأثير الفكري و الجمالي. الكتابة تحتاج لعلامة خاصة تميز كاتبها، السرد الفكري أو الأدبي يحتاج لعلامة تشهره في عالم الكتابة ككل. الكاتب يجعل لنفسه خاصية يستقل بها عن غيره يجعل قارئه يميز نصه دون قراءة اسمه، حين يصل إلى هذه الخاصية يكون قد حقق القدر الكافي من النضج و الاحترافية الكتابية فالكاتب المحترف يختصر المسافات و يختزل لغة خطابه و يوّقع بعلامة خاصيته فلو انتحل كاتب ما أسلوب الجاحظ لبان ولو أستعار شاعر أسلوب درويش و أدونيس و أحمد مطر و الجواهري و محمد العيد آل خليفة لبان أمره و انكشف لأن كل هؤلاء ابتدعوا علاماتهم التي حافظوا بها على تميزهم الإبداعي إما في النص( الشكل الصورة الأسلوب التمثيل...). النص يحتاج لأولية المتسع على الضيّق، المتسع من النص يعطي المتسع من التأويل و النص الكبير المتسع هو المانح لقوة الحضور للقضايا الراهنة و المستقبلية، للتنبؤات، لما يحدث و سيحدث في الواقع. الكتابة بقيمها الخاصة للوضع و المحيط وأخذها بالأسباب و تكليفها للأخذ من نتاج الآخرين حتمية لأن حضارة الشعوب مرهونة بثقافاتهم. السارد مجمل القول هو أكثر من مثقف، يرتقي المرتقى الصعب الوعر، فالإبداع همّ ووجع رأس، إنها مهمة تؤخذ من دون آمر، جزء يضاف إلى الأجزاء الأخرى للعقل والروح فالإبداع ليس ثقافة فقط لأن المثقف لا يكون مبدعا بالأساس و لا خالقا له إنما دوره منحصرا في تأكيد الاختلاف طريق إلى الحرية وبذلك فمهمته عامل أساسي في إبراز الأفكار الدالة على الوجود وإلى التنوير ، التنوير كما عرّفه كانط: " خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى المسئول عن وجوده فيها" و القصور حالة عجز عن استخدام الفكر عند الإنسان خارج قيادة الآخرين و أوامرهم؛ الإنسان القاصر مسئول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب فكره و إنما في انعدام مقدرته على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على استخدام فكره بنفسه. هذا ما نقصده بأولوية المتسع على الضيق. الكاتب في نصه يخرج من حالة القصور ولا يحمل مهمة اجترار الحديث بتقليد الآخرين، تقمص شخصية الآخرين وتمثلهم في نصه، إن في ذلك إسقاط عنه لاسم الكاتب المبدع بتحوله إلى ناطق باسم إبداع غيره، يشبه الناطق للحكومة وقتها أو الناطق للحزب السياسي أو لتنظيم ما أو لجمعية خيرية أو دينية ترفض مبدأ الاجتهاد والتغيير و الحرية هذا هو الضيّق فالمتسع هو الراهينية وسؤالها وأشكلة المؤشر المستحدث المبرز للفعل المتأصل في الإنسان كما بينّ ذلك ميشال فوكو في فهمه لعامل الثورة فهي مؤشر توقعي . الكاتب مؤشر توقعي لأنه لا يمكن نسيان تأهبه في مستقبله الذي يبرز من خلاله حتى و لو كان من الجائر مراجعة بعض مواقف الكاتب و عدم مراعاة الضغوطات التي يتعرض لها لأنه مثال التنوير. الكاتب يجب أن يحرر نصه من التبعية أنّ كانت فبكونه حرا فيما يكتبه فالضمير وحده فتواه، أمانة العقل تحت وصاية أمانة الضمير، أن يكتب بشجاعة ولا يقع تحت أي تأثير مادي كان أو معنوي. أن يؤسس فكرته بثورة داخل نصه حتى لا تجعله جامدا ميتا. إن أولوية المتسع في الأخذ بما هو حق وقريب إلى جوهر الإنسان كما خلقه الله دون حالة القصور داخله من تأثير بدنه و شهواته عليه ، دون تأثير أسرته و محيطه فيه. أولوية المتسع على الضيّق أن يأخذ السارد من الحقيقة المطلقة لأن الحقيقة المطلقة هي نقطة بداية فيما يريد كتابته و إبداعه، على الكاتب أو المفكر أن يضع تلك الشروط كميزان ، شروط الحقيقة المطلقة( وحي الله الذي لا يتنافى مع العقل الغير محرّف) . إن قضية طاعة الله حاضرة بقوة والامتثال لإرادته لا يتنافى مع أولوية المتّسع الذي لا يضيق. إن الفصل في الامتثال للقوانين الجائرة التي تحد من حرية الفكر والرأي وتكبح اجتهاد العقل المبدع في الموضوعات ذات الصلة بالإنسان و حمايته من الإنسان ذاته. المتّسع هو الامتثال لما ترتضيه سنن الله في خدمة عباده و إخراجهم من حالة قصورهم و استعباد القوة المؤثرة عليهم بغير وجه حق. إنها قوة الظلم و الظلام و الشر التي تقف حائلا في وجه إرادة الخير. أولوية المتسع على الضيق أن يأخذ من الحقيقة المطلقة الله ويتجلى ما يقدمه عقله إضافة للعقول التي تنحو المنحى نفسه، أن يكون الكاتب والمفكر حر في عقله وفي الوقت نفسه قابلا للتعايش مع الأجهزة المسيطرة على عقول العوام ، هذه العقول الخاضعة والمستعملة كعناصر لعبة شطرنج. يمكننا مثلا مخالفة فوكو لأن فوكو ليس المتّسع، يمكننا مخالفة الغزالي لأنه ليس المتسّع إنما مؤشر للدخول للمتسع. أولوية المتسع على الضيّق في الكتابة تتماشى مع الطبيعة النفسية و تعالج الحالة المرضية. هي الدليل الصحي المناقض للحالة المرضية. كل كاتب يستعين بما ليس له و لا يشرك رأيه فيه خاضع للضيّق، النفس تحتاج للرحابة مجبولة على حب الكثير الجاهز حالة مرضية أو فطرة والمتسّع يخالف إرادتها لأنه يكبح جماح ذلك . ( الاتساع هو الأخذ من المطلق و الاجتهاد به لكشف الأسرار الكامنة في الفطرة.) دليل صحي. هل العقل الغربي المتطور يتسع بقدر كافي من الحرية في الأخذ من المتسع و مطابقة تفكير محيطه ودعم العوام لما يفعله؟ عكسنا نحن تماما ، يتلقى الكاتب و المفكر و المبدع الأصيل عقابا على تجرئه التفكير الايجابي، ويجاز الكاتب الآخر حالة قصوره لنفاقه وتخاذله. الكاتب المتخاذل هو الواقع في مبدأ الضيّق الحالة المرضية أداة في جهاز ما . أولوية المتسّع على الضيّق تدفع الكاتب إلى البحث عن المنفذ لمشكلات الواقع الآنية و يدفع الضريبة لوحده في وطنه. هو الواقع تحت تأثير الوشاية بما هو حادث وجاهز للحدوث. بداية الضيّق في الحادث الجاهز للحدوث وليس المتوقع حودثه.المتسّع هو المطلق بقانونه و الضيّق هو فوضى تحليلية يعتبرها الكاتب علاج. النص يأخذ جملة واحدة قصيرة لكنها من المتسع. " خلق الإنسان من عجل" فكرة الاستعجال عند البشر حقيقة مطلقة فلا غرابة إذا وقع الكاتب متحمس في فوضى الضيّق و لم يضع هذه النقطة في الحسبان ومضى في الحكم الخاطئ على الظواهر وطبائع محيطه التي تواكب حياته ، فلو أخذ من المتسع هذا الحكم لتريث إلى ما شاء الله و شاء قلمه و لما أتهم بنقص التجربة. أولوية المتسع على الضيّق تأتي مرحلة فك العقد وفرز المتشابه على خصوصية النص... يتبع.....