بين الانكسار والانتصار، بين الخيبات والاخفاقات، عاش التاريخ الراهن للمغرب مجموعة من المحطات التاريخية، التي شكلت نقط تحول في النسق الذي تسير به الدولة، ويسير فيه المجتمع. وفي هذه السلسلة، المعنونة ب «بين الانتصار والانكسار، جزء من تاريخ المغرب»، ستعيد «فبراير» نشر أهم المحطات التاريخية التي مر منها المغرب المعاصر، من زوايا مختلفة بعيدا عن القراءة السطحية للحدث. سنة 1965، عام من الاضطهاد سيبقى محفورا في الذاكرة الجمعية للمغاربة، ففي هذه السنة زهقت أرواح الالف من التلاميذ الذين عبروا عن رفضهم لمخططات تهدم المدرسة العمومية، وفي هذه السنة تم الإعلان عن حالة الاستثناء، كما تم في نفس السنة اختطاف الزعيم الأممي المهدي بنبركة، لتبقى قضية اختطافه نقطة سوداء في التاريخ الحديث للمغرب. المهدي بنبركة من يكون المهدي بنبركة ولد المهدي بن بركة في يناير من عام 1920 في الرباط بالمغرب، ودرس بكوليج مولاي يوسف في الرباط، وظل يعمل ويتابع دراسته، محاسبا بسيطا في أسواق الجملة لمساعدة أسرته. كان المهدي عضوا بالفرقة المسرحية داخل الكوليج الذي كان يدرس به أبناء المعمرين والأعيان فقط، واشتهر بتفوقه الدراسي، ويقال إنه نظرا لنبوغه الفكري، وتفوقه على زملائه، فقد كان عندما يتخلف الأستاذ عن الحضور إلى الفصل، كان المهدي يكلف بإلقاء الدرس بدلا منه، إلى أن حصل على أول بكالوريا عام 1938، كما حصل على دبلوم بشعبة الدراسات الإسلامية بعدها بفترة قصيرة. سطوع نجم المهدي، لم يمر دون أن يلفت إليه انتباه المقيم العام الفرنسي الجنرال "نوكيز" الذي قرر ارساله رفقة تلامذة متفوقين في رحلة إلى العاصمة باريس، حيث كانت الفرصة الذهبية للمهدي ليثبت نبوغه الفكري، حيث لم تمر سنة واحدة حتى نجح بدراسة الرياضيات وحصل على البكالوريا في هذا الاختصاص سنة 1939. كان المهدي يريد أن يكمل دراسته في فرنسا، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية دفعه لتغيير خططه، وتوجه إلى الجزائر وهي وقتئذ تحت الاحتلال الفرنسي. حصل هناك على شهادة البكالوريوس في الرياضيات، ليصبح بذلك أول مغربي يحقق هذا الإنجاز. وبعد حصوله على البكالوريوس، تمكن بن بركة من الولوج إلى المدرسة الملكية في منتصف أربعينيات القرن العشرين لتدريس ولي العهد آنذاك الحسن الثاني ورفاقه مادة الرياضيات، فجمعت الدراسة بين الأمير والأستاذ، غير أن السياسة والطموحات الشخصية فرقتهما لاحقا. المهدي بنبركة والحسن الثاني المهدي من أستاذ الحسن الثاني…إلى خصمه اللدود في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات عصفت أحداث كثيرة بالمغرب الذي كان وقتها يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي، وتنامت في هذه الأجواء مشاعر الوطنية في نفوس الشباب التواق إلى طرد المستعمر وتحرير البلد من المحتل الفرنسي. في هذا السياق، وقع المهدي بن بركة يوم 11 يناير 1944، وعمره لا يتجاوز 24 سنة فقط، على وثيقة المطالبة بالاستقلال، مع العديد من قادة الحركة الوطنية، آنذاك، التي طالبت فرنسا بالرحيل عن المغرب، وتسليم السلطة إلى القيادة الشرعية للبلاد ممثلة وقتها في السلطان محمد بن يوسف الملقب بمحمد الخامس. صدور هذه الوثيقة، لم يكن ليمر بسلام، حيث أحدث رجة سياسية في المغرب، فقامت مظاهرات حاشدة في الحواضر الكبرى وفي مقدمتها الرباط وسلا وفاس، وخرج الآلاف يطالبون بالاستقلال، ويؤيدون كل ما جاء في الوثيقة، غير أن فرنسا اختارت التصعيد، واعتقلت كثيرين بينهم بن بركة الذي قضى في السجن بضع شهور قبل أن يخرج ويخصص له حزب الاستقلال استقبالا كبيرا، خصوصا أنه كان من بين أحد مؤسسي حزب الاستقلال وقادته. حيوية المهدي أزعجت الاحتلال الفرنسي الذي قرر اعتقاله مجددا عام 1951 ونفيه إلى الصحراء المغربية في أقصى جنوب البلاد، ووحدها زوجته من كانت تزوره مرتين في السنة، وكانت تحتاج إلى يومين كاملين لتصل إليه، بحسب ما حكاه ابنهما البشير، ولم يفرج عنه إلا عام 1954، أي بعد سنة من نفي محمد الخامس والأسرة الملكية إلى جزيرة كورسيكا. نشط بن بركة في العمل السياسي المطالب بعودة الملك من المنفى وخروج المحتل الفرنسي، وطالب خلال عدة لقاءات جماهيرية بتوحيد الجهود السياسية لإخراج المحتل وعودة الشرعية الحاكمة، بفضل هذه المواقف وغيرها، تبوأ بن بركة بعد استقلال المغرب رسميا عام 1956 منزلة خاصة داخل هرم السلطة، حيث عين في العام نفسه رئيسا للمجلس الاستشاري الذي ضم ممثلين من مختلف الهيئات السياسية والنقابية، وجعل منه بن بركة مدرسة للتدرب على ممارسة الديمقراطية، قبل ان يتم حله عام 1959. في ذات السنة التي تم فيها حل المجلس الاستشاري، أعلن بن بركة وثلة من رفاقه وبينهم عبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، الانشقاق عن حزب الاستقلال، وتأسيس حزب جديد تحت اسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عنوانه معارضة نظام حكم الملك، وبديل عن التوجه المحافظ الذي سار عليه حزب الاستقلال. وعلى غير رفاقه، فقد أعلن المهدي عن نفسه معارضا بكل بوضوح، وأسس جريدة التحرير التي كانت توجه انتقادات لاذعة للمؤسسة الملكية، وللموالين لها، وازداد الوضع سوءا بعد وفاة الملك محمد الخامس، عام 1961. المهدي بنبركة مع بعض القيادات في الحركة الوطنية وضوح بن بركة…من النضال الوطني إلى النضال الأممي ولم يكن بن بركة وحزبه الأول (الاستقلال) والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعيدين عن النقد، حيث اتهمت قيادات منهم بمحاولة الاستفراد بالحياة السياسية وتكريس حكم الحزب الوحيد، عبر إقصاء المخالفين بل وحتى اعتقالهم وتصفيتهم، والإشراف على مراكز اعتقال وتعذيب سرية لتحقيق هذا الهدف، أحدها كان مرعبا واسمه دار بريشة بالقرب من تطوان شمال المغرب. وتتهم زوجة القيادي الأبرز بجيش التحرير عباس المساعدي بن بركة بقتل زوجها الذي كان يرى في المهدي خطرا على المقاومة المسلحة للاستعمار، بينما دافع المؤيدون لبن بركة عنه بالقول إن المهدي كان يريد التفاوض مع المساعدي حول مستقبل جيش التحرير، لكن الفرقة التي ذهبت لمرافقته تسببت في قتله بشكل غير متعمد. ومع اتساع الهوة في المواقف بين القصر وحزب بن بركة الجديد، بدأ المهدي يفكر في مغادرة المغرب بعد ظهور مؤشرات تؤكد أن حياته أصبحت في خطر. لم يستمر المهدي كثيرا في المغرب، قبل أن يتوجه بأسرته إلى الجزائر أولا، حيث التقى هناك بالزعيم اليساري تشي غيفارا وقيادات ثورية عالمية، ثم انتقل إلى مصر. كان المهدي كثير التجوال ليس فقط للدفاع عن مواقفه فيما يرتبط بقضايا المغرب، بل أيضا لدعم حركات التحرر في الوطن العربي والعالم، وظل لنحو ثلاث سنوات يعد برفقة أبرز القيادات الثورية اليسارية في العالم لإنجاح مؤتمر قاري قرر عقده في هافانا عام 1966. وكان الاستعداد لهذا المؤتمر هو الطعم الذي اختير لاصطياده. صورة للمهدي بنبركة اختفاء المهدي بنبركة…النقطة السوداء في التاريخ الحقوقي للمغرب كان ذلك صباح 29 أكتوبر 1965 بالقرب من مقهى "ليب" وسط العاصمة باريس. كان بن بركة على موعد مع مخرج لإنجاز وثائقي عن حركات التحرر العالمية بعنوان "كفى BASTA "، وعندما خرج من المقهى قابله شرطيان، طلبا منه الصعود معهما إلى السيارة، وهو ما فعله بعد أن تأكد من هويتهما المهنية. "جورج فيغون" أحد المشاركين في جريمة انهاء حياة الزعيم الاممي بن بركة، في مقالة كتبها بجريدة الإكسبريس الفرنسية عام 1965 قبل أن ينتحر، روى أن الشرطيين نقلاه إلى فيلا بضواحي العاصمة باريس، حيث أخبراه أنه سيلتقي بمسؤول فرنسي كبير، ويزيد موضحا أن بن بركة ساورته شكوك في البداية، لكن رجال المخابرات السرية كانوا حريصين على طمأنته بأن الأمر يتعلق فعلا بلقاء مسؤول كبير يريد مناقشته بعيدا عن وسائل الإعلام. بالموازاة مع ذلك كانت الاستعدادات جارية على قدم وساق لاستقبال الجنرالين المغربيين محمد أوفقير ورفيقه أحمد الدليمي اللذين سيحلان بالفيلا صباح اليوم الموالي. وتشير إحدى الروايات الرائجة إلى أن بن بركة تعرض لتخدير وتعذيب شديد على يد ضباط الاستخبارات الفرنسية قبل أن يتسلمه الجنرال أوفقير ورفاقه ويصبح جثة هامدة، لا أحد يعرف تفاصيل ما جرى بعد ذلك بالضبط، وأين تم إخفاء الجثة وهل هربت إلى المغرب، أم دفنت في فرنسا، فقد تضاربت الروايات بشأن ذلك، ولا دليل يرجح إحداها. صحافي إسرائيلي يدلي برواية جديدة… كشف صحافي استقصائي إسرائيلي في كتاب صدر حديثا، عن بعض تفاصيل عملية اختطاف واغتيال المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة، التي قامت بها المخابرات المغربية بالتعاون مع المخابرات الاسرائيلية والأمريكية وعملاء للمخابرات الفرنسية، والتي لم يكشف عن كامل تفاصيلها ومصير الجثمان حتى الآن رغم مرور 55 عاما، كما يتحدث عن تعاون مخابراتي في تسهيل المخابرات المغربية للمخابرات الاسرائيلية عملية التنصت على قمة عربية عقدت في المغرب. وتطرق رونين بيرغمان في كتاب بعنوان «قم واقتل أنت الأول: القصة السرية للاغتيالات الموجهة برعاية إسرائيل»، لمشاركة الموساد الإسرائيلي في التخلص من المهدي بن بركة، إن كان في عملية المراقبة والمتابعة قبل الاختطاف يوم 29 اكتوبر 1965 من أمام مطعم «ليب» في سان جيرمان في العاصمة الفرنسية باريس، في مقابل خدمة قدمتها المخابرات المغربية لإسرائيل "لأنه في عالم الاستخبارات لا شيء مجاني". وقال الصحافي الذي يعمل محللا سياسيا وعسكريا في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، إضافة إلى تعامله مع صحف عالمية مثل «نيويورك تايمز» و«الغارديان»، في كتابه «لقد قدمت المخابرات المغربية خدمة ضخمة للإسرائيليين من خلال منح الموساد القدرة على التنصت على المحادثات السرية للزعماء العرب في إحدى القمم العربية التي انعقدت في المغرب". وأكد بيرغمان في مقابلة مع راديو «أوروب 1» نشرت صحف مغربية بعضا مما جاء فيها، أن الموساد الإسرائيلي لم يشارك في خطف وتعذيب المهدي بن بركة، بل ساعد على تعقبه حتى اختطفه المغاربة، ثم ساعد القتلة على التخلص من الجثة. وأشار إلى أن جثة بن بركة دفنت تحت ما يُعرف اليوم باسم متحف «لوي فيتون» في غابة بوركون في باريس، وان قتلة بن بركة بمساعدة من الموساد، «نقلوا جثته إلى غابة وألقوا بها في حفرة عميقة وقاموا برشها بمادة كيميائية حتى تتحلل بسرعة".