على شاطئ البحر تجلس مستغرقة فى الكتابة غائبة عن الكون، وأنا جالسة غير بعيدة عنها، أحملق فى الصحف، أضرب الهواء بقبضتىّ الاثنتين مهددة بتدمير العالم، غربا وشرقا، جميع الأجناس والأديان والمذاهب والأيديولوجيات، الكل مشارك فى الجريمة والكذب والقتل والخيانة والنهب والفسق والاستبداد، يتاجرون باسم الله والوطن والدستور والديمقراطية الرأسمالية والاشتراكية الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، وانتخابات الصناديق، وصناديق النقد والقروض والمعونات والتبرعات والزكاة والجزية والضرب بالجزمة فى التخشيبة والسجن. يعود بنا الزمن إلى ما قبل اكتشاف العقل والقانون العادل والضرائب المتصاعدة مع تصاعد الملايين والبلايين، نعود لزمن الهيولة الهلامى غير الممسوكة باليد، غير المحسوبة بالدولارات، يسمونها «الضمير» الذى مات قبل مولد سيدنا نوح ودفنه بالقبر، حول «عذاب القبر» يحتدم الخلاف بين النخبة المختارة المتنافسة على الأضواء والأموال والكراسى، كما احتدم منذ آلاف السنين حول «الثعبان الأقرع» والثوابت المقدسة لدى الأسلاف، ومنها النقاب والحجاب ونكاح الجهاد وإرضاع الكبير وزواج القاصرات وتعدد الزوجات والعشيقات والجوارى وملك اليمين.
شاركتنى السماء والشمس والبحر فى الغضب، فاحتبس الهواء، والحر اشتعل، مع رحيل يوليو 2014 ومجىء أغسطس، ألوم نفسى وأعنفها لقراءة الصحف، يمتلئ قلبى بالحسد لاستغراقها فى الكتابة بكل الشبق والجمال والحرية، لا تشعر بقبح العالم وبشاعته، تغرقها اللذة من قمة رأسها إلى بطن قدميها الحافيتين فوق الرمال البيضاء الناعمة، تلامسهما مياه البحر بموجات رقيقات تروح وتجىء بحركة ناعمة لانهائية، قدماها ملوحتان بالشمس لونهما برونزى نحاسى، ساقاها طويلتان ممشوقتان باللون البرونزى النحاسى ذاته، جسمها كله مشبع بالشمس ومياه البحر المملحة، ترتدى مايوها أزرق من قطعتين، لم أملك الشجاعة (منذ تولى الرئيس المؤمن) لارتداء هذا المايوه، كانت الزبيبة السوداء تبرز فوق الجبهة والمسابح الصفراء تتلوى بين الأصابع والأحجبة والأدعية والفتاوى والمايوهات الشرعية، لا تنزل النساء إلى البحر إلا بالنقاب والجلباب والقفاز والقبقاب، بعد اغتيال الرئيس المؤمن تفاقمت الأمور ثلاثين عاما، عهد الرئيس الجديد، الذى خلعته ثورة يناير 2011، تضاعف التفاقم فى حكم الرئيس الجديد الذى عزلته ثورة أخرى فى يونيو 2013.
الأحداث تتوالى وهى مستغرقة فى الكتابة، لا تشعر بسقوط الرؤساء وصعودهم ثم سقوطهم، لا تعرف الوجه من الوجه ولا الصوت من الصوت، وإن سألتها تمط شفتها السفلى وتقول، كلهم واحد، وأصرخ فيها بحسد: هل أنت مصنوعة من مادة غير اللحم البشرى؟ هل تفقدك الكتابة المشاعر الطبيعية؟
تتسع عيناها فى غيبوبة وتتمتم: وما هى المشاعر الطبيعية؟
قالت لى مرارا إن مشاعرنا مصنوعة بغيرنا، وعقولنا مصنوعة بعقول أخرى، ووجوهنا وأصواتنا وحركاتنا، وكل شىء فينا مصنوع حتى الدم فى عروقنا والجينات والحامض النووى وو.... وأقاطعها: هل أنت من أتباع نظرية سيجموند فرويد «البيولوجيا مصيرنا المحتوم»؟
قالت، هناك فرق، أن نكون عبيدا للأبد، وأن يدركنا الوعى فنحرر أنفسنا قبل أن نموت،،
وهل يتغير الدم فى عروقنا وسوائل المخ الكيماوية الكهرومغنطيسية؟
رمقتنى بضيق: تكررين أسئلتك المملة وتتعمدين تشتيت أفكارى حين أكتب؟
أنت طلبت منى زيارتك؟
لم أكن فى وعيى لحظتها؟
كنت فى حالة حب؟
نسيت،
هل تنسيك الكتابة فتى أحلامك؟
لا شىء يعلو على الكتابة،
واتسعت عيناها أكثر وأكثر وقالت:
كلمات قليلة قد تكشف لنا عن كون آخر، يولد الكون الجديد من كلمات نكتشفها لحظة بلحظة، كلمة بكلمة، نسمى بها الأشياء والناس والآلهة والشياطين، كلمات قليلة تخلق لنا عيونا جديدة، تتغير كيمياء المخ، يتنقى الدم من السموم، تتحول الكلمة فى الرئة إلى الأكسجين، ألم يحدث أن قرأت سطرا واحدا فانتفض جسدك بالسعادة؟
كلماتها نفذت إلى صدرى فاحتضنت بذراعى البحر والهواء والشمس والكون كله.