منذ طفولتى أحلم بنافذة تطل على الأفق الممدود حتى السماء السابعة. جدتى كانت تقول: السماء ليست واحدة بل سبع سماوات، والإلهة «نون» الأم، وأولادها وبناتها المولودون من صلبها يسكنون مجمع الآلهة بالسماء السابعة. تقدمت فى العمر ودراسة علوم الكون، لكنى أواصل الجلوس إلى نافذتى، أخترق بعينى السماء الأولى حتى السابعة، أملاً فى اختلاس نظرة إلى الآلهة المتخفية وراء أعمدة الدخان، حدثتنى عنهم جدتى، وقرأت قصصهم فى كتب المدرسة: نون ونوت وإزيس ومعات ورع وآمون وأتون وإخناتون ويهوه وإلوهيم وإيل وإيلات وبعل واللات ومناة (إلهة الموت) وعزرائيل.
مدينة القاهرة تبدو بعيدة جداً فى الوادى السحيق، راقدة تحت ركام التراب والدخان والغبار، والرذاذ المتناثر من أفواه الخطباء فى الانتخابات والأحزاب المتنافسة، ودماء الأكباش المراقة فى أعياد الفداء، ورائحة الفسيخ يوم شم النسيم، والزيت المحروق والفول المدشوش وذباب البيوت، واليرقات المتوالدة من فيروسات سى ودى وإف وأنفلونزا الطيور والخنازير.
الأشعة الغاربة تنزلق من وراء الأهرامات ومقابر الملوك الغابرة، ومن فوق جبل المقطم المقطوم برأسه الغائبة، والأموات تحت سفحه مع الأحياء يسكنون، وقصور القطامية بأشجارها وأسوارها المحصنة، وقلعة محمد على برؤوس المماليك الطائرة فوق الأحصنة،
لعبت الأحصنة دوراً فى الصراعات على العرش، كما الإله يهوه مفجر الزلازل والبراكين فى الحروب القديمة، والقنبلة النووية تدك الأرض وتقتل الملايين فى الحروب الحديثة، ولعبت الأحصنة فى عصرنا الحديث، ومعها الجمال، دوراً فى إسقاط الإله الجالس على عرش مصر ثلاثين عاماً، يتلاشى الضوء الرمادى وتهبط الظلمة ثقيلة قاتمة، إلا الأضواء الصغيرة المرتعشة المتناثرة على الأرض والسماء.
نسمة باردة تزيدنى غربة عن الوطن أو مسقط الرأس، سقط رأسى بين حدود الدول فى لحظة برق، سبحت فى الهيولة الأولى دون وطن أو أهل، تعودت منذ وعيت الحياة أن أطير وحدى، مثل طائرة بدون طيار، ذراعاى تدوران فى الهواء كجناحين من الريش، منذ طفولتى يراودنى الحلم بالطيران فوق قمم الجبال، أجتاز بحاراً وبلاداً مجهولة، تهزنى الفرحة بلذة الاكتشاف والمعرفة، فأنسى الغربة وتزول الغمة.
غامرت بنصف عمرى الأول من أجل لحظة اكتشاف واحدة، لكنها فى نظرى تساوى الأربعين سنة الأولى من حياتى، ثم غامرت بالأربعين الثانية من أجل لحظة أخرى كاشفة، وسوف أغامر بالأربعين الأخيرة أملاً فى لحظة جديدة، أموت فيها وأولد طفلة مبهورة بأى شىء، وإن كان نملة تمشى فوق الأرض، تدب بكبرياء الملكة أو الإلهة القديمة، ومن خلفها بناتها وأولادها يمشون بالمشية ذاتها.
جدتى كانت تمشى هذه المشية فى أزقة القرية، رغم هبوب الزوابع والرياح، وأكوام الروث والسباخ، ورفسات البغال ونهيق الحمير، وصيحات المتصارعين على منصب العمدة أو رئيس البلد، والكرابيج تطرد الفلاحين من عزبة الملك، رغم أنها أرضهم وأمهاتهم زرعتها بأيديهن وروينها بالدم والعرق، وأبى (ابن جدتى) كان يمشى مشية أمه، رغم بطش الحكومة وسجن الملك، وأمى كانت تمشى المشية نفسها، رغم بطش الأبوة وسجن الأمومة، والأصوات من فوق الجوامع تبايع الملك إلى الأبد، كنت فى حضن أمى تعلمنى الحروف والكتابة، وأبى يتفوق فى العلم والأدب، لكن ابن العمدة يحظى فى الامتحان بالدرجة العليا وجائزة الملك، وأبى يسقطونه آخر الصف فى الدرجة الأسفل، تمسح جدتى العرق عن جبينها بكفها المشققة الكبيرة، وتخبط بها بقوة فوق بطنها، وصوتها يدوى:
البطن اللى ولدت الملك مش أحسن من بطن أمك
هذا كان تعريف العدالة الكونية فى زمن جدتى، أما العدالة الانتقالية فقد أصبحت غير قابلة للتعريف فى زمن الحكومات بعد ثورة يناير 2011، كما عجزت الحكومات بعد ثورة يوليو 1952 عن تعريف «من هو الفلاح؟؟».