نفترض أنك ذهبت متأخرا إلى عملك فغضب مديرك بشدة ووجه إليك شتائم قبيحة. سترفض قطعا هذا السلوك من مديرك لأن علاقتك به تحكمها قواعد قانونية ليس من بينها توجيه الشتائم، من حقه أن يوقع عليك جزاءات محددة فى القانون، لكن ليس من حقه أن يشتمك، بل إن إهانته لمرؤوسيه مخالفة إدارية يجب أن يحاسب عليها. نفترض أن نفس الواقعة حدثت مع أبيك، تأخرت عليه قليلا فانهال عليك بالشتائم. عندئذ لا يمكن لك أن تحاسب أباك لأن الدين والعرف سيرغمانك على تقبل إهانات أبيك. إنك تتحمل من أبيك ما لا تتحمله من الآخرين. أبوك هو الذى جاء بك إلى هذا العالم وأنفق عليك ورباك وعلمك، وبالتالى ستظل مدينا له طيلة حياتك، ويجب أن تتسامح مع إساءاته مهما أزعجتك. الفرق بين علاقتك بمديرك وعلاقتك بأبيك أن الأولى علاقة مهنية تضبطها قواعد إدارية وقانونية، والثانية علاقة إنسانية تعطى الحقوق كاملة للأب على أولاده. الفرق بين المدير والأب هو ذات الفرق بين الرئيس المنتخب والديكتاتور، الرئيس المنتخب موظف يعمل فى خدمة الشعب الذى يراقب أداءه ويحاسبه عن طريق البرلمان، وقد يعزله عن منصبه إذا أراد. أما الديكتاتور فهو فى نظر شعبه الأب، طاعته واجبة والإذعان له فضيلة، وهو يعرف ما لا نعرفه، ومهما قسا علينا يجب أن نتحمله، لأن قسوته مبعثها حبه لنا وخوفه علينا.. توبيخ الرئيس فى النظام الديمقراطى مسألة عادية قد يقوم بها أبسط المواطنين شأنا عندما يقابل الرئيس فينتقد تصرفاته وقد يتهمه بالكذب والفشل- كما حدث مع رؤساء غربيين كثيرين- ثم ينصرف آمنا إلى بيته. أما معارضة الديكتاتور فتعتبر خطيئة فى حق الوطن يدينها الناس ويتهمون فاعلها بأنه خائن وطابور خامس أو ممول من الأعداء لإثارة البلبلة. يعلمنا التاريخ أن الديكتاتورية تتحقق بشرطين استبداد الحاكم وإذعان الشعب، كما أن الشعوب الحرة هى القادرة على تقدير زعمائها دون أن تضفى عليهم هالة مقدسة أو تضعهم فوق مستوى البشر.. لقد قاد ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، بلاده وحلفاءها إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، لكنه خسر منصبه فى أول انتخابات أجريت بعد الحرب عام 1945.
لو أن تشرشل كان قد قاد أى شعب عربى إلى النصر فى الحرب لجعله ذلك يستمر فى الحكم إلى أن يموت، وربما يورث الحكم لأولاده من بعده، ولكان الشعب قد وضعه فى مقام أسطورى فوق القانون والنقد والمحاسبة. على أن بريطانيا ديمقراطية عريقة والناس هناك يعرفون أين تبدأ وتنتهى حقوق كل مواطن، وهم رغم تقديرهم العظيم لتشرشل كبطل قومى رفضوا أن يستمر فى رئاسة الوزراء بعد الحرب، لأنهم يعتقدون أن من يصلح للقيادة أثناء الحرب لا يصلح بالضرورة كرئيس وزراء وقت السلم.. مناسبة هذا الكلام الحملة القائمة على قدم وساق من أجل إقناع الفريق السيسى بالترشح للرئاسة. لقد قام الفريق عبدالفتاح السيسى بمهمة وطنية جليلة عندما انحاز لثورة الشعب ضد عصابة الإخوان الإرهابية، الأمر الذى جعله يكتسب شعبية كبيرة بين المصريين، ولكن هل يعنى كونه قائدا ناجحا للجيش أنه يستطيع قيادة الدولة بنفس الكفاءة؟!..
هل تكفى الشجاعة والخبرة العسكرية من أجل إدارة الدولة بنجاح فى مجالات السياسة والاقتصاد والتخطيط والتنمية؟ ثم كيف ستكون سياسات الفريق السيسى إذا صار رئيسا؟ ما هو برنامجه الرئاسى، وما هى وسائل تنفيذه؟ ما رأى الفريق السيسى فى ثورة يناير، وهل يعتبرها مؤامرة إخوانية أمريكية كما يعتبرها فلول نظام مبارك، وهل يوافق على حملة الاعتقالات لشبان الثورة وتلفيق التهم لهم، التى تقودها أجهزة الأمن، وكان آخر ضحاياها شبان من أنبل وأشرف الثوريين مثل ناجى كامل ونازلى حسين وخالد السيد؟. هل يوافق السيسى على التشهير الرخيص بالثوريين الذى يقوم به جهاز أمن الدولة بواسطة بعض عملائه من الإعلاميين؟ هل ينوى الفريق السيسى محاسبة رجال الأعمال اللصوص الذين استغلوا علاقاتهم بمبارك ونهبوا أموال الشعب المصرى؟..
المذابح التى جرت فى عهد المجلس العسكرى وراح ضحيتها مئات المصريين وآلاف المصابين.. هل ينوى الفريق السيسى فتح تحقيقات مستقلة فيها حتى لو أدى ذلك إلى إدانة المشير طنطاوى، الذى يعتبره السيسى أستاذا له؟!.. هل سيستأنف السيسى سياسات مبارك فى الخصخصة وبيع القطاع العام، أم أنه يؤمن بدور الدولة فى دعم الفقراء وتوفير الحياة الكريمة لهم؟.. كل هذه الأسئلة تظل بلا إجابة.
فباستثناء تصريح مبهم عن عدم العودة إلى الماضى لم يفصح الفريق السيسى عن أفكاره ولا توجهاته السياسية، هنا نكتشف أمرا غريبا: أن ملايين المصريين يطالبون رجلا بتولى الرئاسة وهم لا يعرفون أى شىء عن توجهاته السياسية. الحق أن مؤيدى السيسى يضمون أنواعا مختلفة من المصريين: هناك فلول نظام مبارك الذين عادوا إلى المشهد بكل قوة وكأن ثورة لم تقم ضدهم، هؤلاء يدعمون السيسى رئيسا بحماس لأنهم يعتبرونه إلى حد ما قريبا من نظام مبارك، وبالتالى- وفقا لمنطقهم- فإن الفريق السيسى إذا وصل للرئاسة سيترفق بهم، أما إذا جاء رئيس من خارج النظام فقد يفتح لهم الدفاتر القديمة ويطالبهم برد الأراضى والأموال التى نهبوها من الشعب، أو قد يحيلهم إلى المحاكمة ويلقى بهم فى السجون، النوع الثانى من مؤيدى السيسى منافقون محترفون يزمرون ويطبلون لكل رئيس، وهؤلاء يؤيدون السيسى اليوم ليقبضوا الثمن غدا وهم واثقون من عودة الاستبداد، ولذلك فهم يشاركون فى صناعة الديكتاتور الجديد حتى يكافئهم بالمزايا والمناصب.
النوع الثالث من مؤيدى السيسى بعض أصدقائى الناصريين الذين بلغ حبهم للزعيم العظيم عبدالناصر حدا جعلهم يتوقون إلى تكرار تجربته بأى طريقة. إنهم يحلمون بزعيم تاريخى ينحاز للفقراء ويتحدى الاستعمار ويعيد كرامتنا الوطنية، هذا الحلم الناصرى دفعهم من قبل بحسن نية إلى التورط فى تأييد طغاة سفاحين، مثل القذافى وصدام وحافظ الأسد. إنهم يبحثون عن عبدالناصر جديد فى كل مكان وبأى طريقة. هؤلاء- مع نبل مقاصدهم- أشبه بدون كيخوته فى رواية الأديب الإسبانى الكبير سرفانتس، الذى أراد أن يكون بطلا بأى طريقة، فحارب طواحين الهواء لأنه ظن أنها جيوش الأعداء. خداع النظر هذا يدفع بعض الناصريين إلى الحماس البالغ للفريق السيسى باعتباره خليفة عبدالناصر ويفوتهم هنا اعتباران مهمان: أولا أن عبدالناصر، على الرغم من عظمته وشجاعته وإخلاصه، عندما استبد بالحكم واستبدل الزعامة المطلقة بالنظام الديمقراطى انتهى إلى كارثة 67، التى مازلنا نعانى من آثارها، كما أن تجربته العظيمة انهارت بوفاته لأنه لم يترك نظاما يحافظ على منجزات الثورة، وثانيا أن عبدالناصر كانت توجهاته الاشتراكية المنحازة للفقراء واضحة منذ البداية، وهذا لا ينطبق على الفريق السيسى الذى لا نعرف حتى الآن إن كانت ميوله اشتراكية أم رأسمالية، ولا نعرف بالضبط موقفه من نظام مبارك الفاسد القمعى. على أن الفلول والمنافقين والناصريين الحالمين لا يشكلون أساس شعبية السيسى، التى تعتمد على تأييد المواطنين البسطاء الذين يرون فى الفريق السيسى بطلهم المنقذ الوحيد.
هؤلاء البسطاء فرحوا بخلع مبارك وتوقعوا خيرا كثيرا، لكنهم على مدى ثلاث سنوات عانوا من وقف الحال وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى ترويعهم عن طريق انفلات أمنى متعمد ومذابح متعاقبة فى عهد المجلس العسكرى مع حملات تشهير إعلامية لتشويه الثورة جعلتهم يكرهونها، أو على الأقل يتشككون فى صدقها، ثم تولى الإخوان الحكم فازدادت الأمور سوءا، وأحس الناس بأن البلد قد وقع فى أيدى أفراد عصابة من الصعب استعادته منهم. حتى نزل الملايين للتخلص من الإخوان، فانحاز لهم السيسى وحمى إرادتهم ونفذها.
هذا الدور الذى قام به السيسى هو الذى صنع شعبيته وجعل مصريين كثيرين يريدونه رئيسا بغض النظر عن كفاءته أو توجهاته. إن المصريين الذين يحملون صور السيسى فى الشوارع لا يبحثون فى الحقيقة عن رئيس جمهورية، وإنما عن أب يحتضنهم ويوفر لهم الأمن بعد أن طالت معاناتهم. إنهم يريدون السيسى حتى لو استأنف سياسات مبارك، حتى لو ظلمهم أو حكم بقانون الطوارئ وأعاد الاعتقالات والتعذيب. سيتقبلون من السيسى كل ذلك تماما كما نتقبل من الأب كل ما يفعله من تجاوزات. كل ما يريدونه أن يوفر السيسى لهم الأمان وينتصر على الإرهاب، حتى لو عادت الأمور إلى سابق عهدها أيام مبارك سيقبلون.. هؤلاء لا يهمهم كيف يصل السيسى إلى السلطة، ولا تعنيهم نزاهة الانتخابات، المهم أن يحسوا بأن لديهم أبا جديدا قويا يحميهم ويسيطر عليهم ويوفر لهم الأمن. لا يمكن بالطبع أن نلوم المواطنين المذعورين الباحثين عن أب يحميهم. فقوى الثورة المضادة التى قادها المجلس العسكرى السابق وعصابة الإخوان التى سيطرت على السلطة، وأنصار الإخوان الذين ينفذون عمليات إرهابية لقتل الأبرياء كل يوم، كل هؤلاء قد وضعوا المصريين فى أوضاع أسوأ من الأوضاع التى ثاروا عليها فى عهد مبارك. القطاع العريض من مؤيدى السيسى إذن لا يبحثون عن رئيس، وإنما عن أب يحميهم من الأشرار، وهم يتعجلون وصوله إلى السلطة لدرجة جعلت أحد الناس الطيبين يقول فى التليفزيون:
- عاوزين السيسى يبقى رئيس حالا ومفيش داعى لتكاليف الانتخابات والدعاية والكلام ده..
هنا نجد أنفسنا فى معضلة، فالثورة المصرية قامت أساسا لإلغاء فكرة الرئيس الأب وإقامة دولة ديمقراطية يكون فيها الرئيس خادما للشعب. عشرون مليون مصرى هم الأكثر وعيا ونبلا وشجاعة، قاموا بثورة فى يناير 2011 ضد واحد من أسوأ الأنظمة القمعية فى العالم واستطاعوا إجبار مبارك على التنحى، ثم فرضوا محاكمته وسجنه على المجلس العسكرى.
إذا قرر السيسى الترشح سيكون فى الغالب رئيس مصر القادم، لكن طريقة وصوله إلى السلطة ستحدد شكل الدولة المصرية لعقود قادمة. إذا اقتنع الفريق السيسى بأن النظام الديمقراطى أهم من سلطة الزعيم المطلقة وسمح بانتخابات رئاسية نزيهة فإنه سيكتسب شرعية حقيقية داخل مصر وخارجها، وستتحول مصر من دولة استبدادية متخلفة إلى دولة ديمقراطية محترمة، أما إذا تولى الفريق السيسى الرئاسة عن طريق انتخابات صورية، كتلك التى حكم بها مبارك ثلاثين عاما، فإنه يكون قد أخطأ فى حق الشعب والثورة ودفع بمصر إلى ديكتاتورية جديدة سندفع جميعا ثمنها الباهظ كما دفعناه من قبل مرارا.