قال اللواء أركان حرب جمال حماد، أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، الذي كتب بيان ثورة 23 يوليو: أريد أن أوجه رسالة إلى الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع، القائد العام للقوات المسلحة، أحييه على إنقاذ مصر مما كانت مقدمة عليه من كوارث، ثم تحدث عن الفارق بين بيانات ثورة يوليو، وبيانات »السيسي«، بدءاً من يونيو الماضي. وقدم مقارنة بين موقفي الإخوان من الثورتين، ورصد الفروق بينهما، ونفى المزاعم القائلة بأن ما فعله الجيش بعد .. يونيو انقلاب عسكري، وقدم تقييماً لأداء الإخوان خلال سنة من حكمهم، وتعرض لذكريات وأسرار ثورة يوليو. وإلى نص الحوار: { ما أوجه التشابه والاختلاف بين بيان السيسى، وبيان يوليو الذي توليت صياغته؟ لقد خاطب كلا البيانين الشعب مباشرة دون وسيط، كل منهما كان يهدف إلى بث الثقة والاطمئنان للشعب، لذا كان لبيان السيسى تأثير السحر على المواطنين، ما جعلهم يخرجون إلى الشوارع ويهتفون بحياة الجيش، وقائده البطل »السيسى« الذى استجاب لمطالبهم، وأنقذ البلاد من حرب أهلية، لكن أهم الاختلافات بين ملابسات وتأثير بيانى السيسى وثورة 23 يوليو، أن بيان السيسى كان الجيش كله بجميع أسلحته ووحداته يدا واحدة خلف القائد العام، أما بيان 23 يوليو؛ فإن الذين قاموا بالحركة كانوا لا يتجاوزون 90 ضابطا، معظمهم من صغار الرتب، بينما باقى الجيش لم يكن شارك فى الحركة، وأتذكر قول عبدالناصر بعد تكليفى بكتابة البيان: (خلى بالك يا جمال، هذا البيان هو أملنا الوحيد لانضمام باقى وحدات الجيش والشعب لنا)، وبعد إذاعة البيان، أنهالت علينا التأييدات من وحدات الجيش، وخرج الشعب عن بكرة أبيه إلى الشوارع يهتف بحياة جيشه العظيم وقائده البطل اللواء أركان حرب محمد نجيب. { يرى البعض أن ما حدث فى 30 يونيو انقلاب على الشرعية؟ لو كانت قيادة القوات المسلحة تستهدف انقلابا عسكريا، كما يدعى المغرضون، لما حاولت إزالة الاحتقان والانقسام بين الجماهير، المتمثلة فى القوى السياسية والشبابية والمؤسسات الدينية والرئاسة، فقد بادر السيسى بدعوة الجميع إلى مصالحة وطنية فى نوفمبر 2012، والتى رحب بها الجميع، إلا أن مؤسسة الرئاسة فاجأت الجميع بالرفض قبل الموعد بساعات قليلة لإحراج المؤسسة العسكرية، وفى يوم 22 / 6 / 2013 اجتمعت القيادة العامة للقوات المسلحة مع محمد مرسى الرئيس المعزول فى قصر القبة لإبلاغه رفضهم، نتيجة لما يعانيه الشعب من ترويع وتهديد، وما تعانيه مؤسسات الدولة من إساءات ومحاولات التدخل المفرط فى شؤونها الداخلية، لهدمها والنيل من هيبتها، ومنح الجيش مؤسسة الرئاسة مهلة أسبوع، للاستجابة لمطالب الشعب، حرصا على عدم سقوط مصر فى حرب أهلية، ولوقف انهيار الاقتصاد، وقبل انتهاء المهلة مددتها المؤسسة العسكرية 48 ساعة، إلا أن خطاب مرسى الأخير جاء مخيبا لآمال الشعب والجيش، ما دعا السيسى إلى استدعاء رموز القوى السياسية والشبابية والدينية، دون إقصاء لأحد، لوضع خارطة طريق لإزالة الصراع والانقسام فى المجتمع، وكان من أهم القرارات تولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد له حق إصدار إعلانات دستورية، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية، لها جميع الصلاحيات، ومناشدة المحكمة الدستورية العليا سرعة إقرار قانون انتخابات مجلس النواب، وإنهاء التعديلات الدستورية، ووضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ودمج الشباب فى مؤسسات الدولة، وتشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية.. ومما تقدم يتضح لنا أن ما قامت به المؤسسات العسكرية ينفى تماما أن ما حدث كان انقلابا عسكريا؛ لأن القوات المسلحة لم تستول على الحكم، كما فعلت ثورة 23 يوليو، وأن القوات المسلحة حاولت حل الأزمة بين الرئاسة والقوى الشعبية دون جدوى، إضافة إلى أن المؤسسة العسكرية منحت مرسى مهلة أسبوعا، ثم 48 ساعة للاستجابة لمطالب الشعب، لحثه على سرعة حل الأزمة، ولو كان الجيش يبغى انقلابا عسكريا لما حدد موعدا لحل الأزمة، بل كان سيلجأ إلى سرية تدخله، كما حدث فى ثورة 23 يوليو، لإحداث المفاجأة وتحقيق النجاح. { هناك شخصية مركزية مؤثرة فى مجريات ثورة 23 يوليو 1952، هى زكريا محيى الدين، الذى ظل محتفظا بصمته منذ الثورة حتى رحيله، مع أنه يمثل الصندوق الأسود لأسرار ووقائع 60 عاما من أهم مراحل مصر، وكان واحدا من أهم صناعها.. لماذا لم يتحدث فى تصورك؟ يتميز »محيى الدين« بشخصية وطنية شجاعة؛ فأذكر مثلا أنه فى حرب 1948، أثناء حصار الفالوجا، تسلل بنفسه حاملاً المعدات والتعليمات إلى مواقع قوات العدو الإسرائيلى، ووصل إلى القوات المصرية المحاصرة، وظل بها حتى انتهاء الحصار، وكان يشغل فى ذلك الوقت رئيس عمليات الثورة، وأدى دوره بنجاح كبير ودقة عالية، ما أدى إلى نجاح ثورة 23 يوليو، وأتذكر موقفا يدلل على سرعة بديهته وشجاعته، أثناء ليلة 23 يوليو، كنت معه فى السيارة، وكان العقيد أحمد شوقى يقودها، وبجواره المقدم زكريا محيى الدين، وكنت أجلس فى الكرسى الخلفى وأحمل مدفعا رشاشا، وكنا متجهين من الكتيبة 13 إلى رئاسة الجيش بكوبرى القبة، للتأكد من تنفيذ القوات واجباتها المكلفة بها، وعند البوابة وجدنا رجال البوليس الحربى (الشرطة العسكرية) يحتلونها بقوة كبيرة، ومرت علينا لحظات رهيبة، فقد خشينا إذا عدنا بالعربة إثارة شكوك البوليس الحربى، فنتعرض لإطلاق النار، وقدرنا إذا تابعنا السير سوف نتعرض لإلقاء القبض علينا، وتمهل العقيد أحمد شوقى على مقربة البوابة، فإذا بالمقدم حسن عبدالوهاب، قائد البوليس الحربى، يتقدم نحو العربة، وقال لنا ابتعدوا قليلا عن رجالى، وأسرع »محيى الدين« باقتناص الفرصة، عندما رأى حسن عبدالوهاب دفعته فى الكلية الحربية، فصاح بلهفة أخوية مليئة بالحفاوة والترحيب (أهلا يا حسن أنا زكريا تعالى اركب معانا)، وتأثر »حسن« بدعوة زميلة الحارة، وسرعان ما وجد نفسه بحركة لا شعورية واقفا على سلم العربة، التى انطلق بها »شوقى« يسابق الريح، ومرت السيارة بنطاق البوليس الحربى دون اعتراضها، بعد أن رأوا قائدهم واقفا على سلم السيارة، وكان قائد البوليس الحربى لا يكف طوال فترة تحرك السيارة عن الصياح: »يا إخوانا بس فهمونى إيه الموضوع«، واستمرت العربة تقطع شارع الخليفة المأمون حتى وصلت قرب بوابة سلاح الفرسان، ونزل »عبدالوهاب« ليفاجأ بركاب السيارة، ويذهله مشهد الدبابات والمدرعات المنتشرة بجوار البوابة، ولما استفسر منه »محيى الدين« عن سر وجوده فى هذه الساعة عند مدخل معسكر العباسية، أجاب فى اضطراب، إن الفريق حسين فريد، رئيس أركان الجيش، أخطره أن هناك دوشة من بعض الضباط الصغار، لكنه لم يطرأ على باله أنها حركة واسعة النطاق، وأنه بناء على الأوامر الصادرة له أرسل قوات من البوليس الحربى إلى سراى عابدين، وكانوا يتوقعون تحرك المتمردين إليها، ولما أحسوا أن الحركة ستكون قريبة من رئاسة الجيش بكوبرى القبة، أصدر أمرا إلى قواته للتوجه من عابدين إلى مدخل معسكر العباسية، حيث كان واقفا هناك انتظارا لوصول قواته، ولما عرض علينا استعداده للتعاون مع الضباط الأحرار، قال له »محيى الدين«، إن خير معاونة يسديها للحركة سرعة الاتصال بقواته فى عابدين، وأن يصدر لها أمرا بالبقاء هناك، ويبدو أن قائد البوليس الحربى أصابته الحيرة بشأن الموقف، الذى يتعين عليه اتخاذه، والجانب الذى ينضم إليه، فاستقر رأيه على التوجه إلى بيته والابتعاد عن المشاكل، أما لماذا لم يكتب »محيى الدين« مذاكراته، فذلك يرجع إلى شخصيته، التى كانت تفضل عدم الدخول فى صراعات، إضافة إلى أن شخصيته الكتومة أهلته لتولى رئاسة المخابرات العامة. { كان الإخوان المسلمون طرفاً فى معادلتى ثورة 23 يوليو وثورة 25 يناير.. ما تقييمك لموقفهم من الثورتين، ونريد تعليقك على حادث المنشية، باعتباره تمثيلية ناصرية لاستئصالهم والإيقاع بهم؟ كان عبد الناصر على علاقة وثيقة قبل الثورة مع الإخوان، لكنهم أرادوا السيطرة على عبدالناصر والثورة، ما أدى إلى وقوع خلافات بينهما، ورغم إصدار عبدالناصر قرارا بحل جميع الأحزاب، استثنى الجماعة، باعتبارها جمعية، إلا أنهم واصلوا خلق المشاكل معه، برفضهم إنشاء حزب التحرير، الذى أنشأته الثورة، وكذا موقفهم عندما قادوا المظاهرات فى أهم شوارع القاهرة، بسبب تقديم محمد نجيب استقالته، فيما عرف باسم »أزمة فبراير 1954«، وهى الأزمة الأولى التى كان طرفاها »ناصر ونجيب«، وأصدر عبدالناصر قرارا بحل الجماعة فى 14 يناير 1954، واعتقل 450 من قيادتهم، ثم أفرج عنهم بعد شهرين، عقب محادثات الصلح بين عبدالناصر وقيادات الإخوان المعتقلين، عن طريق مندوبه ووزير الإرشاد القومى السابق فؤاد جلال، ثم زار عبدالناصر المرشد العام فى منزله بالروضة، والتقى معظم أعضاء مكتب الإرشاد، واعتبرت تلك الزيارة رد اعتبار للإخوان، وبهذا ضمن عبدالناصر سكوت جماهير الإخوان، وعدم مساندتهم ل»محمد نجيب« فى الأزمة الثانية بينهما المعروفة باسم »أزمة مارس 1954«، إلى أن وقعت محاولة اغتيال عبدالناصر، فيما عرف باسم »حادث المنشية«، حين كان يلقى خطابه بمناسبة نجاحه فى المفاوضات مع الإنجليز للجلاء عن منطقة القناة، وادعى الإخوان أن الحادث اختلقه عبدالناصر كمبرر للتخلص منهم، لكنها كانت محاولة اغتيال حقيقية، إضافة إلى أن التحقيقات التى أجريت بشأن الحادث أثبتت أن المسدس المستخدم فى إطلاق الرصاص على عبدالناصر أطلق طلقات حية وليست فشنك، وأن بعض الطلقات أصابت مواطنين كانوا بالقرب من عبدالناصر، وليس من المعقول أن يضمن عبدالناصر عدم إصابته بالرصاص، ويتعين القول إنه عقب الحادث حصل عبدالناصر على تأييد شعبى جارف، استغله للعصف بالإخوان والخلاص منهم بتشكيل محكمة الثورة، برئاسة قائد الجناح جمال سالم، والتى حكمت بالإعدام على 7 من قيادات الجماعة، باعتبارهم من المحرضين؛ من بينهم المرشد العام الهضيبى، الذى خفف عنه عبدالناصر الحكم إلى السجن المؤبد لكبر سنه، وهكذا تخلص عبدالناصر من الجماعة، ومن اللافت أن الإخوان بين الثورتين كانوا خاسرين، لسوء رهاناتهم السياسية. { البعض يردد أن من أسباب تعثر ثورة 25 يناير أنه لم يكن لها قائد.. ما تعليقك بشأن ظهور صور عبدالناصر، وشعارات ثورة 23 يوليو فى الميادين يوم 30 يوينو؟ معظم الثورات فى التاريخ كان لها قائد، لكن ثورة 25 يناير كان الشعب المصرى هو قائدها، وهى معجزة حققها هذا الشعب البطل، لكن المأساة أن الشعب الثائر لم يكد يسمع أن الرئيس السابق حسنى مبارك تنحى عن الحكم، حتى اتجه معظم الثوار إلى المنازل، باعتبار أن ثورتهم نجحت، ولو كان للثورة قائد، لكان قد دعا الشعب إلى البقاء فى الميادين، التى كان محتشدا فيها، حتى تتحقق أهداف الثورة، الأمر الذى دعا إلى محاولة أكثر من فصيل، خاصة الإخوان، تبنى الثورة وخطفها، ومحاولة إشعار الجميع أنهم أصحاب الفضل فى نجاحها، ما دعا البعض إلى القول إنهم سرقوا الثورة. أما عن سبب تجدد الحضور الملفت للرئيس عبدالناصرفى ثورة 25 يناير بصوره وشعاراته، فإننى أفسر ذلك بأن ثورة 25 يناير لم تكتمل، وأن ثورة 30 يونيو قامت لاستكمالها وتصحيح مسارها، وتحقيق أهم أهدافها، التى تتمثل فى العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى للإرادة الشعبية، فى مواجهة محاولات التدخل الخارجى، والتيارات السياسية المستترة بالدين، وهى نفس الأخطار التى واجهتها ثورة 23 يوليو ولعدم وجود رمز وطنى لزعيم تحتشد المظاهرات تحت لوائه. { ما تقييمك لتجربة الإخوان فى الحكم؟ الإخوان لم يلتحقوا بالثورة، إلا بعد أن شعروا بنجاحها فى 25 يناير، وغياب الثقة فى أى فصيل فى الدولة، حتى الأحزاب الدينية (النور والسلفيين) وإقصاء جميع الكفاءات فى مؤسسات الدولة، والاعتماد على أعضاء الإخوان فى المناصب المهمة فى الدولة، حتى لو كان هناك اعتراض شعبى عليها، مثل تعيين محافظ الأقصر، الذى اعترض عليه الشعب، وشركات السياحة الأجنبية، التى ألغت رحلاتها وتعاقداتها، ولم يتمكن المحافظ من دخول مكتبه، إضافة إلى سوء اختيار المستشارين، ما جعل رئيس الجمهورية يصدر قرارات دون دراسة، ثم تراجع عنها، إضافة إلى معاناة الشعب من أزمات الكهرباء والبنزين والسولار، وغلاء الأسعار وتدهور قيمة الجنيه، فى مواجهة العملات الأجنبية، وسوء إدارة ملف السياسة الخارجية، وتراجع العلاقات مع دول الخليج، وإضاعة هيبة مصر أمام دول العالم، وتدهور الحالة الاقتصادية، ما أدى إلى إغلاق المصانع أبوابها، وزيادة البطالة وتدهور حالة الأمن وزيادة الجرائم وترويع الشارع، وشعوره بعدم الأمان، فضلا عن محاولة التدخل فى شؤون مؤسسات الدولة، مثل القضاء والداخلية والإعلام والمؤسسات الأمنية، بهدف أخونتها وإضعافها، وكل هذه دلالات كافية لثورة الشعب على الإخوان، ودليل على انعدام خبرتهم فى إدارة الدولة وتخبطهم فى إقالتها من عثرتها. { نعود للبيان الأول لثورة 23 يوليو، فقد تضاربت الروايات بشأن أول من أذاعه، نريد أن نقف على التفاصيل والملابسات الدقيقة له؟ بعد أن نجاح الثورة انسحبت أنا وزميلى الرائد أ. ح عبدالحكيم عامر من المجموعة، التى كانت فى مكتب اللواء محمد نجيب، ودخلنا عرفة المؤتمرات، المواجهة مباشرة لمكتبه، وأغلقنا باب الغرفة علينا، حتى لا يزعجنا أحد، وجلسنا على مقعدين متجاورين على مائدة المؤتمرات الخشبية الفخمة نلتقط أنفاسنا ونستعيد الهدوء، الذى افتقدناه خلال وجودنا بمكتب قائد الثورة، لكتابة البيان الأول، الذى سيوجه من اللواء محمد نجيب إلى الشعب، من دار الإذاعة فى السابعة صباحا، كما كان مفترضا، واتفقت مع عبدالحكيم عامر على النقاط المهمة، التى ينبغى أن يتضمنها البيان، ولم يستغرق ذلك سوى بضع دقائق، نظراً لضيق الوقت، ولم يلبث عبدالحكيم أن تركنى وحدى بالغرفة، ليتيح لى فرصة صياغة البيان الأول للثورة فى هدوء دون أى إزعاج. وشعرت فى اللحظات الأولى بفيض من مشاعر التوتر والاضطراب، فقد كنت أدرك مدى جسامة مسؤوليتى تجاه الثورة، ومقدار خطورة البيان، الذى سيذاع بعد ساعات على الجيش والشعب، الذى سيكون له تأثير كبير فى موقف وحدات الجيش والشعب من الثورة، وأحسست بنوع من القلق، خاصة عندما تذكرت مقولة الرئيس الراحل المقدم أ. ح جمال عبدالناصر، عندما كلفنى بكتابة البيان، فقد خاطبنى بجدية واهتمام ونحن فى مكتب رئيس الأركان حسين فريد قائلاً فى همس: »أنت ستكتب لنا بيان الثورة، نظرا لثقتى فى قدراتك كأديب وشاعر، ولا شك أنك تعرف أن هذا البيان مهم جدا، لأن الجيش والشعب بأكمله سوف يسمعه، وهو أملنا الوحيد فى انضمام الجيش والشعب لحركتنا». وسألت نفسى، كيف أكتب هذا البيان التاريخى بأسلوب رصين، مجرد من أى أخطاء نحوية أو لغوية، حتى لا يستخف بنا أحد، سواء فى مصر أو الخارج، وأن يكون شاملا لجميع النقاط، التى نضمن بها سرعة انضمام الجيش والشعب إلى ثورتنا، التى كان نجاحها لايزال فى علم الغيب، وكان الأمل فى انضمام الجيش والشعب إليها، كما أكد عبدالناصر، معلقا بهذا البيان، الذى شاء القدر أن أجد نفسى مسؤولاً عن صياغته فى وقت ضيق، ودون أى استعداد سابق، وبعد عدة مسودات استقر الرأى على الصيغة النهائية، التى كتبتها على ورقة فلوسكاب بيضاء غير مسطرة بقلمى الحبر، ولم أقم بشطب أى كلمة بها سوى كلمتين فقط، ولم تستغرق كتابة البيان منى أكثر من نصف ساعة، عاد بعدها عبدالحكيم إلى الغرفة، حيث قرأ البيان فى اهتمام، وأبدى رضاءه التام، وعرضته على عبدالناصر، فأبدى اقتناعه به وأقره على الفور، وكنت قد ترددت لحظة أثناء كتابتى للبيان، عندما فكرت مدير سلاح المشاة، ولقبه الحقيقى فى ذلك الوقت، أم أكتب رئيس مجلس إدارة نادى الضباط المنحل، أو أكتب اسمه فقط دون أى لقب، وخطر فى ذهنى القائد العام للقوات المسلحة، فكتبته على الفور، رغم أنه لم يكن لقبه الحقيقى وقتئذ، وعندما عرضت البيان على اللواء محمد نجيب وافق على الصيغة، لكنه رأى إضافة بعض الكلمات، فأخرج قلمه من جيبه وكتبها، حشرا بين السطور المكتوبة، ثم وقع البيان بإمضائه، ودون أسفلة تاريخ ذلك اليوم بالأرقام 23 / 7 / 1952، وانحصر التعديل فى عبارة واحدة كانت فى الأصل »وإنى أؤكد أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن مجردا من أى غاية«، فأصبحت بعد التعديل »وإنى أؤكد للشعب المصرى أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن (فى ظل الدستور) مجردا من أية غاية». وما أذكره أنه فى الثالثة صباحا من يوم 23 يوليو، وصل النقيب جمال القاضى إلى دار الإذاعة على رأس فصيلة مشاة من الكتيبة 13 مشاة، بقيادة الملازم مصطفى أبوالقاسم، ومجموعة سيارات مدرعة من سلاح الفرسان، بقيادة الملازم أحمد المصرى، وضرب بقواته الحصار حول مبنى الإدارة بشارع الشريفين. وفى السادسة والربع صباحا، وصل المقدم أنور السادات إلى دار الإذاعة، وهو يحمل البيان الأول للثورة، وبعد وصوله بقليل وصل مذيع الفترة الصباحية فهمى عمر (رئيس الإذاعة فيما بعد)، فقال له السادات إنه سيجرى بعض التغييرات فى برامج الإذاعة، لأن هناك بيانا من القيادة مطلوب إذاعته، ولم يستطع »عمر«، فى ظل الحراسة العسكرية المشددة، التى كانت تحيط به من كل جانب سوى أن يجيب »الإذاعة تحت أمرك«، ودخل السادات الأستوديو، وحدث أن انقطع الإرسال أكثر من مرة إلى أن أذاعه السادات بصوته، وكانت هذه هى أول مرة يذاع فيها البيان وقد أذيع بعد ذلك بصوت أحد الضباط، الذى أخطأ فى الإعراب، ثم جددت إذاعة البيان بصوت السادات مرة أخرى، حينما كان رئيسا لمجلس الشعب.