اليوم نذهب لندلى بأصواتنا فى الاستفتاء على الدستور، وهو- فى رأيى- من أفضل الدساتير التى شهدتها مصر، باستثناء مادة واحدة تجيز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، هذه المادة تتناقض مع مبادئ الديمقراطية، وأرجو أن يلغيها مجلس الشعب القادم، على أننا فى هذا الاستفتاء لا نصوت على الدستور، وإنما فى الواقع نصوت على عزل محمد مرسى. ملايين المصريين الذين ثاروا ضد حكم الإخوان يجب أن يوافقوا على الدستور، حتى يثبتوا للعالم أن ما حدث فى 30 يونيو لم يكن انقلاباً عسكرياً كما يزعم الإخوان، وإنما موجة ثورية عظيمة عكست إرادة شعبية حقيقية حمتها ونفذتها القوات المسلحة. على أن موافقتنا على هذا الدستور ليست مطلقة، وإنما مشروطة باحترام الدستور وتنفيذه، فقد عرفت مصر دساتير جيدة تم انتهاكها بواسطة السلطة حتى فقدت قيمتها. قبل 30 يونيو قابلت الفريق السيسى مرتين، فترك عندى انطباعاً جيداً كشخصية وطنية محترمة وأعجبنى تقبله للنقد مهما كان شديداً مادام يستهدف الصالح العام. هنا من واجبنا أن نصارح الفريق السيسى بممارسات عديدة مقلقة تتنافى مع الديمقراطية تتلخص فيما يلى: أولًا: فى البلاد الديمقراطية عندما يريد شخص أن يترشح لمنصب الرئاسة يتوجب عليه أن يقنع الناخبين بجدارته للمنصب، أما فى الأنظمة الديكتاتورية فإن الزعيم تحيط به هالة مقدسة، ويكون على الشعب أن يلح عليه حتى يتولى الرئاسة، وكأنه لا يحتاج إلى الرئاسة وإنما هى التى تحتاج إليه. عندما جاء حسنى مبارك إلى الحكم عام 1981 تعهد أمام المصريين جميعا بأنه لن يحكم أكثر من مدتين رئاسيتين، فلما انقضت المدتان وجد مبارك نفسه فى موقف محرج، فأعلن أنه سوف يترك السلطة كما وعد. هنا حدثت واقعة مشينة أبطالها أعضاء مجلسى الشعب والشورى فى ذلك الوقت (ومعظمهم حصلوا على مقاعدهم بالتزوير)، فقد اتفق هؤلاء مع مبارك وذهبوا إليه فى منزله وراحوا يرجونه أن يستمر فى الحكم، بل إنهم قدموا له وثيقة مبايعة زعموا أنهم كتبوها بدمائهم (ثم تبين بعد ذلك أنهم استعملوا زجاجة من بنك الدم). ظهرت هذه المسرحية السخيفة فى التليفزيون، فأمسك مبارك بمبايعة الدم بين يديه وراح يتطلع إلى أعضاء الوفد المنافقين، ثم قال لهم: - لقد كنت قررت أن أترك الحكم لكنكم جئتمونى بهذه الوثيقة التى كتبتموها بدمائكم، فلا يمكن أن أتجاهل إرادة الشعب، ولذلك سأستمر فى الحكم. الثقافة الديمقراطية تعتبر الشعب هو السيد الذى يسعى الجميع لخدمته وإرضائه، بعكس ثقافة الاستبداد التى تقوم على تمجيد الزعيم حتى ترفعه فوق مستوى البشر. فى الدول الديمقراطية يسمون الرئيس «الخادم العام» لأنه يعمل فى خدمة الشعب الذى من حقه أن يحاسبه ويعزله إذا أراد، وفى نظام الاستبداد يكون الزعيم المفدى أكبر من الرئاسة، وبالتالى لا يجوز لأحد أن يحاسبه، لأنه يعلم مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه. كيف سنحاسب رئيساً إذا كنا نلح عليه ونرجوه حتى يتولى منصبه؟! كنت أتمنى أن يعلن الفريق السيسى ترشحه للرئاسة ويقدم برنامجه الانتخابى كما يفعل المرشحون فى النظام الديمقراطى، لكن ما حدث هو أن الطبالين والزمارين راحوا يرددون أنهم يرجون الفريق السيسى ويستحلفونه حتى يقبل الترشح للرئاسة، وبالغ بعضهم فقالوا إن السيسى يجب أن يتولى الرئاسة حتى لو كان ذلك رغماً عنه، (وهذا كلام غريب يدل على غباء قائله أو إفراطه فى النفاق، أو كليهما). للأسف فإننا فى مصر نتقن أساليب مبتكرة فى النفاق قلما تجدها فى البلاد الديمقراطية. إن حملات النفاق القائمة الآن على قدم وساق للفريق السيسى تذكرنا بحملات مبايعة مبارك، الذى أكد أثناءها مسؤول فى الحزب الوطنى «أن الجنين فى بطن أمه يبايع مبارك». الفريق السيسى لا يحتاج إلى هذا النفاق، لأنه يتمتع بشعبية كبيرة حقيقية نتيجة لموقفه الشجاع فى حماية مصر من إرهاب الإخوان، لكنه إذا أراد أن يترشح بطريقة ديمقراطية فسيكون عليه أن يتقاعد من القوات المسلحة بهدوء، ثم يعلن ترشحه ويقدم برنامجه حتى نقارن بين برنامجه وبرامج المرشحين الآخرين ونقرر أيها أفضل. ثانيا: يتردد فى بعض وسائل الإعلام أن الموافقة على الدستور تعنى القبول بترشح الفريق السيسى للرئاسة. والحق أنه لا توجد أى علاقة بين الموضوعين. هل تظاهر ملايين المصريين يوم 30 يونيو من أجل سحب الثقة من مرسى بعد أن عطل النظام الديمقراطى، أم أنهم تظاهروا من أجل ترشيح السيسى؟! هل بذل أعضاء لجنة الخمسين كل هذا المجهود من أجل كتابة دستور يليق بمصر، أم أن هدفهم كان تمهيد طريق الفريق السيسى إلى الرئاسة؟! هذا الخلط بين الدستور وترشيح السيسى غريب ومريب وهو يؤذى مسار الثورة وخارطة الطريق إلى أبعد حد. من حق أى مواطن مصرى أن يوافق على الدستور ثم يرفض الفريق السيسى كمرشح رئاسى. ثالثا: لقد طلب الفريق السيسى تفويضاً من الجيش لكى يترشح للرئاسة وحصل عليه. معنى ذلك أن الجيش قد أصبح له مرشح للرئاسة يفضله على الآخرين، مما سيدفع الجيش حتماً إلى ممارسة السياسة بكل ما قد يجره ذلك من أضرار جسيمة على الوطن. إن القانون يمنع أفراد القوات المسلحة من التصويت فى الانتخابات حتى يحافظ على حيادهم ويبتعد بهم عن السياسة، فكيف يتسق ذلك مع تفويض الجيش للسيسى، وهل يتصور أحد أن مرشح الجيش من الممكن أن يخسر الانتخابات أمام أى مرشح آخر؟ كيف تتوفر الحيدة للقوات المسلحة وهى تشرف على انتخابات الرئاسة إذا كان لها مرشح تفضله على المرشحين الآخرين؟ كيف نقنع العالم أننا نبنى دولة ديمقراطية لا تتحكم فيها المؤسسة العسكرية، بينما نحن ندعو الجيش إلى تفويض مرشح فى مواجهة بقية المرشحين. رابعاً: واجبنا أن ندعم الدولة المصرية فى حربها ضد جماعة الإخوان الإرهابية، ولن ننسى الشهداء الأبرار من الجيش والشرطة الذين يسقطون لحمايتنا. هذا صحيح بالطبع، لكن واجبنا أيضا أن ننبه السلطة الانتقالية إلى عودة ممارسات قمعية نادراً ما توجه إلى الإخوان، وإنما تمارس غالباً ضد الثوريين الذين لعبوا دوراً مهماً فى الإطاحة بالإخوان. لماذا لم تستعمل الحكومة قانون الطوارئ ضد إرهاب الإخوان، ثم أصدرت قانون التظاهر لتحبس به شباب الثورة وحدهم، هل يعقل أن يتم القبض على شباب الثورة وتقديمهم لمحاكمة عاجلة وإلقاؤهم فى السجون سنوات لمجرد أنهم تظاهروا بدون تصريح؟ وهل تحصل مظاهرات تأييد السيسى على تصاريح؟! إن أنصار الإخوان الذين قتلوا الأقباط وأحرقوا عشرات الكنائس وألقوا بالأبرياء من فوق الأسطح وذبحوا ضباط كرداسة لايزالون ينعمون بمحاكمات متمهلة بعد شهور من ارتكاب جرائمهم. إن الرغبة فى تشويه ثورة يناير والانتقام من شبابها، والتى تنتاب بعض المسؤولين فى وزارة الداخلية، ليست فى مصلحة الوطن، بل إنها تصب مباشرة فى مصلحة الإخوان الذين يرددون ليل نهار أن 30 يونيو تعنى العودة للنظام القديم. خامساً: إذا كان الفريق السيسى سيترشح للرئاسة فمن حقنا أن نطلب منه أن يعلن بوضوح موقفه من نظام مبارك. إن مؤسسات نظام مبارك الفاسدة لاتزال كما هى، وجماعات المصالح التى استفادت من مبارك ونهبت الشعب المصرى قد عادت للظهور. إن جهاز الشرطة (بالرغم من الدور العظيم الذى يؤديه الآن فى مواجهة الإرهاب) قد شابت أداءه تجاوزات خطيرة على مدى عقود كانت سبباً مباشراً فى اندلاع الثورة. فهل ينوى السيسى، إذا تولى الرئاسة، أن يصلح جهاز الشرطة فيكافئ الضباط الأكفاء ويحاسب الضباط الذين انتهكوا آدمية المصريين وعذبوهم وقتلوهم؟! هل سيتبنى السيسى برنامجاً للعدالة الانتقالية يكشف الحقيقة ويقتص من قتلة المصريين فى كل المذابح التى حدثت منذ 28 يناير 2011 وحتى اليوم؟! ماذا سيكون موقف الرئيس السيسى من رجال الأعمال الذين استفادوا من قربهم لمبارك وصنعوا ثروات ضخمة على حساب الشعب؟! لقد عاد هؤلاء اللصوص إلى الظهور، فهل يستطيع الفريق السيسى أن ينفذ القانون عليهم؟ هل يستطيع أن يسترجع أموال مبارك وأسرته المهربة التى ضاعت على الشعب نتيجة لتقاعس المجلس العسكرى والإخوان عن استردادها؟! كل هذه الأسئلة من حق المصريين أن يعرفوا إجاباتها قبل أن يقرروا ما إذا كانوا سينتخبون السيسى للرئاسة أم سيفضلون عليه مرشحاً آخر. سادساً: إذا كان حب ملايين المصريين للفريق السيسى سيجعلهم ينصبونه رئيساً، بعيداً عن النظام الديمقراطى، فإن ذلك سيصنع ديكتاتورية جديدة، ولابد أن نذكر أن أول ضحايا الديكتاتورية هو الديكتاتور نفسه الذى يحجب عنه الاستبداد النقد المخلص الأمين الضرورى من أجل تصحيح رؤيته وقراراته أولاً بأول. إن هزيمة 1967 لم تكن لتحدث أبداً لو أن الزعيم العظيم عبدالناصر كان يحكم مصر من خلال نظام ديمقراطى. كل الكوارث التى حاقت بنا كانت بسبب حكم الفرد الذى اعتمد على نظريات منافقة عادت تتردد من جديد، للأسف، عن الزعيم الملهم والرئيس الضرورة والقائد الذى هو منحة من الله... إلى آخر هذه التعبيرات التى يسخر منها أى مواطن فى دولة ديمقراطية. الفريق السيسى قائد الجيش المصرى له منا كل احترام وتقدير، لكنه كمرشح رئاسى يجب أن يقدم برنامجه ويشرح لنا كيف سيحكم بلادنا إذا فاز بالرئاسة، ومن حقنا أن نناقشه ثم نقرر بعد ذلك إذا كنا سنرفضه أو نقبله. مهما كانت عظمة الفريق السيسى وقدراته كرئيس فإنه لو وصل للسلطة بغير انتخابات ديمقراطية حقيقية فمعنى ذلك أننا نعود بمصر إلى عام 1954 ونكرس لحكم الفرد من جديد. وأى ديكتاتور مهما يكن مخلصاً ومحبوباً من الشعب فإنه حتماً سيقود البلاد إلى كارثة مادام مستبداً، هكذا يعلمنا التاريخ إذا وعينا الدرس. الانتخابات الديمقراطية تعنى تكافؤ الفرص بين المرشحين والكشف عن ثرواتهم ومصادر تمويلهم وتطبيق القانون عليهم إذا تجاوزوا الحد الأقصى للإنفاق الانتخابى، وإلغاء النتيجة فى أى لجنة يثبت فيها التلاعب.. فمن الذى سوف يطبق هذه القواعد على الفريق السيسى؟! إن المصريين جميعاً مطالبون بالموافقة على الدستور، حتى يؤكدوا شرعية التغيير الذى حدث فى 30 يونيو، لكننا بعد إجازة الدستور تنتظرنا معركة صعبة وضرورية من أجل ترسيخ قواعد الديمقراطية ومنع أى ديكتاتورية جديدة تحت أى مسمى. الديمقراطية هى الحل