أثناء دراستى فى الولاياتالمتحدة كنت أعيش فى سكن الطلبة التابع لجامعة إلينوى، كان زملائى فى السكن من كل أنحاء العالم، وبينهم بعض الطلبة العرب الذين كنت أتبادل معهم التحيات والأحاديث العابرة. ذات يوم جاءنى زميل عربى وقال: - معنا فى الجامعة زميلة عربية (ذكر اسمها وبلدها)، وهى على علاقة بطالب بولندى.. هل رأيتهما؟
كنت قد رأيتهما من قبل فى حديقة السكن والمطعم وبدا لى أنهما فى حالة من الغرام العارم. استطرد الزميل قائلا:
- هذه الفتاة منفلتة أخلاقيا، وهى تتبادل القبلات علنا مع رفيقها البولندى بدون احترام لمشاعرنا نحن العرب فى الجامعة. إن دمنا حر ولن نقبل هذا الخزى أبدا. لقد حصلنا على بيانات أبيها كاملة وقررنا أن ننذرها أولا لعلها تترك رفيقها البولندى وتعود إلى الصواب وإلا فإننا سنخبر أباها بتصرفاتها الداعرة.
قلت:
- ألا تلاحظ أنكم بذلك تتطفلون على إنسانة لا تعرفونها وتحشرون أنفسكم فى حياتها الشخصية.. إنها ليست قاصرا ولستم أوصياء عليها.
بدت الصدمة على الزميل وصاح:
- يا أخى هل أنت عربى؟ هل تقبل عروبتك أن ترى فتاة عربية تتبادل القبلات مع عشيقها الأجنبى أمام عينيك فلا تغضب ولا تثور؟ أمرك غريب فعلا!
قلت له:
- أنا مسؤول عن نفسى فقط ولست مسؤولا عن ملايين النساء العربيات، ثم إذا كنتم تعتبرون أنفسكم مسؤولين عن هذه الفتاة، فلماذا لم تساعدوها فى أى شىء من قبل، ولماذا تتدخلون الآن بغرض قمعها وتهديدها بسبب تصرفات شخصية؟
بعد نقاش عبثى أكدت له أننى لن أشترك معهم فى «الشرطة الأخلاقية» التى شكلوها، فانصرف وهو يشيعنى بنظرة احتقار صريحة، وعرفت بعد ذلك أنهم فعلا واجهوا الفتاة بغضبهم من سلوكها، فردت عليهم بأنها حرة فى حياتها، ثم تقدمت ضدهم بشكوى إلى إدارة الجامعة التى استدعتهم للتحقيق، فكفوا عندئذ عن ملاحقة الفتاة خوفا من العواقب. هذه الواقعة تدل- فى رأيى- على أن بعض الناس بالرغم من حصولهم على قسط راقٍ من التعليم لا يتصرفون باعتبارهم مواطنين أحرارا، وإنما باعتبارهم أعضاء فى قبيلة.. لقد أحس هؤلاء الطلبة بالغضب لأن فتاة لا يعرفونها عشقت رجلا لا يعرفونه لمجرد أن الفتاة عربية، وهم يعتبرون أن العرب جميعا أعضاء قبيلة واحدة كبيرة، وبالتالى فإن كل فتاة عربية تعشق رجلا غريبا يصبح من واجبهم ردعها أو الانتقام منها. إن انتشار التفكير القبلى فى مجتمعاتنا العربية يشكل عائقا حقيقيا أمام بناء الديمقراطية. إن ثقافة القبيلة تتناقض مع الديمقراطية، لأنها تؤسس للاستبداد والظلم والتمييز إذ تعتمد على المبادئ التالية:
أولاً: المسؤولية الجماعية
بينما تؤكد الثقافة الديمقراطية أن المسؤولية فردية بحيث يصبح كل مواطن مسؤولا فقط عن تصرفاته التى فعلها بإرادته الحرة فإن التفكير القبلى يعتمد مبدأ المسؤولية الجماعية، فيعتبر مثلا ضباط الشرطة جميعا مسؤولين عن جرائم التعذيب وقتل المتظاهرين التى اقترفها بعض زملائهم، ويعتبر الأمريكيين جميعا مسؤولين عن جرائم الجيش الأمريكى فى العراق، ويعتبر اليهود جميعا فى كل أنحاء العالم مسؤولين عن جرائم إسرائيل (حتى لو كانوا معارضين لها)، ويعتبر الأقباط مسؤولين عن تصرفات أى قبطى، فعندما أنتج أحد أقباط المهجر فيلما يسىء للإسلام، أطلق شيوخ الإسلام السياسى لعناتهم وشتائمهم ضد الأقباط، باعتبارهم مسؤولين جميعا عن الفيلم المسىء.. إن مبدأ المسؤولية الجماعية يمنع قيام الدولة الحديثة التى تقوم على أن كل مواطن له حقوق وعليه واجبات لا تتغير طبقا لدينه أو مهنته أو جنسه.
ثانياً: التعصب المهنى
عندما تقرر تحويل روايتى عمارة يعقوبيان إلى فيلم فوجئت ببعض الصحفيين يتقدمون بشكوى ضدى إلى نقابة الصحفيين، يعتبرون فيها أن شخصية الصحفى الشاذ فى الرواية تسىء إلى الصحفيين جميعا، وقد طالبوا بحذف الشخصية من الفيلم أو منحها أى مهنة أخرى غير الصحافة حتى لا يفهم الجمهور أن بين الصحفيين شواذا جنسيا. كان نقيب الصحفيين آنذاك مثقفا كبيرا هو الأستاذ جلال عارف، الذى بادر بحفظ الشكوى وأكد لى أن نقابة الصحفيين قلعة الحريات لا يمكن أن تحاسب مؤلفا على خياله. لكن ما حدث معى تكرر عشرات المرات، فما إن تظهر شخصية سيئة فى فيلم أو مسلسل إلا ويعلن من يشاركونها فى المهنة احتجاجهم الشديد. إذا كانت الشخصية المنحرفة محاميا يحتج المحامون، وإذا كان طبيبا يرفع الأطباء دعوى لمنع عرض الفيلم أو المسلسل. هذا التعصب المهنى جانب من التفكير القبلى، وهو يشكل قيدا مزعجا على حرية الإبداع، لكنه أيضا قد يأخذ طابعا معاديا للديمقراطية عندما يحاول أصحاب كل مهنة انتزاع مكاسب تخصهم وحدهم، كما يحدث الآن فى لجنة كتابة الدستور، فالقضاة يرفضون إخضاع ميزانية نادى القضاة لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، ويريدون إدراجها كرقم واحد غير قابل للنقاش أمام مجلس الشعب، والعسكريون يصرون على استمرار محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهو سلاح فى يد السلطة تم استعماله لتأديب المعارضين وقمعهم منذ عام 1954 وحتى الآن، كما يرفض العسكريون الاعتراف بحق الرئيس فى تعيين وزير الدفاع (وهو الأمر المتبع فى كل الدول الديمقراطية)، لأنهم يعتقدون أنه لا يجوز لرجل مدنى، حتى لو كان رئيسا انتخبه الشعب، أن يحدد من يرأس الجيش.
رابعاً: نسبية الحق
بينما تؤكد الثقافة الديمقراطية أن المواطنين جميعا سواء أمام القانون، تطالب الثقافة القبلية بتضامن أبناء القبيلة مع بعضهم البعض ماداموا فى صراع مع الآخرين، بغض النظر عمن صاحب الحق فى النزاع القائم. ومن هنا فإن التفكير القبلى عاجز عن الرؤية الموضوعية، لأنه يرى الحق فى أى قضية طبقا لموقعه منها. نسبية الحق واضحة الآن فى مصر.. بينما يحاكم مرسى المعزول- عن حق- بتهمة إهانة القضاء، لأنه اتهم بعض القضاة بالتزوير فى خطاب علنى، نرى محاميا اشتهر ببذاءته يظهر فى الفضائيات فيوزع على الشخصيات العامة سيلا مقذعا من الاتهامات بالخيانة والعمالة والرشوة، لكن أحدا لا يحاسب هذا الشتام، لأنه مرضى عنه من السلطة الحالية. وبينما يحاسب قضاة من أجل مصر- عن حق- على ممارستهم السياسة، ما يتناقض مع حيدة القاضى المفترضة، نرى فريقا آخر من القضاة طالما أعلنوا عن آرائهم السياسية فى مؤتمرات صحفية عقدوها لهذا الغرض، ومع ذلك لم يحاسبهم أحد على ما فعلوه.. إن نسبية الحق تعطل الفكرة الديمقراطية التى تعتمد على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن علاقتهم بالسلطة.
خامساً: صناعة رمز الوطن
فى البلاد الديمقراطية يعتبر الناس رئيس الجمهورية موظفا عاما من حقهم وواجبهم أن يوسعوه نقدا وتوبيخا إذا أخطأ، وإذا لم ينصلح أداؤه فإن البرلمان يسحب الثقة منه ويطرده من منصبه. فى هذا الإطار هناك فى الغرب مئات البرامج الكوميدية التى تسخر من أداء كبار المسؤولين وأولهم رئيس الجمهورية الذى يتقبل دائما أن يكون مادة للدعابة، لأنه يدرك أن النقد الموجه إليه مهما يكن مؤلما أو جارحا الغرض منه أولا وأخيرا تحقيق الصالح العام وليس الإهانة الشخصية. أما فى مصر فإن التفكير القبلى يدفعنا إلى رفع الحاكم فوق مستوى البشر العاديين. الحاكم بالنسبة إلينا ليس موظفا عاما، وإنما هو والدنا الذى ننحنى لنقبل يده، ورمز الوطن الذى يعتبر نقده قلة أدب وربما خيانة. الدليل على ذلك ما يحدث مع الإعلامى الموهوب باسم يوسف، الذى اشتهر بتقديم صور كاريكاتورية تسخر من شخصيات عامة فى برنامجه الشهير الممتع (وإن كنت أتمنى أن يتخلص من التلميحات الجنسية التى تسىء إليه). خصص البرنامج حلقات كاملة للسخرية من الرئيس المعزول، وعندما اعترض أنصار الإخوان وقف الجميع لمساندة باسم يوسف دفاعا عن حرية التعبير، ثم ثار المصريون ضد مرسى وعزلوه وانحاز الجيش لإرادة الشعب، وعاد برنامج باسم يوسف ليستأنف طريقته المعتادة، فقدم بعض الدعابات ضد الفريق السيسى، هنا قامت الدنيا ولم تقعد، وتبرأت قناة «سى بى سى» من البرنامج الذى أنتجته، واعترض كثيرون على إطلاق الدعابات ضد الفريق السيسى لأنه قائد الأمة ورمز الوطن إلى آخر هذه العبارات التى قيلت نفاقا عن كل رؤساء مصر السابقين بلا استثناء.. الفريق السيسى أدى مهمة وطنية عظيمة، وجنب مصر الحرب الأهلية، وحمى إرادة الشعب. كل هذا صحيح، لكن الفريق السيسى يجب ألا يكون رمزا للوطن، لأن رمز الوطن الوحيد يجب أن يكون المواطن الذى أقيمت الدولة أساسا من أجل تحقيق مصالحه وحماية حقوقه.
السير ونستون تشرشل (1874- 1965) قاد بريطانيا إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية واستمد منه الإنجليز شجاعتهم فى أصعب الأوقات، وبالرغم من ذلك فقد سقط تشرشل العظيم فى أول انتخابات عامة أجريت بعد الحرب، أحب الإنجليز تشرشل واعتبروه بطلا قوميا، لكنهم لم يؤلفوا الأغانى فى حبه وتمجيده ولم يعتبروه رمزا للوطن، بل أسقطوه فى الانتخابات لأنهم اعتقدوا أن بريطانيا تحتاج بعد الحرب إلى سياسى آخر غير تشرشل، يحمل لها أفكارا جديدة وسياسات مبدعة مختلفة.. إن صناعة الفرعون، التى يتقنها للأسف بعض المصريين، هى المسؤولة عن كل الكوارث التى حاقت بنا.
كان عبدالناصر زعيما عظيما، لكننا صنعنا منه فرعونا فحاقت بنا هزيمة 1967 المنكرة، وصنعنا من السادات فرعونا فحدثت الثغرة فى حرب 1973 ووقعت مصر فى براثن الانفتاح الاقتصادى الذى ألقى بملايين المصريين فى هوة الفقر أو أجبرهم على الهجرة، ولولا أن صنع بعض المصريين من مبارك فرعونا لما ساد الفساد فى عهده، ولما استمر فى الحكم ثلاثين عاما بالقمع والتزوير، ولما جرؤ على محاولة توريث مصر لابنه وكأنها مزرعة دواجن.
إن الثورة ليست مجرد تغيير سياسى إنما هى بالأساس تغيير إنسانى يطرح نظرة جديدة للعالم ويعيد مناقشة كل المسلمات ليخرج برؤى جديدة تؤدى إلى التغييرات الجذرية فى كل المجالات. لن تنجز الثورة أى تغيير مادام الفكر القبلى موجودا فى أذهاننا، لأنه بحق يشكل غشاوة تمنع رؤيتنا للمستقبل. لن نتمكن من بناء الدولة الحديثة إلا إذا آمن المصريون بأنهم جميعا متساوون، وبأنه لا يوجد مسؤول فوق المحاسبة أو النقد الساخر، حتى لو كان الفريق السيسى نفسه.